بعد أن أقام الله منظومة فصل الخطاب, من اتفاق على الحكَم في سورة الزمر, وقواعد الادعاء والمجادلة في غافر, وتفاصيل الشهود والقرائن في فصّلت, وخصائص منصّة القضاء بالحق في الشورى, ثم في سورة الزخرف تحذير القضاة من كل اعتبار غير الحق, من مظاهر وأنساب وقوة ومال وأخلّاء وإبرام مشترك لأمر.
فما هي الخطوة التالية في فصل الخطاب؟
إن الذي لم يتجاوب مع كل ما سبق, بل خالفه وعارضه, فإن الله سبحانه يحذّره من ذلك في سورة الدخان, بذكر أهوال يوم القيامة, وذكر النًّذُر في الدنيا مما يغشى الناس.
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
وضمن تشريف الله لليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن, أنها فيها يُفرَق كل أمر حكيم. ,إنها لساعة مباركة, ينتصر فيها الحق ويفرح أهله, ويُخذل الباطل وتسودّ وجوه أهله, وترتاح فيها النفوس المتعبة المنتظرة فرج الله والفصل في الأمور والحسم.
ومن لا يرغب في أن يفرق كل أمر حكيم, بعد كل ما سبق من مراحل فصل الخطاب, وبالأسلوب الذي حدده الله, فإنه يخالف مسيرة الحضارة الإنسانية التي تنتصر للقيم والمبادئ وتعلو فيها حقوق الإنسان. وليس بعد ذلك من وسيلة إلا أن يرهبه الله بعذاب أليم في الدنيا, لعله يرجع إلى الحق وينضم للمسيرة, فإن فعل, فإن الله يكشف العذاب قليلا, ويتوعّده ويهدده بالعذاب يوم القيامة يوم يبطش الله البطشة الكبرى, وينتقم من المعاكسين للمسيرة بعد إيضاحها: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
وهكذا فعل الله بقوم فرعون, حيث أغرقهم, رغم ما كان لديهم من جنات وعيون, (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
ونجّى الله بني إسرائيل, من فرعون, الذي كان يمثل العذاب المهين لهم, بسبب علوّه وإسرافه, والذي يحاول أن يعلو على منهاج الله وشريعته, فيسبب للناس عذابا مهينا, فإن الله يتولاه بالإهلاك لينقذ الناس منه: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
والمثال الآخر على رفض منهاج الله وشريعته, هم قوم تبّع في سبأ حيث رفضوا حتى أن يمهّد الله لهم الطريق: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
ويحذّر الله من يوم الفصل, يحذّر من لا يعمل له حسابا, بأنه سيرجع إلى الله, حيث لا يغني مولى عن مولى شيئا, ولا هم يُنصرون: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
ويحذّر الله من مصير الأثيم يوم الفصل: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) , حيث لا ينفع الناس وضعهم في الدنيا عندما كانوا يشعرون أنهم في عزّة, وبأنهم من أكرم الناس, فيهينهم الله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
وعلى الجانب الآخر, يحفظ الله المتقين في مقام أمين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
وتختتم السورة بأن الله يترك الفرصة لعباده أن يصدّقوا بمنهاجه, ولا يمتنعوا عن تنفيذه, بل يظلون متذكرين: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)