في سبيل بناء الإخلاص, يحتاج الإنسان إلى أن يتحول الإخلاص من فكرة إيمانية نقية, إلى حركة فعلية, إلى إنسان مخلص, إلى منظومة إخلاص كاملة وحقيقية. وسورة الضحى يعطي الله فيها المثل الأعلى, ويعطي الأسوة الحسنة للإخلاص, فلله المثل الأعلى سبحانه, ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة. من هنا يأتي تطبيق عملي على نفس المبادئ التي يدعو الناس إليها.
إن الله جل شأنه , يبين أنه مثلما يأتي الضحى بعد فجر, ثم يأتي الليل بظلامه, فإن الله ما ودّع رسوله وماقلى, بل إن تأخر الوحي, فإن الله يشوقه إليه , حتى يساعده الشوق على تحمّل مشاق التكليف بالدعوة , ثم بعد ذلك يطلع الصبح.
وَالضُّحَى(1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3)
وكما نصح الناس بأن الآخرة خير وأبقى, فهو يوجه نفس النصيحة لرسوله (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الْأُولَى(4)) ويتعهد الله له – وهو الغنيّ- بأن يعطيه فيرضى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5). وعطاء الله في الدنيا وفي الآخرة, إلا أن المؤمن المخلص يهتم بعطاء الله في الآخرة التي هي خير من الأولى.
والإسلام مبني على الأسوة الحسنة , فلابد للداعية أن يكون أسبق الناس لما يدعو إليه .
إن فاقد الشيء لا يعطيه, يقول الله سبحانه: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) ويقول جل وعلا: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)
فكما أن الله انتقد من لا يكرمون اليتيم, ولا يحاضون على طعام المسكين, فهو سبحانه له المثل الأعلى- يكرم اليتيم ويهدي الضال, ويُغني العائل: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى(6)وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى(7)وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(8)
والله يأمر رسوله بما أمر الناس به, وبما فعله الله جلّ شأنه: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9)وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10)
إن آفة أي دعوة في الدين أو في الدنيا, في الاقتصاد أو في السياسة أو في أي مجال, أن صاحب الدعوة يطبق النظام والدعوة على أي إنسان إلا على نفسه, فالشيوعية جاءت بفكر من كل حسب طاقته, وإلى كل حسب حاجته, إلا أننا كنا نرى أكثر المتحمسين للشيوعية يتنعم بالرفاهية وبأنفس السلع وأفخم البيوت والسيارات ويحرم عامة الناس من ضروراتهم, ونجد من ينادي بالديمقراطية والحرية يكيل بمكيالين, فيطبق هذه المبادئ على الشعوب المقهورة, ويقيم دعاوى حقوق الإنسان عليها, ثم هو يغض الطرف عن الأقوياء, وعن الأصدقاء, ينادي بالحرية ولكنه ينفذ القهر والاحتلال, وبهذا فإنه يكون أسوأ مثل لمن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
لكن الذي أمامنا في دعوة الحق سبحانه أنه يأوي اليتيم, ويجيب السائل ويأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك, ويأمر الناس بنفس الأمر, فتكون منظومة متكاملة من الإخلاص ومن المصداقية
ثم هو يتوجه إلى الناس بدعوة الحق التي أنعم الله بها عليه وعليهم (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)) الضحى
فلله المثل الأعلى, ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة والقدوة للدعاة وللأئمة ,فهو يؤدي البيان العملي والتطبيق على النفس أولا.
وكما بين سبحانه في الفجر أن تنعيم الله للإنسان ليس في زيادة المال والمتاع, ولكن في التيسير لليسرى والخير وصالح الأعمال, فإنه يأمر رسوله عليه الصلاة والسلام بالتحدث بنعمة ربّه, لكي يعلّم الله به الناس عن ما هي نعمة ربّه. وهو ليس بنعمة ربّه بمجنون, كما قال ربّه له في سورة القلم.
وفي نفس الموضوع , تحدثت سورة ن والقلم , في قصة أصحاب الجنة , وفيها إنذار لمن منع صدقة وهو قادر عليها , فيلقى عذاب الله بالحرمان من كل ماله الذي كانت الصدقة جزءا منه, تطهره وتزكيه. وذلك ترهيب, بعد ترغيب بالعطاء وإيتاء المال يتزكّى , ثم لوم لمن لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين. وكل ذلك تأكيد على البُعد الأخلاقي للدين والمصداقية للإيمان.
وهنا تكتمل مرحلة وضع الأساس لبناء قواعد الإخلاص الذي هو العقيدة والدين للمؤمنين, وفي هذه القواعد نجد أن:
- البعث حق.
- بعد البعث سؤال وحساب.
- نتيجة الحساب إما جنة وإما جحيم.
- ناقل مدلولات هذا القول هو رسول كريم, مكين أمين.
- مبلّغ هذا هو رسول الله, الصادق الأمين, غير مجنون ولا ضنين ,ولا يهيئ الشيطان له القول.
- هذا ذكر للعالمين, متاح لكل العالمين , يستفيد منه من شاء أن يستقيم.
- منزّل هذا الذكر هو رب العالمين.
- المقارنة بين الآخرة والأولى , وتفضيل الآخرة ,
- بدء البناء فيها بالعطاء لوجه الله, والتقوى, والإخلاص في العطاء بهدف التزكّي , سعيا للرضى فيها.
- ثم تطبيقات عملية على العطاء , الذي يبرهن على الإيمان بالآخرة , فيكون العطاء للضعفاء من المجتمع مثل اليتامى والمساكين , وهو عطاء يتمكن منه كل إنسان مهما كانت إمكانياته , فهو إكرام لليتيم , بالمعاملة , والحض على طعام المسكين, وهو في استطاعة كل إنسان , غنيا كان أو فقيرا.
- وأن مظاهر الإكرام في الحياة لاتدل على أن الله يكرم صاحبها , لكن الإكرام الحقيقي في الآخرة , بل هي الحياة ,(يقول ياليتني قدمت لحياتي). ومن لم يقدّم لها يعذب , أما من قدّم لها فنفسه مطمئنة , راضية مرضية , تدخل في عباد الله , وتدخل جنته.
- ثم نفس التطبيقات يبدأ بها الداعية , كأسوة حسنة , وقدوة لمن يدعوهم , ومصداقية ومطابقة الفعل للقول.
- ويضرب الله المثل الأعلى في إيواء اليتيم والهداية وإغناء العائل المحتاج.
- ويأمر الله رسوله بما يأمر به الناس, وينهاه عما ينهى الناس,
- ثم بعد ذلك يأمره بالتحدث بنعمة ربّه.