{ ولقد آتينا داوود وسليمان علما , وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين}(النمل 15)
بدأت قصة سليمان فى آيات سورة النمل بإعلان الله عن نعمة من نعمه , منّ بها على داوود وسليمان عليه السلام , وهى نعمة العلم .. إن الله قد منّ عليهما بأمور كثيرة , بدءاً من الحياة نفسها , إلى الإيمان , والرزق , والملك , والحُكم ,والحكمة , وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
ولكنه فى هذه الآية يذكر العلم بالذات .
إذن نتوقع أن يحدثنا الله عن هذه النعمة ,وعن آثارها , وأداء حق الله فيها.
شعر داوود وسليمان بالفضل والمنة،..{وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين}.
والحمد قول يقوله الإنسان اعترافا بفضل من أفضال الله عليه , فيذكر الفضل مع الحمد . ولذا تجد فى كتاب الله : ( الحمد لله الذى هدانا لهذا) (الأعراف 43)
( الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا )(الكهف 1)
( الحمد لله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض)(سبأ 1)
… دائما تجد الحمد لله الذى …. أى تبرير للحمد.
وفى هذه الآية يبرر داوود وسليمان سبب الحمد , بالفضل الذى منَّ الله به عليهما , وهو العلم , وهو الفضل الذى ميَّزهما به الله على كثير من عباده المؤمنين.
فما هو هذا العلم؟ وما فائدته ؟
منطق الطير:
{وورث سليمان داوود , وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هذا لهو الفضل المبين {(النمل 16)
ورثه فى الملك ، فصار ملِكا من بعده وهو يبلغ الناس بالمزيد من الفضل الذى تفضل الله به عليه, إنه علم منطق الطير , وهو تخصيص للعلم العام الذى آتاه الله لداوود وسليمان .
إن الله فى هذه الآية يعلمنا أن للطير منطقا , وأن بعض الناس يمكن أن يتعلمه , فإن فعل فإنَّ هذا لهو الفضل المبين من الله .
معنى الطير:
الطاء والياء والراء : أصل واحد يدل على خفة الشىء فى الهواء , ثم يستعار ذلك فى غيره وفى كل سرعة , ومن ذلك الطير: جمع طائر,
ويقال تطاير الشىء : أى تفرَّق,
وفى القرآن ” ويخافون يوما كان شره مستطيرا” , أى منتشرا,
وطائر الإنسان عمله ,
والطيِْرة الغضب , لأنه يستطار له الإنسان
والطير متميز فىكل خلق الله ، بأنه المخلوق الذى لا تحده الجغرافيا من جبال وصحراء وبحار وثلوج , كما لاتحده مسافات ، فهو يصل من مكان إلى مكان مهما بعُد، فى أيام أو أسابيع , حيث يطير وينقضّ بسرعات تصل فى بعض الأنواع إلى 320 كيلومترا فى الساعة .
وطيرانه فى السماء يعطيه درجات من حرية الحركة أكثر من أى كائن آخر, فهو يتحرك فى الأبعاد الثلاثة , فى الوقت الذى تتحرك فيه الكائنات الأخرى فى بعدين فقط .
وبالتالى فإن الطير يحلق فى السماء إلى ارتفاعات شاهقة ، إلى قمم الجبال، وانخفاضا إلى قاع الوديان ، عبر البحار والصحارى، يتحمل برودة القطبين ، وحرارة خط الاستواء.
وارتفاعه عن سطح الأرض يمكّنه أن يرى مساحات شاسعة بنظرة واحدة ، فهو يرى المسقط الأفقى للأرض وماعليها ، فى حين ترى المخلوقات التى تدب على الأرض المسقط الرأسى لها فقط ، فنسبة رؤية الطير من الأرض مثل نسبة رؤية دواب الأرض من السماء.
ونظرة الطير ثاقبة , فترى البومة فأرا صغيرا وسط حقول أو صخور, ويرى الصقر أسماكا تحت سطح الماء.
ولقد احتفى القرآن بالطير :-
.. فكان هو البرهان لإبراهيم عليه السلام , على كيفية إحياء الله للموتى – ( البقرة 260)
.. كما كان من براهين الله على نبوة عيسى – عليه السلام – حيث كان يخلق لقومه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله (آل عمران 49 ) و ( المائدة 110).
.. كما كان الطير جزءا من تأويل يوسف – عليه السلام – لرؤية أحد الفتيين فى السجن , حيث رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه , فأوَّلها يوسف له بأنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه (يوسف 36 و41) .
.. كما سخره الله يسبِّح ويُأوِّب مع داوود (الأنبياء 79 وسبأ 10 وص 19
كما كان تعلُّم منطقه , من العلم والفضل المبين الذى تفضَّل الله به على سليمان عليه السلام , وكان ضمن جنود سليمان , التى حُشرت مع الجن والإنس والطير فهم يوزعون (النمل 16 و17 ) .
وهو يخطف من يخرُّ من السماء , وقد ضرب الله بذلك مثلا لمن يشرك بالله , فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق (الحج 31 ) .
وقد خصَّه الله بالتسبيح له سبحانه بعد أن ذكر تسبيح الخلق عامَّة ,كلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه ( النور 41 ) .
.. والطير المسخرات فى جو السماء , مايمسكهن إلا الله , جعل فيها الله آيات لقوم يؤمنون ( النحل 79 ) .
.. وصفّ الطير لجناحيه , وقبضه , ما يمسكهنَّ إلا الرحمَن , من الآيات التى لفت الله انتباهنا لها , والتى هى من الأمور التى يسرح الفكر والبصر فيها كيف يتحرك الطير بانسيابية كاملة فى أى اتجاه يريده ,وبارتفاع وانخفاض كما يشاء وهو صاف جناحيه فى جو السماء , دون اعتماد على اتجاه الهواء ولا على قوة محركات , وتعلم الإنسان منها قوانين الطيران , وحاكاها فى صناعة الطائرات ( الملك 19 ) .
كما أن لحم الطير مما يشتهيه أهل الجنَّة فى نعيمهم , ضمن ما يمُنُّ الله عليهم من نعمه فيها ( الواقعة 21 ) .
.. والطير الأبابيل , من الجنود التى أرسلها الله على أصحاب الفيل , ترميهم بحجارة من سجِّيل , فجعلهم كعصفٍ مأكول ( الفيل ) .
وخصَّ الله طائرا يطير بجناحيه , مع دوابّ الأرض , بأنهم أمم أمثالنا , ما فرَّط الله فى الكتاب من شىء , ثم إلى ربهم يحشرون ( الأنعام 38 ) .
وقد كان أحد الطيور – وهو الغراب – معلّما للإنسان , حين بعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليرى ابن آدم كيف يوارى سوأة أخيه بعد أن سولت له نفسه قتل أخيه فقتله , ثم تأسّف على عجزه أن يكون مثل هذا الغراب (من الآية 31 سورة المائدة ).
وميّز الله سبحانه الطيور التى يعلمها الإنسان الصيد, بأن أحل ما تصطاده , حتى ولو وصل إلينا ميتا أو أكلت هى منه, وكان تعلّمها على يد الإنسان مدعاة لأن نعتها الله بضمير العاقل فقال” قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه”(المائدة 4). والجوارح هى الكلاب والطيور التى تستعمل فى الصيد , وهى تساعد الإنسان على الجرح , أى الكسب.
وعن الحشرات الطائرة , ذكر الله أن الذين يدعوهم الكافرون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له, وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه, ضعف الطالب والمطلوب (الحج73)
كما بين القرآن أن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما , بعوضة فما فوقها , وهو مثل يضل الله به كثيرا ويهدى به كثيرا , وما يضل به إلا الفاسقين(فى سورة البقرة )
… الطير كائن مسبِّح , وآيات , ودعوة للإيمان , ومعلِّم , وجنود , ومن النعيم فى طعام أهل الجنَّة , وأمم أمثالنا. ومثل يبتلى الله به الناس
والطير بصفته {أمم أمثالُكم } وبصفته يسبّح لله ويسجد له ،فإن نظرته ستكون من هذا المنطلق ، ورؤيته تصبح ذات أهمية قصوى للإنسان , لو تعلم لغته, واستطاع التعامل معه.
إذن : فتعلم منطق الطير ، قد يؤدى إلى حوار معه ، وعلاقات مع مخلوق لايعصى الله ، ويرى ما لا نرى ، ويصل إلى ما لانصل إليه ، فيؤدى ذلك إلى استحداث جهاز إعلامى عالمى ، ذكى ، يجىء بالأنباء ، ويذهب بها ، أفضل مما تفعل طائرات التجسس والأقمار الصناعية ، التى تنقل صورا فقط ، أما الطير فإنه يمكن أن ينقل رؤيته العاقلة المؤمنة, كما أنه يعلق عليها من وجهة نظره.
أعلن الله على لسان سليمان- عليه السلام – أن الطير له منطق ، وأن بعض البشر يمكن أن يعلمهم الله هذا المنطق .
فما فائدة ذلك ؟ هل هى مجرد حكايات نتبادلها , ونحكيها لأبنائنا قبل النوم ؟ حاشا لله !
من المؤكد أن الله سبحانه يريد أن يعرفنا ما الذى حدث لسليمان منذ آلاف السنين , لفوائد تعود علينا فى حياتنا إلى يوم القيامة .
إن أسرارالقرآن لا تقف عند ما رآه المفسرون منذ زمن بعيد بما توافر لهم من أدوات, ولكن اكتشافات العلم الحديث وتجارب البشرية فى كل عصر, لا بد أن تزيد من قدرتنا على فهم تلك الآيات , حين نعيد قراءتها فى كل حين.
لقد تلا إعلان الله عن منطق الطير ، الإعلان عن تطبيقات لفوائد هذا العلم , لصالح الناس والدعوة إلى الله.
إننى أعتقد أن آيات الله – وفوق كل ما سبق – إشارات للإنسان ، وإيحاءات له ، يبلغه الله فيها أن للطير منطقا ، وأنه لايوجد مايمنع من محاولة التعرف عليه , والاستفادة من وراء ذلك فى عمارة الدنيا , والدفاع عن دين الله ، أمام منكرين له ومتخذين من دونه أولياء ، وجاعلين له أندادا ليضلوا عن سبيله.
إن الله يعلن بهذه الآيات ، أن واحدا من بنى آدم قد تعلم منطق الطير منذ آلاف السنين على سبيل المعجزة والخوراق للعادات ، وثبت هذا فى كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , تكفّل الله بحفظه ، فإذا ما تطورت البشرية بالقدر الكافى بإمكانيات جعلها الله لها ، فإنها يمكن أن تجعل هذه الإمكانيات متاحة لكل البشر ، فيتغير شكل الدنيا تماما، { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }(البقرة 255)
فهل هناك ما يمنع فنيا من أن نقوم بتسجيل الألحان المختلفة التى يصدرها البلبل فى الصباح الباكر , حين يغنى منفردا كل يوم , فنحصى مقاطع الألحان عددا , ونوعا , وتكرارا , وشكل النغمات فيها من السلم الموسيقى
.. ثم نعيد إذاعتها من خلال أنظمة تحليل الصوت ، فتظهر فى شكل موجات لها أشكال مميزة مصاحبة للأصوات ،
ثم نتوقع ما الذى يمكن أن يقوله البلبل فى هذا الوقت المبكّر ، إنه غالبا سيقول منطقا مرتبطا ببدايات النهار ، فأظنه يردد أول ما يردد (لا إله إلا الله) فى أربعة مقاطع ,يكررها مرارا , ثم يسبّح بحمد ربه ويستغفره ، ثم ينادى على أمّته من البلابل والطيور.
ثم نكرر هذا فى أوقات أخرى وظروف أخرى، حين يشرب , حين يخاف , حين يأكل , قبل النوم , وهكذا ..ثم نقارن بينها .
وإن استمرت تسجيلاتنا فى أحوال متعددة ورصدنا العلاقة بين النغمات المسموعة وأشكالها المرئية على الحاسب وأجهزة التحليل الصوتى ، فإنه لن يمر وقت طويل حتى نكون قد توصلنا إلى ( حجر رشيد ) لمنطق الطير.
وربما يكون منطق الطير , هو منطق واحد يجمع بين الطير كله , على اختلاف أنواعه ، وعلى اختلاف أماكنه, حيث يلتقى بكل أنواعه فى أى مكان من الأرض . أى أن العصفور يمكن أن يتفاهم مع عصفور ، كما يتفاهم مع حمامة وهُدهُد وغراب ، كما أن السمّان الأوربى يتواصل مع الببْغاء الإفريقى، حيث قد جمع الله منطقه فى كلمة واحدة {منطق الطير}.
ومن رحمة الله بالناس , أن جعل للطير منطقا يعبر عن لغته بصوت مسموع , وله موسيقى جميلة لطيفة , يطرب لها الناس , ولا ينزعجون , بل ويتعلمون منها الموسيقى وآلاتها. ولم يجعل ذلك لكل الحيوانات والحشرات, فلكل منها لغته الخاصة , ولكنها ليست دائما بمنطق , فالحمار لا يتفاهم مع حمار مثله بالنهيق , بل هو ينهق فى القليل النادر , وربما يكون تفاهمه بحركات , أو موجات أو نظرات .
.. وكذلك الكلب والقط والبقر والغنم ..
فنحن نلاحظ أصوات العصافير والبلابل تغنى منذ مطلع الفجر إلى غروب الشمس دون توقف . كما نلاحظ تفاهمها وحواراتها الليلية حين يتعرض بعضها إلى هجوم لبومة أو عرسة أو قطة .
ولكننا لا نلاحظ كثرة أصوات الحيوانات كالحمار والبقرة والكلب .. وإلا لكانت الدنيا مزعجة لا راحة فيها , فالحمد لله على هذه النعمة, والحمد لله على كل نعمة عرفناها أو لم نعرفها.
لقد شعر سليمان بفضل الله المبين , وحدَّث الناس بنعمة ربِّه , وقال ” إنّ هذا لهو الفضل المبين”.
جنود سليمان:
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون ) (النمل 17)
…بعد أن أعلن سليمان عليه السلام عن إمكانية تعلم منطق الطير , وأن هذا هو الفضل المبين لله على عباده , بيّن الله أن المسألة لم تكن مجرد إمكانية لسليمان , فلا يستفاد بها , وإنّما مكّنه هذا العلم من تجنيد الطير , جنبا إلى جنب مع جنوده من الجن والإنس فهم يوزعون , أى يجمعون أولهم وآخرهم , ويوقفون بأمره , فلايخرج أحد منهم عن طاعته , وإلا فله عقاب أليم .
هل تسرح بخيالك فى هذا الأمر ؟ لو أنك تعلمت منطق الطير , واستطعت التفاهم معه , ثم جندته , ولديه هذه الإمكانيات وحرية الحركة , ما الذى يمكنك أن تفعله؟
بعد قليل ستتعرف على بعض هذه النتائج !!