وعلى الجانب الآخر من القيادة, تأتي قيادة الشرّ. قيادة الطاغين
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ(55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ(56)هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ(57)وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ(58)
طَغَى يَطْغَى طَغْياً و يَطْغُو طُغْياناً: جاوَزَ القَدْرَ، وارْتَفَعَ، وغَلا في الكُفْرِ، وأسْرَفَ في المَعاصِي والظُّلْمِ[القاموس المحيط]
وكلُّ شيءٍ جاوز القَدْرَ فَقَد طَغَى كما طَغَى الـماءُ علـى قومِ نوحٍ، وكما طَغَتِ الصيحةُ علـى ثمودَ[ابن فارس]
وكلُّ مـجاوز حدَّه فـي العِصْيانِ طَاغٍ.[لسان العرب]
فالطاغون إذن هم الذين لديهم قوة أو سلطة أو جاه أو علم أو مال, ويستخدمونها فيما لا يحلّ لهم, متجاوزين الحدود إلى المعاصي, لا يراعون حق الله ولا حق الناس فيما وهبهم الله من النعم والتميّز.
في أول سورة في النزول, سورة العلَق, وفور تعريف الله نفسه لرسوله, ذكر الآفة الكبرى في الإنسان, إنها الطغيان, كلا إن الإنسان ليطغى, وذكر سبب الطغيان: أن رآه استغنى, كما ذكر علاج هذه الآفة: إن إلى ربك الرجعى. وقد فصلت ذلك في تدبُّر السورة.
ويإيجاز, فإن الإنسان حين يرى أنه استغنى, فإنه يتجاوز الحدود إلى الاعتداء على الحقوق, وأولها حق الله. فيكفر, ويعصي, بل ويسرف في المعاصي والظلم, فهو قد رأى نفسه استغنى عن الله, واستغنى عن الناس.
فصاحب السلطة والقوة والجاه, يرى نفسه استغنى بسلطته وقوته وجاهه, ولا يخشى أحدا, فهو يطغى ويتجاوز الحدود ويعتدي. وصاحب المال يرى نفسه استغنى بماله, ويتعالى على الناس به. وصاحب العلم أيضا, يرى نفسه استغنى بعلمه, وكل صاحب مظهر من مظاهر القوة والتميز, يدعوه ما وهبه الله من قوة إلى الطغيان, وهذا باب من أبواب الشيطان ومدخل خطير من مداخله على ابن آدم, يستدرجه منه إلى المعصية, وسوء استغلال النعمة, والتكبر بها على خلق الله. أن رآه استغنى.
وفي السورة الثانية بترتيب النزول, سورة القلم, بين الله طغيان أصحاب المال, في قصة أصحاب الجنة, إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين, ولا يستثنون, بعد أن كان أبوهم ينفق ثلث ريعها ع
وفي سورة الفجر, بين الله طغيان السلطة والحكام, في فرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد* فأكثروا فيها الفساد*
وفي سورة الشمس, بين الله كيف كذّبت ثمود بطغواها, حين قال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها* فكذبوه فعقروها. فأهلكوا بالطاغية
وفي سورة النجم, بين الله أن البصر يمكن أن يزيغ بالانصراف عما يجب أن ينظر إليه, كما أنه يمكن أن يطغى بتجاوزه حدود الله بالامتداد إلى ما حرم الله, ومازاغ البصر لرسول الله وما طغى.
كما بين أن قوم نوح كانوا هم أظلم وأطغى. حيث تجاوزوا في تكذيب رسول الله نوح, بأن كان الأب يأخذ بيد ابنه وينطلق به إلى نوح فيقول له: احذر هذا فإنه كذاب, وقد مشى بي أبي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك, فيموت الكبير على الكفر, وينشأ الصغير على وصية أبيه.[القرطبي]
وفي سورة ق, يتبرأ القرين من قرينه, فيقول: ربنا ما أطغيته, ولكن كان في ضلال بعيد. يبين مساعدة القرين لقرينه على الطغيان وتشجيعه على تجاوز الحدود إلى العصيان.
ويبين الله في سورة طه, الطغيان في الأكل والشرب, فيقول: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي, ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى. وهو الإسراف فيه ومنع حق الله فيه بالزكاة والصدقة, وبالكفر بنعمة الله, وإنكارها وعدم شكر الله عليها.
ويبين الله في سورة الكهف, طغيان عقوق الوالدين, وأما الغلام فكان أبواه مؤمنَيْن فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا.
ولقد حذر الله الناس أجمعين من تجاوز الحد في طاعة القادة وأصحاب السلطة والقوة بكل صورها, فيطيعونهم في معصية الله فقال في سورة النحل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) والطاغوت, المعبودات الباطلة
كما حذر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم, ومن تاب معه من أمته, فقال في سورة هود:
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)
وهذه الآية شيبت رسول الله عليه الصلاة والسلام, فكانت من أشد ما نزل عليه وقال شيبتني هود.
ويبين الله طغيان التشريع, بعدم إقامة التشريع الذي أمر الله به, والتجاوز إلى تشريعات تخالف أمره سبحانه, فقال في سورة المائدة محذرا أهل الكتاب, ومحذرا المسلمين والناس أجمعين: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(68)
كما يقول في سورة النساء محذرا من طغيان القضاء والتشريع لمن يزعمون أنهم آمنوا: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)
وفـي حديث وَهْبٍ: إِنَّ لِلْعِلْـم طُغْياناً كطُغْيانِ الـمَالِ أَي يَحْمِل صاحِبَه علـى التَّرَخُّص بما اشْتَبَه منه إِلـى ما لا يَحِلُّ له، ويَتَرَفَّع به علـى مَنْ دُونَه، ولا يُعْطي حَقَّه بالعَمَلِ به كما يَفْعَلُ رَبُّ الـمالِ.
كل هذه أمثلة للطغيان والطاغين, نسأل الله السلامة.
وحقا إن الطاغين أكثر الناس تأثيرا في فساد الأرض. ولهذا فلهم شر مآب.
ولهذا فإنني أصدق على قول القائل: لو علمت أن لي عند الله دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان, لأن بصلاحه يصلح شأن الخلق والناس.(منسوبة إلى الحسن البصري من أئمة التابعين رضي الله عنهم أجمعين)
(هذا فليذوقوه حميم وغساق) أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم ولهذا قال عز وجل “وآخر من شكله أزواج” أي وأشياء من هذا القبيل: أشكال متعددة من العذاب بالضدين.
وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال “لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا”
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(59)
قال ابن عباس: هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع, قالت الخزنة للقادة: “هذا فوج” يعني الأتباع والفوج الجماعة “مقتحم معكم” أي داخل النار معكم; فقالت السادة: “لا مرحبا بهم” [القرطبي]
إن الطغاة أهلكوا أتباعهم, لعنة الله على الطغاة. إنهم يحتقرون أتباعهم حتى وهم مقتحمون النار, فهم لا يرحبون بهم في النار. وكأنهم لا يرغبون في دخولهم معهم النار ويزدرونهم كما كانوا يفعلون في الدنيا, هم فقط لا يرحبون بهم في النار معهم, ومع ذلك فهم لا يتمنون لهم الجنة بل يقولون إنهم صالوا النار. فيرد الأتباع:
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ(60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ(61)
لقد قدم الطغاة عذاب النار لتابعيهم, وهاهم اليوم يتخاصمون في النار. وكل من الفوجين لا يرحب بالفوج الآخر, ويستعدي الله عليه, ويطلب له عذابا ضعفا في النار.
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الْأَشْرَارِ(62)
لقد وصفوا بعضا من أهل المؤمنين في الدنيا بأنهم من الأشرار, فهم اليوم يتعجبون لأنهم لا يرونهم في النار معهم, ويتساءلون: أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ(63)
هل كانوا يسخرون منهم في الدنيا بإعتبارهم من الأشرار؟ أم أنهم في النار معهم ولكن زاغت عنهم الأبصار؟
لى الفقراء والمساكين, وثلث ريعها على صيانتها, والثلث يأخذه لنفسه ولأهله, وبعد أن طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون, وفأصبحت كالصريم, قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين.
إن هذه الصورة للطاغين وأتباعهم يوم الحساب, تؤكد مسئولية القادة عن أنفسهم, وعن أتباعهم, فالأتباع هم الذين يدعون على القادة بالعذاب الضعف في النار. ولم يجرؤ القادة على مثل ذلك لعلمهم أنهم هم السبب في هذا الموثقف المخزي لأنفسهم ولأتباعهم. (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ(64))
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(65)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(66)
إن الله سبحانه يذكر اسميه (الواحد القهار) في مواجهة القادة , قادة الأمم والفكر والرأي والمال, فهو جل شأنه الواحد, لا شريك له, ويناسب هؤلاء اسم الواحد القهار ليذكرهم بقدرته على قهرهم, وهم يظنون أنهم هم الذين يقهرون الناس. وهو أيضا, الذي يملك السموات والأرض وما بينهما العزيز الذي يملك أسباب الغلبة والقهر, ومع ذلك فهو الغفار, فما زالت أمامهم فرصة للاستغفار والإياب إلى الله ليغفر لهم ويضمهم إلى القادة المؤمنين المتقين الذين لهم حسن مآب.
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67)أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ(68)مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ(69)إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(70)
والقائد العام للطغيان هو إبليس عليه لعنات الله, فهو أس كل طغيان, وأول المستكبرين والعاصين, ويتبعه كل طاغية, فيملأ الله جهنم منه وممن تبعه منهم أجمعين.
وسبب طغيانه وعصيانه, إما الاستكبار, أو محاولة العلو على خلق الله, والاستكبار هو من أعظم ما يعصى الله به, فهو السبب في طرد إبليس عليه لعنة الله من رحمة الله سبحانه, نسأل الله أن يعيذنا من شر الشيطان الرجيم
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73)إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ(74)قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ(75)قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(76)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(77)وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(78)قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79)قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(80)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(83)قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ(84)لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ(85)
وحيث أن السورة تتحدث عن القادة وصفاتهم, فهي تحذر من طغيانهم, وتحذر من اتباع الطغاة, ويفرق الله بين الطغاة وتابعيهم بذكره وقصّه ما سوف يحدث في الآخرة, بحيث لو سمعه العاقل, فإنه يبتعد فيي الدنيا عن كل ما يقربه منه يوم القيامة. فيعادي الطغاة تابعيهم الذين سيستعدون الله عليهم, ويعادي التابعون هؤلاء الطغاة الذين لن يرحبوا باقتحامهم النار معهم, وفي نفس الوقت يشمتون في أنهم صالوا النار.
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ(86)إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)
إن ختام السورة بقول الله سبحانه: (ولتعلمن نبأه بعد حين) يؤكد فائدة تتبع سور القرآن الكريم بترتيب نزولها الذي وصل إلينا من كتب علوم القرآن, (وفيه اختلافات طفيفة) حيث أنه بعد نزول سورة ص, نزلت سورة الأعراف,وفيها تفاصيل أكثر عن نبأ عصيان إبليس, ومحاولته إغواء آدم عليه السلام وزوجه, ففهمت من ذلك, والله أعلم, أن كلمة ولتعلمن نبأه بعد حين في آخر ص, يبينها الله في فواتح سورة الأعراف التالية لها, والله أعلم