وحيث أن الدعوة لا تقتصر على دعوة للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, ولكنها تمتد إلى جعل أمر الله حاكما للناس بالحق, فإن هذا الحكم لا بد من الإعداد له , ومن تأهيل من يقوم به بأمر الله…
فيتوجه الله بآياته إلى رسوله عليه الصلاة والسلام, ويبدأ في تأهيله للخلافة ولحكم الناس بأمر الله, فيذكر له قصص رسله وأنبيائه الذين آتاهم الله الملك والحكمة وفصل الخطاب, والذين آتاهم المال وأسباب الثراء, وما كان من ممارساتهم من أخطاء عالجها الله, وبيّن القصور فيها حتى يجنب رسوله الخاتم وأمته الوقوع فيها, وحتى يضع لهم قواعد السلطة وأصول الحكم وفصل الخطاب بالقضاء في الدولة, وبالقوة العسكرية والسياسية مع سائر الدول. ويحفظ كل ذلك في القرآن ذي الذكر, فيرجع إليه كل مؤمن في كل زمان ومكان ليستمد منه تلك القواعد والأصول. فمن غير الله, علّم الإنسان العدل وأصول الحكم؟
فهذا داوود ذو الأيد. (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)
إن الذي يستخلفه الله في الأرض, لابد أن يكون ذا أيد فيها, ذا قوة في الحق, فيؤدي من الأعمال الصالحة ويحقق مصالح الناس, ويعمر الأرض بأمر ربه.
ومن قوّته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفرّ إذا لاقى العدّو
كما أنه لابد أن يكون أوابا, والأوابّ: الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، التائب إلى الله, ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه . فيؤوب إلى الله في كل حين وفي كل شيء.
إن كل مؤمن يجب عليه أن يكون أوابا, يرجع إلى ربه… وإنما تتأكد ضرورة هذه الصفة في الخليفة وفي القيادات العليا وفي صاحب المال الوفير, وصاحب النعمة الواسعة, حيث الفرصة للمخالفة واستغلال السلطة كبيرة واسعة, وإن لم يكن القائد أو الملك أو الرئيس أو الوزير أو رئيس الشركة, أو المدير, إن لم يكونوا أوابين يراجعون تصرفاتهم على شريعة الله وما يرضيه, وإن لم يرجعوا عن ارتكابهم المعاصي والمخالفات , إن لم يؤدوا ما عليهم من واجبات والتزامات, فإنهم سيفسدون في الأرض ولا يصلحون, ويرتكبون المعاصي التي تضر بالمجتمع كله من واقع مراكزهم القيادية. فمن فوق الخليفة والحاكم إلا الله؟ ومن سيراجعه في أعماله وأحكامه واستخدام سلطاته؟ وهل لو راجعه أحد سيرجع عن خطئه؟ أم أنه سيحاول التنصل والتأثير على مراجعيه أو البطش بهم بما أوتي من صلاحيات؟
ومهما كانت هناك أنظمة للمراجعة, فالحاكم لن يعدم وسائل يتنصل بها من المراقبة, ويحاول بها أن يفعل ما يشاء. فالمراجعة على السلطات العليا لا تكون بمستوى المراجعة لما دونها من مراكز ومواقع للعمل, وإخفاء الحقائق يسير, والنفاق والتبرير والمجاملات تغطي على الكثير من المخالفات, إذن فلابد من لزوم القيادات العليا بالأوبة والرجوع إلى الله, والمراجعة مباشرة مع الله , وقياس الأداء والتقصير على شريعته سبحانه.
أما إن كان الحاكم أوابا, فإنه إلى جوار المراقبة العامة من الأنظمة والأجهزة الرقابية, فإن لديه مراقبة الله في نفسه وفي أعماله , ويكون لديه القدرة والشجاعة للاعتراف بخطئه والرجوع عنه أوابا إلى الله , فلا يجادل في الحق بعد ما تبين , ولا يحاول أن يخفي خطئا أو أن يتستر على مخطئ. وهذه أولى الصفات التي يجب توافرها فيمن يستخلفه الله في الأرض, أن يكون عبدا لله, أي طائعا له فيما أمر ومنتهيا عما نهاه, ثم يكون ذا أيد , ويكون أوابا.
كما أن الموضع في الخلافة وفي الغنى, يدعو إلى نسيان ذكر الله والالتهاء بالنعمة, وبالتالي يطغى الحاكم ويطغى صاحب النعمة, إلا الأوابين الذين يرجعون إلى الله في كل شئونهم وفي كل أوقاتهم وأحوالهم , وبذلك فإن الخلافة والسلطة والنعمة لا تطغيهم .
وما ينطبق على الخليفة في السطان والحكم والسياسة, ينطبق أيضا على من استخلفه الله على مال وعلى نعمة وعلى إدارة الناس .
فإن كان هذا الحاكم أو المستخلف على نعمة الله وأرض الله وعباد الله, إن كان يعلم أنه خليفة لله , فإنه يطيع من يستخلفه ويسير على أمره وهداه, فيأتمر بأمره وينتهي عما نهاه, ولا يأتي من عنده بشيء يخالف ما شرعه الذي استخلفه.
عندئذ, يسخر الله معه الجبال والطير, فيحكم الناس وهو متوافق مع الكون الذي يحيط به, فالكل يسبح بحمد ربه (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19) حين يؤوب الخليفة إلى ربه بالعشيّ بعد أن يمارس حكم الناس, وبالإشراق قبل أن يبدأ في عمله, ويشعر بأن مخلوقات الله كلها تسبح الله معه, مهما كانت قوية كالجبال, أو خفيفة ضعيفة كالطيور,
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى).(وأصل السلامى (بضم السين) عظام الأصابع والأكف والأرجل, ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله).
إن صلاة الإشراق, وهي نفسها صلاة الضحى, تأتي قبيل نزول الإنسان لعمله, وممارسته لوظيفته. وإن كانت تجزي الإنسان عن التصدّق اليومي عن كل مفصل في جسمه, فإنها تذكّره في هذا الوقت, وقت الإشراق, أن كل مفاصله لابد أن تتوجّه إلى طاعة الله والعمل في رضاه, وألاّ تكسل أو تتخاذل في الأداء. فقد خلقها الله لتعمل في طاعته, ولتبتعد عن معاصيه. وحين يكون هذا من خليفة الله الذي يحكم بين الناس, فإنها تكون أوجب وأولى , وتزيد ارتباطه بالعمل بمنهج الله.
إن من كانت هذه المعاني في قلبه كل إشراق, وهو يصلّي صلاة الإشراق , الضحى, قبيل أن يتجه إلى عمله, فإنه لا يقترف فيه ما يغضب الله, وإنما يوجهه كله وكل مفصل فيه إلى الطاعة والعمل بمنهج الله والدعوة إلى هداه.
وحين يؤوب الخليفة إلى ربه, فإنه يستمر في مراجعة نفسه, فلا يتوقع منه مخالفة لأوامر الله , وبالتالي يكون الله معه, وتكون الدنيا في يديه, في منظومة طائعة لله عاملة بأمره , مجتنبة نواهيه, و يعينه الله على الخلافة, فيشدّ ملكه ويؤتيه الحكمة وفصل الخطاب, (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ(20) وهي السلطات الثلاثة التي يقوم عليها الحكم في أية دولة, فشد الملك يكون بالسلطة التنفيذية, والحكمة تكون في السلطة التشريعية , وفصل الخطاب يكون في السلطة القضائية, ولابد أن يكون الترتيب هكذا…
فتبدأ السلطة التنفيدية بشد الملك,
ثم تضع السلطة التشريعية قواعد الحكم والحكمة للمنع من الخطأ والزلل.
ثم تأتي السلطة القضائية لتفصل في أمر من يخالف قواعد الحكمة. والسلطة العسكرية لفصل الخطاب عند وصول النزاع إلى استخدام القوة بين الدول.
فالسلطة التنفيذية تعالج وتقاوم وتوقف الفساد السياسي والطغيان عند حده. وهي تختص بأمثال قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد, في الآية الأولى.
والسلطة التشريعية التي تختص بالحكمة, تعالج وتقاوم الفجور والطغيان الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي, من أمثال ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.
وحقا فإن الخليفة يكون في أشد الحاجة إلى الله ليشد ملكه, وليؤتيه الحكمة, وفصل الخطاب, وإلا فالنتيجة نراها في الحكام, وفي المحكومين, وفي الدول والأمم, فإما حكاما ضعافا لا سلطان لهم على ملكهم, أمام مواطنيهم, أو أمام دول أقوى وحكام أقوى, وإما حكاما أقوياء لديهم من القوى ما يمكنهم من السيطرة على دولهم وعلى دول أخرى وفرض رأيهم ونظامهم عليها, ولكنهم يفتقرون إلى الحكمة , فتكون قوتهم ظلما وفسادا ونصرة للظالمين على حساب أصحاب الحقوق. كما أنهم لا يحقون الحق ولا يبطلون الباطل, فليس لديهم فصل الخطاب. هذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نسأل الله أن يرزقنا بالخليفة الأواب ذي الأيدي والأبصار, الذي يسبح بالعشيّ والإشراق.
كما نسأله سبحانه أن يهدي الحكام الأقوياء لأن يكونوا أوابين.
كان داوود عليه السلام يصوم يوما ويفطر يوما كما جاء في الحديث الصحيح, وكان يقوم من الليل, وكان يعتزل الناس يوم يصوم. ففوجئ يوما بخصم يتسورون المحراب فيدخلون عليه في خلوته, فيعلمه الله ويعلمنا أن الخليفة ليس له أن يعتزل الناس ويجعل لهم يوما ولنفسه يوما, فقد جعله الله خليفة في الأرض ليحكم بين الناس بالحق, وليكون معهم في كل يوم. لا أن يعتزل الناس ويجلس في ذكر لربّه, تاركا قضايا الناس ومصالحهم.
إن الخليفة حين يتغيب عن العمل بصفة منتظمة, أو حين لا يكون فعالا في كل وقت, فإنه يعطّل التفويض الذي منحه الله سبحانه, وبالتالي يعطّل تطبيق شريعة الله, ووضعها موضع التنفيذ والعمل.
وفي ممارسات داوود لسلطاته, حكم لمتخاصم بعد أن سمع حجته, ولكن قبل أن يسمع حجة خصمه, فخالف بذلك أهم اعتبارات الحكم وهو إعطاء الفرصة لكلا الطرفين لعرض وجهة نظره, قبل أن يحكم الحاكم أو القاضي, وهنا ظن داوود أنما فتنه الله, اختبره في أهم خصائص العدل, فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب. يقول الله معلما رسوله أصول الحكم ومعلما الخلفاء من بعده…:
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ(22)إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23) .. والخصمان هما المتنازعان
إن القضية كما عرضها أحد الخصمين واضحة تماما, والظلم فيها ظاهر, وبالتالي فالحكم لا يحتاج إلى اجتهادات قانونية, خصم بغى على خصمه, واعتبر أنه بما أن له تسع وتسعون نعجة, وخصمه له نعجة واحدة, أن من حقه أن يأخذ منه نعجته, بل وعزّه في الخطاب. فحكم داوود فور سماعه لحجة أحد الخصمين: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .. )
ولكن داوود أدرك أنه لم يستمع إلى حجة الطرف الآخر الذي يبدو ظالما , والعملية القضائية لا بد أن تتوافر فيها عناصر العدالة كاملة, مهما بدا الظلم واضحا والوصول إلى الحكم يسيرا. لابد من توافر الفرصة لكلا الطرفين لعرض حجته, ثم يكون الحكم بعد ذلك
كما أن داوود بما لديه من علم بما يفعله كثير من الخلطاء, وضع هذا في اعتباره وهو يحكم بين الخصمين, والحاكم لا ينبغي أن يحكم بما يعلم, وليس له أن يعمم ما لديه من علم على كل الحالات أو أن يتخذه حجة دون إثبات أن الحالة الخاصة التي أمامه ينطبق عليها ما لديه من علم. (.. وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24)
وهذه سجدة الخليفة, سجدة القيادات العليا, خضوعهم لله, وعلامة طاعتهم له وانقيادهم.
لقد أخطأ داوود في الإجراءات القضائية, فاستغفر ربه, فغفر الله له, وحفظ الله له وضعه عنده (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(25) . والرجوع إلى الحق فضيلة, واستغفار الله من كل ذنب مكرمة ومفتاح للخير والرزق والمدد من الله في الدنيا والآخرة.
ثم بين الله لداوود وللناس أجمعين, أصول الحكم وأصول العدالة وعلمه مما يشاء, وعلمنا من بعده: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)
فمن جعله الله خليفة في الأرض, عليه أن يحكم بين الناس بالحق, وألا يتبع الهوى, وعليه ألاّ يترك عاطفته وميله يتحكم فيه فيضله عن سبيل الله, إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب. واستعمل الله لفظ شديد في وصف العذاب الذي يصيب به الحكام والخلفاء إن ضلوا عن سبيل الله, حيث تناسب صفة الشدة ما للحكام من شدة , فعذاب الله أشد.
لقد بدأ القرآن في هذه السورة بتسمية يوم القيامة (يوم الحساب) فالذين كفروا قالوا ربنا عجّل لنا قطنا قبل يوم الحساب, وهنا ينذر الله من يضلون عن سبيل الله بعذاب شديد بما نسوا يوم الحساب. وهو أول استخدام لهذه التسمية ليوم القيامة بترتيب النزول. وهي نقلة بعد نقلة دمار الأرض , وبعد نقلة علمت نفس ما أحضرت, وبعد نقلة النفس اللوامة, والقيامة, وجمع العظام وتسوية البنان, والآن يكون الحساب,
ولكي يأمن الإنسان شرّ الموقف يوم الحساب, لابد أن يلتزم بالحق, ولابد ألا يضل عن سبيل الله باتباعه الهوى, وأول من يجب عليه ذلك الخليفة الذي جعله الله في الأرض, فإذا راعى هو ذلك, فإن صلاح أمر المجتمع الإنساني يكون على يديه, ويتبعه الناس, فإن لم يتبعوه فهو يحكم بينهم بالحق, ولا يتبع الهوى, فيضمن بذلك وضع الأمور في نصابها, وتطبيق قواعد الحكمة, والحكم العادل بين الناس, وإعطاء كل ذي حق حقه. فهو يحاسب الناس في الدنيا قبل أن يحاسبهم الله في الآخرة, فيجنّبهم سوء العاقبة يوم الحساب.
إن هذا النظام بديل عن نظام إهلاك الظالمين في الدنيا, فهو يضمن محاسبة الظالمين على ظلمهم, ومنعهم من ظلم الناس وأكل حقوقهم بغير حق, وعقابهم وردعهم إن هم فعلوا.
إن الله قد جعل الحق هو أساس خلق السموات والأرض, فيقول سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ(27)
كما أنه جل شأنه, لا يجعل المصلحين كالمفسدين, ولا المتقين كالفجار, يبين ذلك في دعوة إلى الناس ليؤمنوا ويعملوا الصالحات, وحيث أن الكلام موصول بقصة الخليفة وممارسات الحكم, فإنها دعوة أيضا لخليفته في الأرض ليقر قواعد التعامل مع الناس على أساس من العمل الصالح , وأن يعامل المفسدين في الأرض والفجار بما يليق بهم من ردع, فالخليفة ينفذ إرادة الله وشرعه ويعمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل.. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)
وفـي الـحديث: إِن التُّـجَّار يُبْعثون يوم القـيامة فُجَّاراً إِلا من اتقـى الله؛ (والفُجَّار: جمع فاجِرٍ وهو الـمُنْبَعِث فـي الـمعاصي والـمـحارم)
ومرة أخرى, فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يحلون محل المفسدين في الأرض من أمثال المجموعة الأولى من قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد, فالذين آمنوا استقروا على الإيمان وحولوه إلى العمل الصالح الإيجابي لصالح عباد الله ولإصلاح المجتمع.
والمتقون الذين يخافون الله ويظنون أنهم ملاقوه, يتقون الله في أعمالهم وأخلاقهم وعلاقاتهم, يجعلهم الله بدلا من الفجار المنغمسين في المعاصي والمحارم, من أمثال ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.
والمقصود من إنزال الكتاب المبارك إلى الناس, هو أن يتدبروا آياته, وليتذكر أولو الألباب, وليس لمجرد التسلية وسرد القصص, وأنما هو يحتاج إلى دراسة وتدبّر وتذكُّر.
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(29) , والمبارك من الكثرة والنماء والاستقرار.
وأولو الألباب هم الذين يستخدمون عقولهم في استخراج لب ما أنزل الله في كتابه المبارك. ويأتي ذلك بأن يتدبّروا آياته, وبأن يتذكّروا ما يذكّرهم الله به في الذّكر.