هذا موقف من أعلى وأروع المواقف في الأداء القيادي في التاريخ الإنساني, قمة غير مسبوقة وغير ملحوقة في مثل هذا الموقف, ولا يمكن أن يتصور إنسان أنها تتكرر.
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30)
لقد ورث سليمان داوود في المُلك. مَلِكٌ على الناس, وعبدٌ لله. فكان نعم العبد, إنه أواب. يتمتع بصفة الأوابين كما كان أبوه داوود عليهما السلام.
واتسع ملك سليمان, واتسعت مسئولياته تجاه الدعوة إلى الله, بحيث لم تقتصر على النصيحة للناس وتركهم يفعلون ما يشاءون, كما كان الحال فيمن قبله من رسل الله وأنبيائه, وإنما امتدت مسئولياته إلى خلافة الله في الأرض, بإقامة أركان الدولة المستقرة الآمنة المبنية على شريعة الله وقوانينه, تلك الأركان التي هيأها الله لأبيه داوود عليهما السلام, بالسلطة التنفيذية (وشددنا ملكه) وبالسلطة التشريعية (وآتيناه الحكمة) وبالسلطة القضائية (وفصل الخطاب)
لهذا فقد كان لدى سليمان الخيول الصافنات الجياد, التي يعدّها لإحقاق حق الله وإبطال الباطل, وتعينه على الحكم وإقرار العدالة والضرب على أيدي الظالمين, فيحتفظ الناس بأمنهم وأمانهم في ظل الحكم بشريعة الله, دون تأثير على معتقداتهم وأعمالهم التي ليس فيها اعتداء على المجتمع والناس وهيبة الدولة. ويُمنع المفسدون والمجرمون من ترويع المجتمع.
وهذه واجبات كل من يستخلفه الله في أرضه, فلا يكتفي بالنصيحة للناس, وإنما يقيم فيهم شريعة الله التي تحفظ على المجتمع أمنه أمام المخالفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وبعد شدّ الملك, وانضباط الدولة والمجتمع, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
بل هي مسئولية المسلمين في العالم, أن يعملوا على أن تكون لهم القوة الرادعة لكل من يفكر في الظلم والجور وانتقاص الناس حقوقهم, والكيل بمكيالين. ولم لا والله سبحانه يقول: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين, ويقول: ولا تهنوا في ابتغاء القوم, إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون, وترجون من الله ما لا يرجون. وها نحن نرى حين تكون القوة في أيدي الظالمين كيف يتصرفون بها ظلما وعلوا واستكبارا في الأرض ومكر السيء.
ماذا فعل سليمان؟
يقول الله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ(31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ(32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ(33)
والصافنات من اللفظ (صفن) الصاد والفاء والنون أصلانِ صحيحان: أحدهما جنسٌ من القيام، والآخر وِعاءٌ من الأوعية.[1]
والصَّافِنُ عرق ضخم فـي باطن الساق حتـى يَدْخُـل الفخذَ[2]
والصُّفون، هو أن يقوم الفرس على ثلاث قوائمَ ويرفعَ الرّابعة، إلا أنّه ينالُ بطرَف سُنْبُكِها الأرض؛ والصَّافن: الذي يصفُّ قدمَيه،[3]
إذن مما يحتمله اللفظ أنه الفرس في وضع حركة واستعراض كما في الوصف السابق.
ويحتمل اللفظ أيضا العرق الذي في باطن ساق الفرس حتى يدخل الفخذ وفي صلاحيته صلاحية للفرس وفي فساده فساد للفرس كما سيتضح بعد ذلك. والفرس الذي يصلح عرقه هذا يكون فرسا صافنا وجمعه صافنات, أي الخيول الصالحة للحركة والجري والاستعراض.
ومن الأصل الآخر للكلمة طبقا لابن فارس, الصُّفْن وعاء يحتوي أشياء هامة , ومنه الصفن الذي هو وعاء الخصية.
وفـي حديث عمر رضي الله عنه: لئن بَقِـيتُ لأُسَوِّيَنَّ بـين الناسِ حتـى يأْتِـيَ الراعِيَ حَقُّه فـي صُفْنِه لـم يَعْرَقْ فـيه جَبـينُه؛ أَبو عمرو: الصُّفْنُ، بالضم، خريطة يكون للراعي فـيها طعامه وزِنادُه وما يحتاج إِلـيه[4] ولكن هذا المعنى يأتي مع اللفظ صُفْن بتسكين الفاء.
ولو صح استخدام هذا المعنى لكانت الصافنات هي الخيل التي تحمل أشياء هامة من المغانم مثلا, ولو صح ذلك لكان فيه إشارة لاستعمال سليمان عليه السلام لوصف الخير بعد عرض الصافنات الجياد عليه, والله أعلم.
والذي أرجحه هنا هو صفة الفرس في وضع الاستعراض, وكذلك الفرس صاحبة العرق في باطن ساقها الصالحة للحركة والجري.
وَالجَوَاد: الفرسُ الذّريع والسَّريع، والجمع جِيَادٌ.[5]
وجادَ الفرسُ، أي صار رائعًا، يَجُودُ جُودَةً بالضم، فهو جَوَادٌ للذكر والأنثى، من خَيْلٍ جِيادٍ وأَجْيَادٍ وأَجاويدَ.[6]
وفَرَسٌ جَوادٌ، بَيِّنُ الجُودَةِ، بالضم: رائِعٌ[7]
وكلمة جيد الجيم والياء والدال أصلٌ واحد، وهو العُنُق
وتلخيصا, فالجياد هي الفرسان البيِّنة الجودة الرائعة, ذات الأعناق القوية
والخير اسم يطلق على الخيل لما قاله عنها صلى الله عليه وسلم في حديثه: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [8], وهو دليل وإشارة إلى ما تأتي به الخيل من الخير.
ويَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )
والخيل المعدّة للحرب أو للسباق أو للاستعراض, يبيت كل منها على حدة في صندوق خاص به, يسمى الاسطبل, وهو يحجب كل فرس عن الفرسان الأخرى بحيث لا تتصادم أو تتعارك, فيضرّ بعضها بعضا, وبالتالي فإن الحجاب[9] هو اسطبل الخيل أو مكان مبيتها, وهذه خصوصية للخيل دون غيرها من الحيوانات.
وساق الفرس بها وتر يمتد من كعبها إلى ساقها من الخلف, وهو الصَّافِن. وهذا الوتر لو أصيب أو نفض وبرز, فإن الفرس لا يصلح لقتال ولا لسباق ولا لجري, وتكون قيمته صفرا, وهذا هو أول ما يتم التفتيش عليه في الخيل قبل الشراء, وقبل أي سباق أو حركة واستعمال للخيل, وبعد الانتهاء من السباق أو الجهاد. وهو أهم ما يحافظ عليه صاحب الفرس أو راعيه, فيعالجه كل يوم بالكمادات الباردة, ويلف حوله الأربطة أثناء نقل الفرس من مكان إلى مكان لئلا يصطدم بشيء فيفسد. وفساد الوتر من ساق الخيل لا إصلاح له, إذن تنتهي صلاحية الفرس تماما بفساد الوتر من ساقه.
راجع صور الحركة للصافنات الجياد
أما أعناق الخيل, فإن بها عضلة أساسية, تعتبر في الأهمية التالية للسوق, حيث أن قوة هذه العضلة تتمثل في أنها هي التي تبدأ في جذب كل جسم الخيل إلى الأمام في الجري أو القفز أو الحركة, وضعفها وقوتها تؤثران على قيمة الخيل, وهي النقطة الثانية للتفتيش على الخيل من قبل المتخصصين والمشترين والأطباء المعالجين, غير أنها يمكن تقويتها بالتدريب والمعالجة وليست في مثل خطر الوتر من الساق.
ونقطة الضعف في الخيل هي سوقها وأعناقها, فهي أول ما يستهدف منها في القتال, فإن أصيبت سوقها أو أعناقها, فإنها تتعطل عن العدو وعن القتال.
والوتر وعضلة العنق, يتم الكشف عليهما باليد مسحا بالسوق والأعناق, حيث لا يمكن الإحساس بحالتها وقياسها إلا بالمسح, فإن فروة شعر الساق والعنق تحول دون كمال الكشف عليها بالنظر. لذا فإن الأسلوب المتبع حتى الآن في التفتيش على الخيل هو المسح باليد على سوقها وأعناقها استشعارا لوتر الساق, ولعضلة العنق.
ويكون سليمان عليه السلام بطريقته المعهودة في مراجعة جنوده وأدوات حربه بنفسه, يراجع الصافنات الجياد, (كما فعل حين تفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد), ويطمئن على سلامتها بعد أن توارت بالحجاب أو الاسطبل.
إن الله سبحانه يمتدح سليمان مبدئيا, بأنه نعم العبد, وبأنه أوّاب. ثم يعقّب بقوله(إذ ..) وهي تفيد حدوث شيء فوري يبرر المدح.
…. هنا تأتي قصة الصافنات الجياد كتبرير أن سليمان نعم العبد, وأنه أواب.
وبنهاية هذه الآية, ينتهي مشهد استعراض الصافنات الجياد العائدة من الجهاد, أمام سليمان عليه السلام. ويكون رأس الآية وانتهاؤها دليلا على أن الاستعراض قد انتهى وشهده سليمان.
ثم كلمة (فقال) تعني أنه قال فور انتهاء عرض الصافنات الجياد, وليس بعدها بفترة , أي أنه فور انتهاء عرض الصافنات الجياد عليه بالعشي, قال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربّي. ويفيد انتهاء العرض أن قول سليمان وقع في آية منفصلة تالية لآية عرض الصافنات الجياد. ففور أن توارت بالحجاب قال ردوها عليّ.
إن استعراض سليمان للصافنات الجياد كان حبا للخير الذي تأتي به الخيل للدعوة إلى الله, فهي خيل جهاد.
فلما توارت الصافنات الجياد بالحجاب , أدرك سليمان أنه كان عليه أن يذكر ربه ويشكر نعمته ليس بالقول فقط, بل بالقول والفعل. وكان عليه السلام شاكرا لله, منتبها لمعاني الذكر والشكر, فيحولها إلى عمل. كما في سورة سبأ (اعملوا آل داوود شكرا) وكما في سورة النمل (قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي, وأن أعمل صالحا ترضاه) و (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر)
وحيث أن سليمان أواب, أي كثير الرجوع إلى ربه ومحاسبة نفسه هل شكر بالأسلوب الأمثل أم لا؟ فإنه فور انتهاء العرض عليه, قال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربّي حتى توارت الخيل بالحجاب, أي بالاسطبل الذي يحجبها عن النظر وعن غيرها من الخيول حفاظا عليها وعلى سوقها من الفساد, وتوارت أي استخفت, أي أنها لا تكون في الحجاب مختفية تماما, وإنما هي مستخفية, أي ربما يظهر منها جزء من رأسها أو أرجلها, وهذه هي الحالة في الاسطبل الذي تستخفي فيه الخيول, وتبيت فيه كل حصان أو فرس في غرفة منفردة.
فهو هنا يلوم نفسه أن استغرق في متابعة استعراض الخيل, رغم أنه في متابعة عرضها فهو في طاعة الله, ولكن لديه عليه السلام ما هو أفضل من حب الخير, ومن متابعة أدوات الجهاد لنصرة دين الله. وهو التفتيش عليها والتأكد من استمرار صلاحيتها.
ولنضرب مثالا يوضح الصورة:
لو أن رجلا يجمع أموال الصدقة والزكاة, ووقف يستعرض عد المال ورصه وهو محب له حيث سيخرجه في مصارفه في سبيل الله وفيما يرضي الله, ثم بعد فترة من المتابعة, يستدرك أن لديه ما هو أفضل من متابعة الجمع والعد, رغم أنه مال الله وإلى الله, فيأمر برد المال عليه بعد إيداعه الخزائن, فطفق توزيعا له على الفقراء والمساكين وفي مصارفه الشرعية, وهو يعتقد أن هذا أفضل من أن يكتفي بحضور العد والحصر والجمع. ويكون بذلك إشرافه على توصيل المال لمستحقيه وإشرافه على ذلك, هو عين ومعنى ذكر الله وشكر نعم الله بالعمل فيها بما يرضي الله سبحانه. بل ويكون جلوسه في مجلس ذكر بالقول في هذه الحال, تعطيلا للتصرف في مال الله ونعم الله بما يرضي الله. والله أعلم.
كما أن سليمان عليه السلام, كانت لديه أساليب أبيه في الاعتكاف بالعشي والإشراق للتسبيح والذكر, وهذا عمل طيب مبارك من عبد الله داوود, ولكن سليمان باعتباره نعم العبد, فإنه آثر أن يكون ذكره وتسبيحه بحمد ربه على شكل مراجعة دقيقة بنفسه على خيل الله الصافنات الجياد, وبذلك فهو يضرب أعلى الأمثلة في التاريخ للقيادة المؤمنة الشاكرة الذاكرة لله عملا وقولا, وليست بالقيادة التي تعتكف في مجلس ذكر مبارك ينفع صاحبه, ولكنه بعيد عن نفع الناس أجمعين.
ومراجعة سليمان لنفسه ومحاسبته لها على ما يفعل, وأوبته إلى ما يرضي ربه, تجعله أهلا لأن يصفه الله بأنه أواب, عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام.
لقد بدأ داوود جنديا, ثم أصبح ملكا.
وبدأ سليمان ملكا بعد أن ورث داوود, ثم جاهد في سبيل الله, وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون.
لهذا فإن سليمان اهتم بأدوات الحرب, بالخيل, وآثر أن يهتم بها على أن يستعرضها , بل جعل ذكر ربه في أنه حين يعرض عليه الصافنات الجياد, فإنه يقوم بنفسه ويمسح عراقيبها وأعرافها, حتى يتعرف على حالتها.
إن الفعل طفق من أفعال الشروع وهي شرع وأنشأ وأخذ وطفق وجعل وهبّ. وهذه ضمن مجموعة أفعال المقاربة والرجاء والشروع. والمقاربة مثل كاد وكرب وأوشك. وتفيد الاقتراب من الفعل مع عدم البدء فيه. والرجاء مثل عسى وحرى واخلولق, وتفيد رجاء أن يقع الفعل, مع عدم حدوثه أوعدم قرب حدوثه, والشروع تفيد البدء في الفعل.
وتتدرج أفعال الشروع من شرع في الفعل أي اتخذ كل الأسباب والترتيبات لحدوثه, وأنشأ أى بدأ الفعل في التنفيذ, وأخذ أي بدأ واستمر في الفعل, وجعل أي تم الفعل, وهب تفيد البداية الفجائية, ولكنها لاتفيد الاستمرار. أما طفق فتفيد البدء الفجائي في الفعل والاستمرار فيه.
وعادة ما يكون بعد طفق جملة فعلية, مثلما في (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ولكن في هذا الموقف مع سليمان عليه السلام, فإنه سبق الفعل طفق (الفاء), وتفيد التعقيب الفوري, أي أنه طفق مسحا فور ردها عليه, ثم جاء معها الاسم (مسحا), ويفيد التوكيد على الفعل حتى إنه صار اسما يدل على قمة الأداء, فأنت تقول: فلان قام يجري, فإن كان في قمة الجدية في الجري, تقول: فلان قام جرياً.
فالأسلوب: فطفق مسحا, يدل على قمة الجدية في أداء سليمان للمراجعة على حالة الصافنات الجياد, والسرعة في الأداء بنفسه عليه السلام.
وكلمة طفق ضمن مجموعة من الكلمات المتشابهة مثل طبق وطرق وطلق وطهق وطوق, ويجمعها معنى البداية الفورية وبشكل فجائي غير متوقع.
وهي أيضا ضمن مجموعة من الأفعال المشتركة معها في الطاء والفاء, مثل طفا وطفح وطفر وطفش وطفف وطفق وطفل وطفو وطفي , وتشترك كلها في حدوث شيء ……
وتكون ترجمة هذه الآيات كما أفهمها – والله أعلم – كالتالي:
عادت الخيل الصافنات الجياد من سعيها في سبيل الله مع فرسان سليمان وجنوده, آتية بالخير, وذلك في وقت العشيّ ما بين العصر والمغرب, فعُرِضت على سليمان. وفور انتهاء العرض قال إني آثرت حب استعراض الخيل المعقود في نواصيها الخير, عن ذكر ربّي فعليا وعمليا, بالعمل الذي يرضيه و ينصر دينه وينفع عباده الصالحين, حتى توارت الخيل بالحجاب, وهي الاسطبلات التي تبيت فيها. فأمر سليمان بأن يردوها عليه ليقوم بذكر ربّه عمليا, في شكل التفتيش عليها بنفسه, وليراجع بنفسه حالتها وإمكانيات استعدادها للخروج في سبيل الله في اليوم التالي, فطفق مسحا بالسوق والأعناق, بجد وهمّة ونشاط وسرعة, تفتيشا على صلاحية أوتارها أو صافناتها, أو عروقها التي في باطن سوقها, وتفتيشا على أعناقها ومدى قوة عضلاتها التي بها تشد جسمها للجري.
بالله عليك, لو أن قائدا يؤدي عمله بهذا المستوى المذهل من الجدية والخبرة والسرعة, وبنفسه, دون الاتكال على جنوده ومساعديه, هل يباريه أحد في القيادة وفي الإدارة؟ هل يكون لديه خامل أو عاطل أو متخاذل؟ إن كل من يعمل معه لابد أن يكون محاولا الإجادة قدر استطاعته ليحاول الوصول إلى مستواه, وخوفا من العقوبة على التقصير.
إن هذا الأداء يدعو إلى العجب والدهشة, وسليمان هو ما هو في الملوك الذي وهبه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
لماذا ينشغل سليمان بكل هذه التفاصيل, والله قد مكنه من الجن والإنس والطير فهم يوزعون؟
إن هذا الأداء يحتاج إلى تبرير وتفسير. لماذا كل هذه الجدية والدقة والفاعلية؟
يبرر الله كل ذلك, ويرد على ما يمكن أن يثار من التعجُّب فيقول:
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ(34)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(40)
اللّهم إني أسألك العون والتيسير في فهم هذه الآيات
(لقد) تفيد تأكيد حدوث أمر في الماضي أو في المستقبل من اللحظة الحالية.
والفتنة ابتلاء, واختبار
والكرسي إما كرسي العرش, أو السلطان. وفي القرآن(وسع كرسيه السماوات والأرض)
وجسد: الجيم والسين والدال يدلُّ على تجمُّع الشيء أيضاً واشتدادِه: من ذلك جَسَدُ الإنسان.[1]
وقال قوم: الجَسِد اليابس. والجسد هو الذي لا يعقل, ولا يميّز[3]
وكلمة (جسد), تكررت في القرآن أربع مرات: عجل جسد الذي أخرجه السامري لقوم موسى, وكان تمثالا لا حياة فيه.
والإشارة إلى أنبياء الله: ( وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام, وما كانوا خالدين) فيكون الجسد لا يأكل الطعام, أي لا حياة فيه مثل حياة البشر.
إذن فالجسم والجسد والجثة تدل كل كلمة منها على حالة من حالات البدن, فالجسم هو البدن في حالة حركة ونشاط , والجثة هي البدن بعد الموت, والجسد هو البدن الحي ولكنه لا يعمل ولا يتحرك, وكأنه ميت. فحين يستلقي الإنسان على فراشه, مستعدا للنوم, فإن عليه اتباعا لسنة رسول الله, أن يقرأ في كفيه سورة الإخلاص والمعوّذتين, ويمسح بهما وجهه وسائر جسده, فبدنه في هذه الحالة هو جسد لا يفعل ما يفعله الجسم الناشط فهو في موضع رقاد.
وقيل: إن السبب في فتنة سليمان أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد. وكان أبوه يحتجب يوما ويخرج يوما للناس.
إن الله يبين السبب الذي يجعل سليمان عليه السلام, يجتهد بنفسه هذا الاجتهاد والجدّية والحماس والنشاط, في التفتيش على الخيل. وفي سورة النمل هو يتفقّد الطير ويتوعد الهدهد لغيابه بدون إذن.
يوضح الله السبب, في نقلة تاريخية لموقف حدث من سليمان في بداية جلوسه على كرسي الحكم, حيث كان جسدا, أي كان ملكا يملك ولا يحكم, لم يكن يشغل نفسه بأمور الحكم. وإنما استمر على عهد داوود أبيه في التسبيح بالعشي, بل وزاد عليه حتى انشغل تماما بمجلس الذكر عن إدارة أمور الحكم, حتى قال الله عنه إنه جسد, أي في الشكل ملك, وفي المضمون لا يؤدي مهام الملك, واحتجب عن الناس لهذا السبب. وبالتالي فإن الله قد ألقى على كرسي الحكم الخاص بسليمان, ألقى جسدا, وهو جسد سليمان نفسه الذي لا فعل له ولا أداء له لحقوق مملكته والناس لبعض الأيام أو لبعض الوقت. وكانت هذه فتنة سليمان,
وكان أبوه داوود قد ظن أنما فتنه الله, فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب. ولكن سليمان قد فتن فعلا, ثم أناب ورجع إلى الله, واستغفر, ودعا ربه أن يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده, ليؤدي فيه حق الله وحق العباد بشكل لا ينبغي لأحد من بعده أيضا.
فمن من الملوك والرؤساء اليوم أو في التاريخ, بلغ به مراجعة أمور مملكته إلى الحد الذي به يراجع سوق الخيل وأعناقها ليتأكد بنفسه من صلاحيتها لأداء مهامها في النقل وفي الحرب والقتال؟ يؤدي ذلك في العشيّ أي بعد يوم شاق طويل من العمل, والناس عادة ما يتأهبون للعودة إلى بيوتهم للراحة في العشيّ.
ومَنْ مِنَ المديرين اليوم الذي يتفقد عماله وموظفيه بدقة حتى ليعرف الغائبين ويتأكد من صدقهم وسلامة قولهم ومواقفهم؟
ومن من أصحاب المصانع الذي يتفقد ماكيناته بنفسه للوقوف على مدى صلاحيتها؟
ومن من قادة الجيوش الذي يصل به الحال من المراجعة إلى أن يراجع عجلات عرباته ودباباته وطائراته ليتأكد من صلاحيتها للعمل؟
لهذا, وبعد أن علم الله من سليمان قدراته وإخلاصه في متابعة كل صغيرة وكبيرة في مملكته, أعطاه الله ما لا ينبغي لأحد من بعده, فسخر الله له الريح تجري بأمره في السماء, رخاء حيث أصاب, ليزرع الله بمائها الأرض, والشياطين كل بناء لتعمير الأرض, وغواص لكشف أسرار البحار, ثم إنه يفرز العاملين ليعرف الذين آمنوا وعملوا الصالحات من المفسدين في الأرض, فمن أساء فهم مقرّنون في الأصفاد.
ومن هنا, وبعد ابتلاء سليمان في أدائه كقائد ملك خليفة لله في الأرض, قال له الله: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.
كما قال لذي القرنين بعد أن آتاه من كل شيء سببا, فأتبع سببا, قال له الله: قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا.
وكما قال الله ليوسف عليه السلام, بعد أن تبين لله- وهو الغني- صدق يوسف وإخلاصه وكياسته وحسن سمعته وكل ما يؤهله لأن يكون على خزائن الأرض, قال الله: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض, يتبوأ منها حيث يشاء” وكان عليه السلام على مستوى تكليف الله له والصلاحيات التي أعطاه, فلم ينس وكان ذا عزم وعفة وقوة وحفظ في الإدارة والحكم والأمانة.
إن عطاء الله نعمته لعباده, لابد أن يقابله شكر لهذه النعمة يقابل مستواها, فكما كان عطاء الله وهبته لسليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده, كان شكر سليمان عليه السلام عملا وأداء لا ينبغي لأحد من بعده.
وقياسا على ذلك, فإن من وهبه الله مالا وفيرا لابد أن يكون أكثر الناس عطاء وإنفاقا في الحق, ومن أعطاه الله علما وفقها, لابد أن يكون أكثر الناس عملا به, ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين, رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق, ورجل آتاه الله علما فهو يعمل به ويعلمه.
[1] ابن فارس 2] لسان العرب [3] ابن فارس [4] لسان العرب [5] ابن فارس [6] الصحاح [7] القاموس المحيط [8] البخاري 2637[9] فتح القدير للشوكاني