منذ أن جعل الله آدم في الأرض خليفة, وبنو آدم هم خلفاء الله في الأرض. يأتيهم من الله هدى فيتبعونه فيكونون من المفلحين, أو يتبعون من دونه أولياء, أو آلهة, أو مذاهب تخالف ما أنزل الله, أو يتخذون الشياطين أولياء من دون الله, فيكونون من الذين خسروا أنفسهم.
ولكل أمة قائد, فإما أن يقودهم بشريعة الله, فيفلح ويفلحون, أو يتخذ آلهة من دونه فيهلك ويهلكون.
وقد استخلف الله أمما على كتابه ورسالته للناس, فتعلو بعض الأمم على بعض, بأسباب العزة والقوة والغلبة, فإن أقامت الأمة القوية الغالبة شريعة الله في الأرض, فإن الناس يعيشون في أمن وطمأنينة بالحق وبالعدل, مؤمنهم وكافرهم. وإن اتبعوا أهواءهم وغلّبوا مصالحهم على الحق فإنهم يكونون طغاة ظالمين, لايرقبون في الأمم وفي الناس إلاّ ولا ذمّة, وينتهي بهم المطاف إلى الهلاك والدمار, أو الضياع والضعف والهوان, ليستخلف الله من بعدهم أمة أخرى على القوة والعزة, فينظر كيف يعملون.
وهكذا يداول الله الأيام بين الناس.
والناس بصفة عامة, على مستوى الأفراد, وعلى مستوى الأمم, إما قائد وإما مقود, أو رئيس ومرءوسون, أو متبوع وتابعون. فإن صلح القائد أو الرئيس, أو المتبوع, نجا الجميع, وعاشوا في أمن من الخوف ومن الجوع. أما إن فسد القائد أو الرئيس أو المتبوع, فإن الفساد والخسران يعمّ الجميع, بل وقد يصيب غيرهم من الأمم. فالقائد من الأمة بمثابة القلب من الجسد.
كما أن المسألة لا تعتمد فقط على القائد أو الرئيس, ولا تعتمد فقط على الأمة, وإنما هي تعتمد على الاثنين معا. فبالقائد الصالح مع الأمة الصالحة, تتحقق أعظم النتائج, وبفساد أحدهما وصلاح الآخر, أو بفساد الاثنين معا, تتحقق أسوأ النتائج, وأسوأ العواقب.
حدث هذا في التاريخ القديم للإنسانية, فاستخلف الله نوحا على رسالته, ثم جعل عادا قوم هود خلفاء من بعدهم, ثم جعل ثمود قوم صالح خلفاء من بعد عاد. وكان بنو إسرائيل قوم موسى آخر الأمم التي استخلفها الله على كتابه قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم .
ومع صلاح أنبياء الله ورسله, كانت ذنوب وفساد أقوامهم سببا لإهلاك الله لتلك الأمم. ووصلت الحال بموسى عليه السلام إلى أن: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25) المائدة.
حتى استخلف الله رسوله صلّى الله عليه وسلم, على الدعوة إلى العقيدة, وعلى نصيحة الناس وهو ليس عليهم بمسيطر, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ثم استخلفه على تطبيق الشريعة, وعلى حكم الناس وتأديبهم, مؤمنهم وكافرهم, وإقامة مجتمعهم على شريعة من الأمر, وقال له: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). فسارت الأمة على هديه, فاستخلفهم الله على شريعته في الأرض, وجعل الأمة الإسلامية أمة وسطا, ليكونوا شهداء على الناس, وأمرهم بأن تكون منهم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, وأولئك من الصالحين, وما يفعلوا من خير فلن يكفروه. وقال فيهم: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فكان ما كان من نصر الله والفتح, ودخل الناس في دين الله أفواجا, وساد الأمن في جلّ بقاع الأرض المعمورة في ذلك الوقت. وكانت الشريعة تطبّق على صاحب الرسالة وعلى ابنته قبل أن تطبق على الناس, كانت تطبق على الأمير قبل الفقير, والحاكم قبل المحكوم, و ساد الإسلام عقيدة وشريعة, أمنا وعدلا للناس أجمعين.
إلى أن خالف حكام وخالف محكومون, فحدث ما حدث في التاريخ وبدأ نجم الحكم الإسلامي في الهبوط.
وما يظنه البعض من أن الإصلاح مسئولية الحاكم فقط, أو أن صلاح الأمة يؤدي إلى صلاح الحاكم, كل ذلك لا يصل إلى النتائج المرجوة, وإنما لابد من صلاح الجميع, وكلنا راع وكلنا مسئول عن رعيته.
وكما يجب على الخليفة أن يشعر بمسئوليته أمام الله عن الأمة, فإن الأمة الإسلامية يجب عليها أن تستشعر مسئوليتها أمام الله عن الأمم كلها, فتعمل على أن تكون كلمة الله هي العليا, في كل الأمم, وفي كل الأرض. فيعيش الناس- كل الناس مؤمنهم وكافرهم- مطعمين من جوع, آمنين من خوف, طالما كان الجميع ملتزمين باحترام شريعة الله, أو القانون والدستور القائم عليها, وبعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وشهد العالم سيطرة الدولة الإسلامية على أرجاء العالم المعمور لعدة قرون, بدءا من حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم, في القرن السابع الميلادي, ثم خلافة الراشدين, ثم الدولة الأموية, ثم العباسية, ثم العثمانية, كانت خلالها الشريعة الإسلامية هي الحاكمة والسائدة, رغم تقصير وفساد بعض الحكام والأنظمة, حتى سقطت الإمبراطورية العثمانية ودولة الخلافة الإسلامية في أوائل القرن العشرين.
وحين قصّرت الأمة الإسلامية في حمل هذه المسئولية, من ضعف, أو من تقصير, أو من جهل, أو لأي سبب من الأسباب, فإنها بذلك قد تركت الفرصة لقوى أخرى غير مسلمة وغير مؤمنة, للتحكم في الأمم والشعوب, بل في الأرض كلها, وشهد التاريخ صعود الإمبراطوريات الهولندية والإسبانية والبرتغالية, والإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس, والإمبراطورية الفرنسية وحملاتها, ثم السيطرة السوفييتية والأمريكية على أطراف الأرض. وتصرفات هذه الامبراطوريات والدول في الأمم الأخرى وفي الأرض معروفة لدى الجميع, من قتل وسلب ونهب ومظالم وافتراء وطغيان.
وهي الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي, تترك الفرصة للولايات المتحدة منفردة بين الأمم لكي تفعل ما تشاء في مقدراتها, فتتدخل في سياساتها, وتسليحها, وتعليمها, وصحتها, وبيئتها, واقتصادها, وفي ثقافة أهلها, وفي القوانين والشرائع, وهي تسعى جاهدة لكي لا تسمح لقوى أخرى من أي مكان في العالم أن يكون لها أي دور في كل ذلك, حتى في ظل الأمم المتحدة والتكتلات الاقتصادية والسياسية الدولية. فتفرض مفهومها للعولمة وللنظام العالمي الجديد, وتحاول أن تفرض ثقافتها ومعتقداتها في كل مجال على كل الناس. وهي بقوتها أصبحت نصرة للظالم, حربا على المظلوم, تكيل بعدة مكاييل, تطبق ما تشاء على من تشاء, وهي تعبّر عن قمة الطغيان على لسان رئيسها بوش الابن, حين يقول: إما أن تكون معنا, أو أن تكون إرهابيا. وهي مقولة مشابهة لمقولة فرعون لقومه (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)
والحل الوحيد لصلاح العالم المفتوح وكأنه قرية واحدة كما يقولون, هو أن تكون هناك شريعة عادلة واحدة, وقوة عظمى تحميها وتطبقها, على نفسها وعلى غيرها. ولا يقدر على هذه الشريعة العادلة إلا الإله الواحد سبحانه, ولا يستأمن على تطبيقها إلا أمة قوية عادلة, تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
كانت هذه إيحاءات من سورة الأعراف من بعد سورة ص, تتضح تفصيلاتها من دراسة السورة, فلنبدأ في تدبّرها…ونسأل الله التوفيق