بعد أن أعطى الله في سورة ص دروسا في القيادة وأصول الخلافة, لرسوله وللخلفاء ولقادة المسلمين وأئمتهم من بعده إلى يوم القيامة, فإنه هنا في سورة الأعراف, يعطي دروس القيادة وخلافة الله في الأرض للأمة الإسلامية كأمة مستخلفة.
كيف تكون صفات الأمة المستخلفة في الأرض؟ وماهي الصفات التي يجب أن تتحلّى بها؟ وما هي الصفات التي يجب ألا تكون فيها, والتي تسببت في استخلاف أمم بعد إهلاك أمم؟
لقد استوحيت هذه المعاني مما لاحظته في هذه السورة من تكرار ذكر الألفاظ الدالة على الخلافة والاستخلاف, والأمم وميراثها في الأرض, ومن اتجاه المعاني في قصة إبليس مع آدم, ومن الصور التي وصفها الله للأمم الداخلة في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس في النار.
بدأت السورة بالأمر باتباع ما أُنزل إلينا من ربنا, وبالنهي عن اتباع من دونه أولياء, وتبين بعد ذلك نتائج عدم الالتزام بذلك, بأن اتخذ بعض الناس الشياطين أولياء من دون الله, ويحسبون أنهم مهتدون, وباتباع بعض الأمم لبعضها دون التزام بأوامر الله وشريعته, فيدخلون النار كلما دخلت أمة لعنت أختها.
يقص الله في سورة الأعراف, بداية قصة الخلافة بآدم, ونهاية قصتها بميراث الجنة, أو بميراث النار حسب تنفيذ الناس لأمر الله في مطلع السورة.
ثم يقص سبحانه بعض قصص الأمم التي استخلفها على كتابه وشريعته, فقد استخلف الله قوم نوح, ثم جعل عادا خلفاء من بعد قوم نوح, ثم كانت ثمود خلفاء من بعد عاد, ثم استخلف بني إسرائيل حيث قال لهم موسى عليه السلام( استعينوا بالله واصبروا, إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) و (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)
إن كل أمة من هذه الأمم كانت في زمان يختلف عن زمان الأمم الأخرى, وفي مكان يختلف عن مكان الأمم الأخرى, وإنما جمع بينهم بعْثُ الله فيهم الأنبياء والرسل, وتنزيل الله للهدى في رسالاته إليهم وإلى الناس. وعلمت كل أمة من هذه الأمم أنها مستخلفة على دين الله, وعلى شريعة الله. وعلمت مسئوليتها في المحافظة على رسالة الله, والتمكين لها في الأرض. وقال لهم أنبياؤهم هذا, فآمن من آمن وكفر من كفر, فأهلك الله الظالمين, واستبقى المؤمنين إلى أجل مسمّى لتستمر مسيرة الإيمان والهدى, إلى أن تشوبها الشوائب من سوء تصرف الناس, ومن قلة عزمهم, ووسوسة الشيطان لهم, فيرسل الله رسولا بعد رسول, فيذكّر الناس بربهم وبشريعته, ويبلغهم ما شرع الله لهم من معاملات تنظم حياتهم, فيصدّق البعض ويكذّب البعض, وتدور الدائرة.
ولم يكن لرسل الله وأنبيائه (فيما عدا داوود وسليمان عليهما السلام) سلطانا على الناس, ليقيموا به شريعة الله في المجتمعات والأمم, وليؤدبوا الظالمين ويأخذوا على أيديهم, أي أن الرسل والأنبياء حتى موسى عليه السلام, كانوا هداة ناصحين, يبلغون الناس أمر ربهم, ولا يسيطرون عليهم لا في عقيدة, ولا في شريعة ينتظم بها المجتمع وإنما هي النصيحة بلا سلطان لإلزام الناس بها.
وظلت سنة الله فيما يخص العقيدة كما هي, فقد قال لرسوله صلّى الله عليه وسلم (فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر). أما ما يخص الشريعة, فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المدينة المنورة, حكم الناس بشريعة الله,(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا(105)النساء) فكانت الدولة مسلمة مؤمنة, أما مواطنوها, فمنهم المؤمن ومنهم الكافر ومنهم أهل الكتاب, ولا إكراه في الدين.
وهذه إضافة هامة لدور رسالات الله.
كانت بدايتها عند داوود عليه السلام, حيث كان نبيا وكان ملكا, شدّ الله ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب. وتبعه سليمان عليهما السلام فكان نعم العبد, سخر الله له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب, والشياطين كل بناء وغواص, وآخرين مقرّنين في الأصفاد, (وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ)(سبأ) أي أنه كان يحكمهم ويعاقب من لا يطيع. وهذا ما تم بيانه في سورة ص.
وفي سورة الأعراف, يقص الله سبحانه القصة من بدايتها إلى نهايتها.
فمع خلافة الإنسان لله في الأرض, وضع الله له قواعد الشريعة التي عليه أن يتبعها. أما إبليس عليه لعنة الله, فقد بدأ بالمعصية والخروج على طاعة الله. ثم حين أنظره الله إلى يوم الوقت المعلوم, ترصّد لبني آدم وأقسم ليقعدن لهم صراط الله المستقيم, غلا وحقدا على بني آدم. وسارت تصرفات الإنسان بين اتباع رسالات الله وأمره سبحانه باتباع الهدى, وبين وسوسة الشيطان له.
وفي نهاية المطاف يوم الحساب, يكون الناس بين الجنة لمن أطاع الله , وبين النار لمن أطاع الشيطان.
ينطبق هذا على قادة الأمم ومن استخلفهم الله في الأرض, وعلى الأمم التي استخلفها الله قائدة لغيرها من الأمم. كما ينطبق على الناس أجمعين, التابعين والمتبوعين, كل يتصرف على مسئوليته.
وتسير السورة مبينة مسيرة الأمم وأسباب قصورها في حمل رسالات الله, ليبين الله لنا كيف يمكننا أن نسير على طريقه وفي هداه – كأمة- حتى نصل إلى تحقيق ما أراده الله لنا, وحتى نبلغ رسالة الله للأمم الأخرى, وحتى نمكّن لشريعة الله لتحكم الأمم كلها فتعيش في حق وعدل ورخاء وأمن, دون ظلم أو جور, مهما كانت عقيدة الناس فيها.
ومن البداية, يبين الله أمره للمؤمنين, أن (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم, ولا تتبعوا من دونه أولياء) فالأمر لا يقتصر على سلامة العقيدة, وعلى الإيمان بالله ورسله, ولكنه يمتد إلى آثار هذه العقيدة في تطبيق الشريعة, وفي العمل بطاعة أوامره سبحانه, والبعد عن نواهيه. وإلا فإن إبليس كان يعرف الله, ويكلمه الله. وهو في موضع آخر يقول لمن اتبعوه (إني أخاف الله) ولكن غضب الله عليه كان ليس بسبب إنكاره لوجود الله, وإنما بسبب عصيانه لأمره سبحانه, وهذه نقطة غاية في الأهمية, حيث ربما يظن بعض من يؤمن بالله, أنه إنما ينجو بإيمانه فقط, وإنما تكون النجاة بالإيمان وبالعمل الصالح في طاعة الله معا, وفي عدم معصيته سبحانه, وعدم اتباع من دون الله أولياء. وإلا لنجا إبليس ولم تهلكه معصيته, وإصراره عليها.
يبين الله قصة آدم مع إبليس عليه لعنة الله, وكيف أنه لم يمتثل لأمر الله بالسجود لآدم, خليفة الله في الأرض هو وبنوه. وبالتالي بدأ واستمر في العداء لآدم وبنيه إلى يوم القيامة. ولم يرحِّب أو يبارك اختيار الله لآدم خليفة في الأرض.
وأصبح آدم, وبنوه المتبعون لرسل الله ولهدى الله, مثالا لخلفاء الله في الأرض بالحق.
كما أصبح بنو آدم المخالفون لرسل الله ولهدى الله, هم أتباع الشيطان في الأرض, وهم الطاغوت, مثالا للخلفاء المتجاوزين لحدود الخلافة وأصولها, بطاعة من استخلفهم والعمل بأمره, فكانوا هم الطاغين العاصين المجرمين.
وصار الصراع البارد أو الساخن بين الفريقين, فيتبادل كل منهما التمكُّن في الأرض بالقوة, فيمكّن لمذهبه ويحاول نشره وفرضه على الناس.
تظهر هذه المسألة بوضوح وجلاء شديدين في القرنين الماضيين, وتتجلى أكثر ما تتجلى في القرن الحادي والعشرين, بعد أن أصبح العالم قرية واحدة, بثورة المواصلات والاتصالات والمعلومات. وأصبح المالك لأسباب القوة والعزة يفرض نفسه على الأرض وليس فقط على بلاد بعينها أو ناس أو ملل بعينها, وهو لا يتصرف بالحكمة التي فرضها الله في شريعته, فيظلم ويطغى وتغره القوة.
ومن هنا تبرز خطورة وضع المسلمين, وخطورة مسئولياتهم تجاه دينهم وشريعة ربهم. إنهم هم ورثة رسالة الله, وأتباع آخر رسل الله, بل هم أتباع كل رسل الله, لانفرق بين أحد من رسله, وهم الأمة التي جعلها الله شهداء على الناس, وخير أمة أخرجت للناس, كما أنهم مسئولون عن إقامة شريعة الله الحق والعدل بين الناس, ولا يتأتى ذلك إلا بالقوة, لقد قال الله فيهم: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (181) الأعراف. وكيف به يعدلون, دون قوة تمكنهم من إقامة العدل وإحقاق الحق وإبطال الباطل؟
إنها مسئولية تتجاوز رخاء شعوبهم, إلى رخاء وأمن الشعوب كلها, والناس أجمعين, بل أمن ورخاء العالمين, وهي مسألة لا تتجزأ, فأمن الإنسان كل الإنسان لا يتجزأ, وانتهاك حقوقه في أرض أو بلد, يمتد لينال من حقوق الإنسان في كل مكان, وانتهاك حقوقه في مجال ما, يمتد لينال من حقوقه في كل المجالات.
والمسألة ليست من قبيل الأحلام, وليست واقعة في منطقة المستحيلات, فالجيل الذي شهد الحرب العالمية الأولى والثانية, أو كان قريبا منهما, قد شهد تقلب الأوضاع العالمية وانتقال موازين القوى بين الأمم, وصعود أمم وهبوط أمم.
والتغيير المنتظر الذي به تعود القوة للمسلمين, ويعود الحكم لشريعة الله الحق, ويعود المقياس بالعدل والقسطاس المستقيم, هذا التغيير يجب أن يكون في أذهان وقلوب المسلمين قريبا, وقريبا جدا, فيمكن أن يكون خلال عشرين عاما أو حولها.
وهذا ماحدث ويحدث في التاريخ. فبين أصحاب الفيل الذين لم يجدوا من يقاومهم, وبين قوة المسلمين وعزتهم وغلبتهم, أقل من خمسين عاما…
وبين هجرة النبي من مكة إلى المدينة ثاني اثنين, وبين فتح المسلمين لبلاد فارس وهزيمة كسرى, أقل من عشرين عاما. وقصة نبوءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبشارته لسراقة بن مالك أن يلبس سواري كسرى شاهد على ذلك. وكانت فارس بمثابة أقوى دولة في العالم حينئذ, ولم تكن للمسلمين ولا للعرب قوة تذكر على المستوى الدولي قبل نزول القرآن.
ثم بعد موسى عليه السلام, قال الله سبحانه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(169)
ولكن هناك من يتمسك بالكتاب, ويقوم بمسئولية الإصلاح وإقامة الصلة بين الناس وبين ربهم, ويمسّك الناس بالكتاب: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ(170)
وبعد أن نستشعر مسئوليتنا تجاه الإنسانية, وتجاه بني آدم كلهم أجمعين, وفي الوقت الذي نبحث فيه عن الوسائل التي نحقق بها سيطرتنا على العالم للتمكين لشريعة الله والحق الذي أنزله, لتحقيق الأمن الحقيقي والسلام الحقيقي للشعوب جميعا مؤمنها وكافرها, ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الأحد لا شريك له, ومن جور الأديان أو الحكّام إلى عدل الإسلام, علينا في هذا الوقت أن نتدارس الأسباب التي بها سلب الله سبحانه الخلافة من أمم سابقة, ووهبها أمما أخرى لينظر كيف يعملون, والتي جعلت الخلافة تفر من أيدينا إلى أيدي الطاغين والظالمين والمجرمين والطواغيت.
فإذا توصلنا إلى هذه الأسباب, فإننا يجب علينا أن نعمل على إزالتها, والتمسك بالأسباب التي يرفع الله بها الأمم ويمكن لها في الأرض, فنعمل فيها جهدنا, ونجعلها أكبر همنا في الدنيا, حتى نصل إلى القوة التي تحكم العالم وتفرض شريعة الحق عليه فلا تُظلم نفس شيئا, ولا تكون كما هي في أيدي الولايات المتحدة اليوم,حين استخلفت على أسباب الغلبة والعزة, فلم تتصرف بالحكمة والعدل. ولكننا حين تكون القوة والغلبة والعزة لنا, فإن علينا ما هو أخطر من ذلك, علينا أن نمكن لدين الله الحق, وأن نقيم شريعة الله فيحكم بها الناس بما يرضي الله, وأن نكون أول ما نحكمها فينا قبل تحكيمها في الناس, وأن تطبّق على حكامنا قبل أن تطبّق على شعوبنا والشعوب الأخرى¸فنلتزم كلمة التقوى فنكون أحق بها وأهلها.
إن عزمنا ونحن نبحث عن أسباب القوة والغلبة والعزة, أن نخلص نياتنا لله أن يكون الهدف ليس رفاهية شعوبنا فقط, وليس نهب ثروات شعوب أخرى, وليس العلو في الأرض ولا الفساد, وإنما الهدف هو رضى الله وجنته والدار الآخرة, وإقامة دين الله حاكما للناس, ونحن أولهم, وأكثرهم اتباعا لشريعة الله, وأشدهم تمسكا به. فإذا أرانا الله ما وعد به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات, فله الحمد والمنة, وإن توفانا قبل ذلك, فنحن على يقين من أنه سبحانه يريد أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين, وأن يتم نوره ولو كره الكافرون والمشركون.
وفي كل الأحوال والأوقات نقول: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده, وله سبحانه سنن في ذلك, وهو الحكيم الخبير, وعلينا أن نتعرف عليها من كتابه وآياته وأحسن القصص التي قصها علينا فيه.
وإلى سورة الأعراف, السورة رقم 39 بترتيب النزول, لنرى فيها هذه المعاني والدروس والعظات لنعلم منها ما كان من عمل الأمم التي استخلفها الله من قبلنا, وما كان المطلوب منهم, وما كان من سوء تصرفهم الذي سجله الله في كتابه حتى لا نقع فيه فيصيبنا ما يصيبهم.