الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
الحضارة نور.. والتخلّف ظلمات
ومن ظلمات التخلف التي تعالجها الحضارة بنورها, التخلف في العلم بالجهل والعمى ويعالجه نور الحضارة بالفكر والمعرفة, والتخلف في العقيدة كفر وشرك, يعالجه نور الحضارة بالإيمان واليقين, والتخلف في القول فُحش وكلمة خبيثة, ويعالجه نور الحضارة بالقول الطيب والكلمة الطيبة التي يعيش الإنسان بها بين الناس, والتخلف في السلوك كبر وفساد وفواحش وإجرام, ويعالجه نور الحضارة بالشكر والعمل الصالح الواعي المعمِّر للدنيا المستثمر لنعم الله فيها في الوجه الذي يرضيه وينفع الناس.
وأخطر تخلّف هو ذلك الذي يكون في العقيدة, فهو تخلف في الفطرة التي فطر الله الناس عليها, وتخلف في العقل وأسلوب التفكير والاستدلال المنطقي, وتخلف في أحاسيس القلب, وذلك بخلاف الأنماط الأخرى من التخلف الناتجة عن عدم المعرفة أو عدم التدريب أو عدم الأخذ بأسباب التقدم, أو عدم التربية.
فالإنسان الذي يصل بالعلم والمعارف إلى تصميم برامج الحاسب الآلي, وصناعة السلاح النووي والطائرات والسيارات, ثم تجده ينحني لبقرة تسير أمامه يقدّسها ويعبدها, أو يبيح لرجل أن يتزوج رجلا, أو لامرأة أن تتزوج امرأة, كيف يكون هذا صاحب حضارة؟
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
وسورة الأنعام تعالج ذلك التخلف في العقائد, استكمالا لمنهاج الحكمة في الحضارة الإنسانية..
إن الكفر والشرك بمظاهرهما المختلفة, يتسببان في تخلف الناس, وإلى تدمير ما يبنون من مظاهر المدنية وثمارها, (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6))
فتهلك الأمم والقرون بعد كل ما يصلون إليه من تقدّم علمي ومدني وثقافي, بسبب التخلف في العقيدة, فتتصرف بغير هدى, فيهلكها الله بذنوبها, وينشئ من بعدها قرنا آخرين. هذا هو درس التاريخ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11))
ويغني عن ذلك استعمال العقل في التفكير والقياس والتدبّر في آيات الله الكونية, وفي آيات الله المنزّلة على رسله, والتي حفظ الله أحسن ما فيها في كتابه الخاتم على لسان رسوله الخاتم صلّى الله عليه وسلم. يصل العاقل إلى الله, وإلى أنه لا إله إلا هو, ويتبرأ مما يشرك الناس..
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
فإن قامت مدنيات وثقافات, ولكنها لم ترتبط بخالقها ومنهاجه القويم, فتشرك به ما لا ينفع ولا يضر, فإنها بذلك تحمل في طياتها أسباب هلاكها ودمارها, فيصيبها الله بالعذاب الأدنى, ويذكرها بالساعة والبعث والحساب, ليردها إلى صوابها, حتى تعلم وتتذكر أنه لا ينفع إلا الله وحده لا شريك له, خاصة حين يواجه الإنسان المخاطر والمهالك, فلا يرى ولا يجد حماية ولا عونا من الذين يشرك بهم مع الله, ولا يكون أمامه إلا أن يدعو الله وحده, وينسى ما كان يشرك…(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
يحدث هذا لمن يكون في طائرة, فتتعطل محركاتها, أو تواجه عواصف عنيفة, أو في باخرة فتهب عليها ريح عاصف, فيجيئها الموج من كل مكان, فإن الكافر الملحد, أو المشرك مع الله أحدا لا يقول إلا (يا ربّ) ولا يتوجه بالدعاء إلا لله وحده لا شريك له, وهذا الأمر يتحدّى الله به الكافرين والمشركين..
وهذه هي سنة الله في الأمم, فإن لم يتضرعوا إلى الله ولكن قست قلوبهم, فإنّ الله يستدرجها ويفتح عليهم أبواب كل شيء, ثم يأخذهم بغتة .. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
هكذا تهلك الأمم والحضارات التي تنحرف في عقيدتها, ولا تستجيب لداعي الإصلاح من الله, فينسون ما ذكروا به, ويتيهون في الظلمات تاركين النور الذي أنزل الله.
وفي مواجهة الأزمات والمهالك في حياة الأمم, تلجأ الأمم إلى العلماء, أو إلى الأغنياء وأصحاب الثروات, أو إلى الأقوياء, وتظن أنها تلوذ بهم من هذه المهالك, ولكن الله سبحانه يبين هنا أن الملجأ والملاذ لا يكون في كل هؤلاء إن لم يكونوا على إيمان وعلى منهج الله وفطرته والإخلاص الذي لا يكون إلا في اتباع هداه, ولا ينقذ الأمم من الهلاك أن تكتفي بالاعتماد على ثرواتها, ولا على علمها, ولا على قوتها, ولكنها تعتمد على اتباعها لما أوحى الله إليها من الهدى فتتفكّر فيه, دون أن تفرّط في استثمار ثروة, ولا طلب علم ولا اتخاذ أسباب القوة: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وإنما تشقى الدنيا بمن أوتي مالا وعلما وقوة , ولكنه لم يؤت الحكمة في استعمالها, وعلى العكس, فإن الدنيا تسعد بمن اتبعوا ما أوحي إليهم من ربهم, ومما أوحي إليهم أن يمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزقه, وأن يتمكنوا في الأرض فيستثمروا ما جعل الله لهم فيها من معايش, فيشكروا الله.
وحيث أن الشرك فساد في الفطرة وفي العقل, فإن الله للناس طريق الهداية إليه قبل أن تأتيهم رسالات الله, وبعد أن تصلهم, وذلك يبدأ من العقل والتفكُّر, كما فعل إبراهيم عليه السلام, حين تمرّد على ما وجد عليه أباه الذي ربّاه, وقومه أبا عن جد, وخرج من الصندوق المظلم الذي يحبس الناس فيه حين يتبعون آباءهم الأقدمين ويعتادون على الاتباع الأعمى دون تفكير ولا إعمال عقل, خرج إلى نور العقل والتفكير والتدبّر بالفطرة, فأراه الله ملكوت السماوات والأرض, وليكون من الموقنين..( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75))
إن كلمة “وكذلك” هنا تعني المنهاج والخطوات التي يُرِي الله بها ملكوت السماوات والأرض, ويجعل الإنسان من الموقنين, وهو يتلخص في إعمال العقل والتفكير في مراجعة ما اعتاد الناس عليه بالاتباع الأعمى, وفي قراءة آيات الله الكونية في محاولة للوصول إلى الحقيقة.
ويحقق إبراهيم عليه الصلاة والسلام, الأمن بإيمانه وعقيدته السوية التي يصل إليها كل عاقل متدبّر لخلق الله: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
ومن تراكم حضارات الأمم جاءت الحضارة الإنسانية التي يبنيها منهاج الله, الذي يستعرض قادة الهداية في التاريخ من رسل الله, ويأمر بالاقتداء بهداهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90))
وجاءت تلك الخبرات المتراكمة محفوظة في كتاب الله المبارك, مصدق الذي بين يديه, وجعل مركز العالم في أم القرى التي نزل فيها القرآن: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
ويؤكد الله أنه لا ينفع الإنسان شركاء من الناس أو الأشياء حيث يجيء إلى الله فردا ويترك كل شيء خوله وراء ظهره, لا ينفعه شفعاء ولا شركاء (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
ومن عالمية الحضارة الإنسانية التي يبنيها القرآن ويقيمها على منهاجه, أنها تستوعب كل الثقافات والأمم, وتحترمها, وتعترف بها وتعاملها, وبالتالي فلا يحدث صدام الحضارات كما يقولون ويدّعون, ولا يسبّ المؤمنون معتقدات المخالفين لمنهاج الله, العابدين من دون الله .. (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
وعندما يبلغ العقل رشده, وتتجلّى فطرة الله فيه, فإنه يتعرف على خالقه, ويعلم أنه جلّ وعلا له الخلق والأمر, ويدبّر الأمر, وبالتالي فإنه لا يبتغي غيره حكما, وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلا: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
ولا يتبع من دونه أولياء, فيضلونه عن سبيل الله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117))
وبالتالي فهو يحكّم الله ويوكّله حتى فيما يأكل ويشرب وبالكيفية التي يأمر بها الذي يدبّر الأمر: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118))
وتبلغ به الحكمة أيضا أن يعلم أنه ليس حرّا بعد أن توصّل إلى ربّه, فيضبط سلوكه على ما يرضيه وما يأمر به, فيذر ظاهر الإثم وباطنه: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
وبعد أن يتنبه العقل الإنساني إلى كل هذه الحقائق, فإنه يترك الغفلة, التي لا يتركه الله عليها ولكن يزيل أسبابها ويوجهه إلى الآيات الكونية التي يقتنع بها بوجود الله وحقه في أن يطاع لأنه يدبّر الأمر, وبالتالي فإن الله سبحانه لا يهلك القرى بظلم ولا بكفر, وأهلها غافلون, حتى يزيل الله أسباب الغفلة , لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل, فإذا ما تبين لهم ثم أصرّوا واستكبروا استكبارا, فليس بعد ذلك إلا أن يهلكهم الله باستكبارهم وافترائهم: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
إن للشرك أضرارا على الناس وعلى المجتمعات وعلى الحضارات..
فحين يشرّع الناس لأنفسهم, فيخطئون ويصيبون, ويجرون التجارب على البشر وعلى الأمم فتشقى بهم, وتتأثر حتى ثرواتهم واقتصادهم, فحين يعبد الهندوس البقر ويقدسونه فلا يذبحونه ولا يأكلونه,فهم بذلك إنما ينتقصون من ثرواتهم ويحرمون من طعام أحله الله, فيصابون بآثار اقتصادية جمّة: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
بل وقد يتهورون ويصدقون شركاءهم فيقتلون أولادهم, وهل بعد ذلك من سفاهة وجريمة وسوء سلوك! (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
ويظلون يتفننون في التشريعات بغير الحق, يصيبون مرة ويخطئون مرارا, ويرتكبون الحماقات الاقتصادية والجنائية والعائلية والاجتماعية, وكل ذلك تخلّف وانهيار في كل شيء بسبب شركهم واتخاذهم من دون الله أولياء: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
ويظل الله ينبه العقول المشركة إلى آياته الكونية التي تدل على أن مبدعها هو الخلاق العليم, حتى تصل عقولهم إليه سبحانه, فتصل إلى الحكمة, فتتقبل أن يدبّر لها الأمر, فتلتزم بما يشرع لها: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)) وهنا يتخذ الله سبحانه من مدلولات آياته الكونية والقرآنية مبررا لأن يأمر فيتبع أمره في التصرف في الثروات وتوزيعها كما يأمر الله, فيؤتوا حق الثمار يوم حصاده.
وبعد أن يفنّد الله الشرك ويبين حقيقته, ويبين حق الله الخالق في أن يطاع, ويبين حاجة الإنسان لله رب العالمين في المغنم والمغرم, في الرخاء والشدة, فإنه يبين أنه ليس من حق أحد أن يتدخل في شأن الإنسان إلا الله سبحانه, (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) والذي حرم الشرك, يتدخل في العلاقات الأسرية (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا), وفي حدود العلاقة مع الأولاد بسبب الحالة الاقتصادية, (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) , كما يتدخل في التصرفات الشخصية (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151), وفي المحافظة على مال اليتيم, (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) وفي المعاملات التجارية, (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا), وفي العدل في القول وفي الشهادة, وفي العهود والوفاء بها, (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)). وبصفة عامة فإن له صراطا مستقيما يأمرنا باتباعه وبعدم اتباع السبل الأخرى لغير الله, فتفرق بنا عن سبيله, فهذا شرك بالله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153))
والمطلوب ليس مجرد الإيمان المحض بالله, بل كسب الخير في الإيمان, ويوم يأتي بعض آيات ربك, قد تستوي نفس غير مؤمنة, مع نفس لم تكسب في إيمانها خيرا: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
ونصل إلى نهاية مرحلة وقاية منهاج الحكمة من الكفر والشرك, ليعلم الناس أن الحكمة في ألا يعبدوا إلا الله, كما لخصها الله في مطلع سورة هود, وليعلموا أن الصراط المستقيم, والدين القيم هو ملة إبراهيم حنيفا, وما كان من المشركين, (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)) ويكون كل شيء يفعله المسلمون هو لله رب العالمين: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
ولا يبغي العاقل ربّأ غير الله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
ويصل منهاج الحكمة إلى أن يعمم على الأرض بتكليف من الله: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
صدق الله العظيم , والحمد لله ربّ العالمين