سورة هود هي السورة الثانية من سلسلة السور المبدوءة بحروف ألف لام را, والتي افتتحت بذكر الحكمة: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ..)
وإن كانت سورة يونس تمثل أساس الحكمة وقواعدها, وسنّة الله في بناء الحكمة في قلوب عباده وعقولهم, فتمنعهم من الخطأ ومن الذنب ومن الظلم, ومن الجهل في عقيدة سليمة بنيت على الاختيار لا على الإكراه والإجبار, فإن سورة هود تمثل بناء الحكمة, فوق هذه العقيدة الاختيارية, التي هي باختصار (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)
فمن يعبد الناسُ إذن إن لم يعبدوا الله؟ وما الذي يشرك به الناسُ مع لله ؟
وما الذي يحول بين أن يفرد الناس الله بالعبادة والطاعة؟
إن هناك آلهة أخرى يعبدها الناس.. فما هي هذه الآلهة؟ ولماذا يعبدها الناس؟ وكيف يتركونها ويعبدون الله وحده لا شريك له؟
وما فائدة ذلك في بناء الحضارة الإنسانية؟
إن عبادة غير الله هي رأس الفساد الذي به تهلك الأمم والحضارات, كما وأن أفراد الله بالعبادة هو رأس الإصلاح الذي به تقوم الحضارات ويصونها الله من الهلاك.
إن هناك أسبابا كثيرة تغري الناس على أن يشركوا مع الله شيئا, أو أن يعبدوا غير الله , وألاّ يكبّروا الله , فيبينها الله سببا سببا, ويحللها بمعايير الحكمة, ويعالجها بكل الوسائل…
المحور الأول: أوجه عبادة غير الله:
- الضعف أمام المغريات:
حين يمارس الإنسان طاعته لله, سيجد صعوبات في الالتزام الكامل بما أمر الله به, ويتعرض في سبيل ذلك إلى المغريات, فيخطئ. وكل ابن آدم خطاء. وفي اللحظة التي يخطئ فيها الإنسان لا يكون محسنا المراقبة لله, ولا يكون على إيمانه. فإن أخطأ فعلا, فإن الله يعالجه ويعاجله بالحلّ. فيدعوه للاستغفار ثم التوبة.. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ …)
والذنوب والإصرار عليها سبب رئيس في انهيار الحضارات كما جاء في سورة الإسراء (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)) - الظن بأنه لا يراجعه أحد:
وقد يظن الإنسان أنه لا مرجع له, يفعل الشيء ولا يراجعه أحد فيه.. فيعالج الله فيه هذا فيقول..(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)) وهذا مما يساعد الأمم على الالتزام بالحكمة والبعد عن الخطأ تحسُّبا للرجوع إلى الله للحساب. - الظن أنه يمكنه الاستخفاء من الله:
وتأتي الذنوب التي هي سبب في الإهلاك, بسبب الظن بأنه لا رقابة, وأنه يمكن الاستخفاء, والله محيط بنا, فلا يمكن لأحد أن يستخفي منه, ولا أن يظهر أنه يخلص لله , وهو يبطن غير ما يظهر..(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)) - الرزق:
قد يعبد الناس الرزق.
إن الرزق والسعي لتحصيله, عادة ما يكون سببا في العمل. ولكنه سبب خطير لو كان على غير قاعدة من الإيمان بالله. ففي سبيل تحصيل الرزق, يمكن أن يلجأ الإنسان إلى أية وسائل حتى ولو كان فيها ما يسخط الله عليه, من أكل أموال الناس بالباطل, والإدلاء بها إلى الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وهم يعلمون, ومن غِشٍ في سبيل مزيد من الرزق, ومن سرقة ورشوة وفواحش وإثم وبغي بغير الحق, وأكل لمال اليتيم, واستحلال أموال الورثة عند تقسيم التركات. ولهذا فإن الله يبدأ في بيان كفالته الرزق لا للناس وحدهم ولكن لكل دابة في الأرض, ويودع ذلك في كتاب مبين: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6))
فلا يقلقنّ أحد على رزقه, وإذن فلا داعي بعد ذلك لأن يذل الإنسان نفسه لذنب لكي يحصل على رزقه الذي كفله الله له, ولا ينبغي للإنسان أن يشغل نفسه بالرزق وتحصيله, ولكن عليه أن يشغل نفسه بعمله الذي كلفه الله به, والذي لن يعمله غيره, فليجتهد فيه.
وليكن الرزق هو النتيجة للسعي في سبيل الله, ولا ينبغي أن يكون الرزق هو الهدف
ولو توسعنا في فهم الرزق, فإنه يشمل الصحة, والأولاد, والسعادة, والزوجة الصالحة, والعمل الصالح, والكلمة الطيبة, والجار الطيب, وحالة الطقس, وما يخرجه الله من الأرض, وما ينزل من السماء, والنجاح..
بهذا المفهوم, فإن المجتمعات تستقيم في أعمالها على أساس ضمان الله لرزقها, والانضباط في تحصيله, بغير فساد ولا إفساد. - أحسن العمل هو أخلصه لله
إن أساس خلق السماوات والأرض هو ابتلاء الناس أيهم أحسن عملا, ويحاسبهم عليه من بعد الموت..(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا … ) ولم يقل أكثر عملا, ولكي يكون العمل أحسن لابد أن يكون مخلصا لله, وعلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. - طول الأمد
يؤخر الله عذابه للمشركين والكافرين والضالين والمذنبين, رحمة منه سبحانه. فهو يمهل ولا يهمل. ولكن تأخير العذاب قد يشكك بعض الناس في حقيقة وقوعه. فيستهزئون بنصيحة الناصحين, ويلهيهم الأمل في استمرار حياتهم, والموت يأتي بغتة, ولا تأتيهم الساعة إلا بغتة, وحيث لا ينفع الندم. (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) - الخوف من نزع رحمة
قد يعبد الإنسان النعمة, فيعبد ربه طالما هو مستمتع بنعمته, فإن أصابه خير اطمأن به, وإن نزعه الله منه يئس وكفر. ويبلوه الله بنزع الرحمة والنعمة منه ليرى – وهو أعلم – كيف سيكون ردّ فعله, أكان يعبد الله فقط لنعمته أم أنه سيظل ثابتا حتى ولو نزعت منه النعمة؟ وأغلب الناس ييئسون ويكفرون حين تنزع منهم نعمة من نعم الله. (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)) والمراد بالرحمة هنا: النعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن. - الفرح بالنعماء بعد ضراء
وقد يعبد الإنسان ربه بسبب وقوعه تحت ضراء مسته. فيظل يتضرع إلى الله ويخشع له ويدعوه, فإن أذاقه الله نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنيّ, ويفرح بما أصابه من نعماء ويفخر بانتهاء معاناته, ويترك الضراعة لله, ويبغي في الأرض بغير الحق, وينسى كل ما كان يدعو إليه من قبل (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء ظهور أثر الإضرار على من أصيب به.
معالجة اليأس والكفر والفرح والفخر
المؤمن ثابت في كل حال, صابر على البلاء بالشر, وعلى البلاء بالخير. لا يهتز ولا يأسى على ما فاته, ولا يفرح بما آتاه, ويعمل صالحا في كل حال, وهو لا يبتغي إلا وجه الله. (وما لأحد عنده من نعمة تجزى* إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) فإن خلصت نيته, وخلص عمله لله, فإنه لا يهتز لتغير النعمة عليه. ( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11))
وعلى الإنسان في كل حال أن يصبر ويعمل الصالحات لوجه الله, فتكون له مغفرة وأجر كبير. فأحسن العمل وأخلصه لا يعتمد على النتائج العاجلة التي تتحقق منه, ولا على حال الإنسان من الرحمة أو نزعها, أو من النعماء أو الضراء, ولكنه مربوط فقط بعبادة الله وحده لا شريك له دون أغراض في الدنيا حتى وإن كانت الحصول على الرحمة أو النعماء, ولكنه مخلص في كل الأحوال
- القوة المالية والمادية:
إن بعض الناس ينتظر حين يعبد الله, أن ينزل الله عليه كنز, أو يهبه القوة, ويتوقع أن يفعل الله ذلك مع رسوله, ولكن الله يأبى أن تكون الدعوة إليه مرتبطة بجائزة عاجلة مادية في الدنيا, وإلا لكان الناس جميعا مؤمنين يتبعون الرسل ابتغاء أجر وثراء وقوة. فلا يبنى إخلاص ولا يبتلى مؤمن. ولا يجازي الله المؤمنين على إيمانهم كنوزا في الدنيا, فالإيمان المبني على انتظار جزاء في الدنيا من كنوز أو قوة, لا حاجة لله به, ولا إخلاص فيه, ولكن الله يبني أساس الإيمان على الإخلاص لله والتسليم له, ومن خلال ذلك فإن الله يمنح أو يمنع, فهو على كل شيء وكيل…
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) - التشكك في أن القرآن كلام الله:
سبب آخر لبُعد الناس عن إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
فكتاب الله فيه كل دليل وحكمة تجعل القارئ له بعين الحق يصل إلى الإخلاص لله. فإن صدّق الناس به وبأنه كلام الله المنزل على رسوله, فإنه يغنيهم عن الجدل والحيرة والتخبّط.
وعلى العكس من ذلك, فإن تشكك الناس في أن القرآن كلام الله, فإنهم لا يهتدون ولا يعملون ولا يخلصون, ولهذا يثبت الله لهم أنه من عنده, فيتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات, وأن يدعون من يحكم ويقارن بين القرآن وبين ما يأتون به.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) - إرادة الحياة الدنيا وزينتها:
لون آخر من ألوان الشرك بالله, وعبادة غيره سبحانه..
قد يكون الهدف من عمل الناس هو تحصيل الحياة الدنيا وزينتها, من مال, ونساء وبنين, وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة, والخيل المسومة, والأنعام والحرث, والمساكن الطيبة, والسيارات, والممتلكات. وكلها يتسابق الناس فيها, ويسعون لتحويل نتاج عملهم إلى متاع من كل ذلك. ومن أراد ذلك, فإن الله يعطيه مقابل عمله ما يسعى إليه, ولا يبخسه حقه ولا عمله. إلا أنه لا يحصل على مكانة في الآخرة, فهي لا يعطيها الله إلا للمخلصين الذين لا يعبدون إلا الله. فالله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب, ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
حيث لم يكن عملهم على أساس الإيمان, وما طلبوه يعطيه الله لهم, ولكنه لا يعطيهم ما لم يطلبوه ولم يسعوا إليه. - الفطرة تبعد عن الشرك:
من يعبد غير الله, أو يشرك مع الله شيئا أو أحدا في العبادة وفي الطاعة, فهو مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها. إن البينات التي ينزلها الله في كتابه تجعل الإنسان يوجه عمله لله, ولا يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجا, ولا يكفر بالآخرة.
والإنسان يولد على الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها, وهي البينة من ربه, ويتلوه شاهد منه من القرآن الذي يثبت الفطرة في النفوس والقلوب والصدور, ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة, لا يكفر بها إلا كافر فالنار موعده.
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) - الافتراء والكذب على الله والصدّ عن سبيله
وتأتي أهم أسباب الشرك والكفر, وعبادة غير الله, فيمن افترى على الله كذبا..
فبعد نفي كل الأسباب السابقة والتي تؤدي إلى الشرك والكفر, فإن من يتمادى فيهما يكون ظالما يحاول انتقاص حق الله في أن يعبد وحده لا شريك له, وفي أن يطاع دون سواه… ويكون مصيرهم كما بينه الله سبحانه..
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ, يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
كان هذا هو المحور الأول لسورة هود, يبين أساس الحكمة (ألا تعبدوا إلا الله) وتطبيقاتها وتفصيلاتها.
المحور الثاني: الموعظة من القصص:
ثم يأتي المحور الثاني في القصص التي يبين الله منها الموعظة في تطبيقات هذه الكلمة..
ففي القصص المروي في السورة إشارات إلى العمل الصالح المخلص لوجه الله الكريم, وليس لوجه أحد مع الله, ولا لشيء من دون الله, حتى وإن كان هذا الشيء هو نعمة الله ورحمته يذيقها الله للإنسان, سبحان الله وتعالى عما يشركون.
فالأنبياء لا يسألون أجرا على دين الله ودعوته , ضاربين المثل على العمل المخلص لله وحده, لا يؤدونه إلا لله, وهكذا ينبغي أن يكون كل مخلص في بنائه للحضارة الإنسانية بإذن الله وهداه. وأقوامهم يسألونهم أغراضا أخرى غير الله, ويتوقعون أن يستفيدوا من وراء إيمانهم بالله غير وجه الله,
● فيسألون مالا أو جاها (أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ)
● أو فضلا فيقولون لنوح عليه السلام: (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)
● أو إصرارا على ما اعتادوا عليه, فيقولون لهود عليه السلام: (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ )
● أو استقرارا على ما كان يعبد آباؤهم ويقولون لصالح عليه السلام (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)
● أو عدم اعتداد بالحق بسبب أنهم يرون نبيهم فيهم ضعيفا, فيقولون لشعيب عليه السلام (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ),
● أو اتباعا للقوي المستبد الظالم (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)
وقد تدرجت دعوة الأنبياء لقومهم بعرض منافع في الدنيا مقابل عبادتهم لله, بإرسال السماء عليهم مدرارا, وزيادتهم قوة إلى قوتهم, حتى جاءت دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لتكون عبادة الله وحده ليس لها هدف سوى الله, ولا يختلط بهذا الهدف أية منافع أو أهداف سوى وجه الله والإخلاص له. فحاجات الناس ومنافعهم تتغير بتغير الزمان, ولكن الإخلاص لله لا يتغير ولا ينقص بتغير أحوال الناس.
وهنا, فإن الله قد أذاق نوحا منه رحمة, بأن وهبه ابنه, وحين نزع هذه الرحمة منه, فلم ييأس ولم يكفر, ولكنه كان من الذين صبروا وعملوا الصالحات.
وإبراهيم عليه السلام, وهبه الله نعماء بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب, على ما كان عليه من الكبر, فلم يغتر بالنعمة.
بعد كل هذا الاستعراض, تتوثق معاني كلمة (ألا تعبدوا إلا الله) فلم تعد تقتصر على الصلاة والزكاة والصيام والحج, ولم تعد تقتصر على التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير بالفم, وإنما أصبحت تستوعب كل قول أو صمت, أو فعل أو ترك, يؤديه الإنسان في حياته, وصدق الله العظيم (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين, لا شريك له)
المحور الثالث: وهو خلاصة السورة:
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
والاستقامة والثبات عليها مطلوب لتثبيت الناس أمام الابتلاءات, وأمام الإغراءات, وأمام الضغوط
وبعد الاستقامة ينهى الله عن أن نركن إلى الذين ظلموا فتمسنا النار, ويأمر بالصبر والإحسان
وبالتالي فإن صيانة الحضارة الإنسانية تأتي من محاربة الفساد الذي يؤدي إلى أهلاك الأمم:
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
وإن السبب الذي أهلك الله به القرون من قبلنا, أنهم رفضوا النصيحة ولم يتناهوا عن الفساد في الأرض, فاستمر الفساد, حتى حل عليهم غضب الله سبحانه.
والخطأ وارد بل وحتميّ لكل بني آدم, ولكن خير الخطائين التوابون. فإن اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين, ولكنهم واجهوا من ينهونهم عن الفساد في الأرض, فإنهم قد يعودون للصواب, ويتركون الظلم, وقد يقصرون عن المزيد من الفساد, وقد يستمرون, ولكن نهيهم عن الفساد في الأرض, يردع غيرهم من سلوك مسلكهم, فلا يضاف مفسدون جدد, وقد يغير الله ما بأنفسهم حيث بدءوا هم في التغيير.
لقد لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم, ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون, كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه, لبئس ما كانوا يفعلون,
ولم يكن الربانيون والأحبار ينهونهم عن الفساد, وإن نهوهم فلم ينتهوا كانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم ويجالسونهم, فعمهم الله بعذاب من عنده.
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
إن الكفر في حد ذاته لا يهلك الإنسان به, فإن من سنن الله أنه لا إكراه في الدين, فهو سبحانه خلقنا فمنا كافر ومنا مؤمن, ولكن الذي يهلك الأمم هو الفساد, فإن كانت أمة مؤمنة بالله ولكن الفساد يعمها, فقد يهلكها الله, وإن كانت أمة كافرة وأهلها مصلحون, لا يهلكها الله.
أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد , كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان , وقوم لوط باللواط ; ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك , وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب . وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) وبالتالي فإن الله قال: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فكانت الخيرية مرتبطة بمقاومة الفساد والمنكرات, وبالأمر بالمعروف والإصلاح والإيمان.
كما يوصي رسول الله صلّى الله عليه وسلم, الذي يبين للناس ما نُزِّل إليهم, ويأمر وينصح بكل ما ينهى عن الفساد في الأرض, فيقول:
● من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان,
● أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر
● انصر أخاك ظالما أو مظلوما
● الساكت عن الحق شيطان أخرس
وتكون الحكمة في سورة هود متمثلة في ثلاث مراحل:
- بيان ومعرفة الحق,
- ثم ضرب الأمثال من أحوال الناس لأخذ الموعظة,
- ثم الخلوص من ذلك بنتائج محددة وبقناعة ويقين في المفاهيم والمعتقدات والتصرفات, تكون ذكرى مستمرة ومتكررة لا يُغفل عنها.
وقد قال الله تعالى في نهايات سورة هود:
وكلا نقص عليك من أنباء ما قد سبق, وجاءك في هذه الحق, وموعظة وذكرى للمؤمنين
وهي أيضا ثلاثة, أعتقد أنها هي نفسها: ألف لام را, والله أعلم.
الحق: ألا تعبدوا إلا الله
الموعظة: ما جاء في القصص
وذكرى للمؤمنين: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا), وما بعدها
والله تعالى أعلى وأعلم..