منظومة الحكمة

0 تعليق 358 مشاهدة

تسلسل منهاج القرآن الكريم بترتيب مناسبات نزوله في مراحل بناء الحضارة, فبدأ ببناء قواعد الإخلاص ونواة الأمة في الأئمة الناصحين في السور (من اقرأ إلى الإخلاص), ثم توسّع في مشاركة كل طوائف الناس في البناء (من النجم إلى القمر), ثم بنى القيادة (من ص إلى مريم), ثم شارك الجميع في مواجهة التحديات والشدائد (من طه إلى القصص), ثم هاهو الآن يضع قواعد الحكمة وتطبيقاتها (من الإسراء إلى سبأ) ليغرسها في القلوب والعقول فتكون بمثابة المانع من الخطأ والزلل والجهل والظلم.

والحاء والكاف والميم أصل واحد يدل على المنع, ومنها الحكمة، وهى تأتى من الإيمان الذي يمنع الكفر والشرك, وتأتي من العلم الذي يمنع الجهل بالأشياء، وتأتى من حسن الخلق الذي يمنع الجهل على الناس بأرذل الأخلاق, وتأتي من التشريع الذي يضع قواعد الصواب والخطأ, وتأتي من العدل الذي يمنع الظلم والاعتداء, ثم تأتي من العمل الصالح الذي يمنع الكسل والكفر بالنعمة.

والحكمة بذلك هي الأساس في بناء الحضارة الإنسانية فوق قواعد الإخلاص. وأي بناء بغير حكمة, سوف يؤدي إلى الخطأ, والجهل والظلم. وبذلك تكون الحكمة أيضا صيانة للحضارة, وحفظا لها من عوامل الهلاك والدمار والهدم.

ومن الملاحظ مبدئيا أن مجموعة سور (ألف لام را) فيها ذكر للحكمة, فسورة يونس (تلك آيات الكتاب الحكيم) وفي هود (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) وفي يوسف (إن ربك عليم حكيم… إنه هو العليم الحكيم …. إنك أنت العليم الحكيم) وفي الحجر (وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم) وتتلوها سورة ألم لقمان: (تلك آيات الكتاب الحكيم) .. (ولقد آتينا لقمان الحكمة)

فيكون الحكيم هو المتقن للأمور ، المنضبط في تصرفاته مع الناس, فلا يظلم ولا يجهل. وكأن في قلبه وعقله نظاما مانعا للجهل وللظلم.. متقبلا للحق وللعدل ولحسن الخلق وللعلم.

وإذا أوتي الإنسان الحكمة، فإنه يمتنع بها عن الجهل بالأمور فيتعلم, ويمتنع بها عن الجهل على الناس فيتعامل, ويمتنع بها عن الكفر والشرك فهو ظلم عظيم, فيؤمن ويشكر بأعمال يطيع الله بها.

وحيث أنه من المستحيل أن يكلف الله شرطيا على كل إنسان ليمنعه من الخطأ والظلم والجهل, كما يتعارض ذلك مع الحرية والتكليف, فإن الله ينشئ في وجدان كل إنسان قدرا من الحكمة تمنعه ذاتيا, حتى ولو لم يره أحد من الناس وحتى ولو لم يمنعه ذو سلطان. وحتى لو لم تطله يد القانون.

وكما أن الله سبحانه قد خلق في جسم الإنسان جهاز مناعة ذاتي, يمنع تأثير الميكروبات والأمراض, فإنه جلّ شأنه يقيم سلطان ربوبيّته فينشئ جهاز مناعة في العقل والقلب والوجدان, يمنع من الخطأ والجهل والظلم والكفر والشرك.

وبدون الحد الأدنى من الحكمة الذي فطر الله الناس عليه, فإن الحياة تصبح فوضى, ويتصادم الناس ويتعاركون. وما يحدث بين الناس اليوم من مشاكل هو نتيجة لعدم بناء الحكمة في وجدانهم وقلوبهم وعقولهم.

فما هي منظومة الحكمة التي يضعها منهاج القرآن بترتيب مناسبات نزوله؟

إن أساس منظومة الحكمة يظهر في سورة الإسراء, ويقوم على توكيل الله في الأمر (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) ويخالفها ويهدمها تسليم الزمام للشيطان (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علىّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا)
والبناء الذي يكون بأمر الله هو بناء متقن قوي نافع لكل الناس, يبنيه الله بعباده المخلصين الطائعين له, ويصونه من الانهيار طالما ظل على توكيل الله وهو التسليم والعمل بهداه وأمره.
أما البناء الذي يشارك الشيطان فيه في الأموال والأولاد, فإنه يكون بناء فاسدا خبيثا, لا يرجى منه نفع لأصحابه ولا للناس, لا في الدنيا, ولا في الآخرة.
حتى المسجد الذي هو بيت الله, يمكن أن يؤسس على التقوى, أو يؤسس على الضرار, فلا يقوم فيه المؤمنون الصالحون, (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)

ولكي تستمر الحضارات محفوظة ممنوعة من الانهيار, فإنها تحتاج إلى الحكمة تستقر في قلوب أفرادها, وتتحول إلى طاقة عمل حسن مخلص لله دون غرض آخر فيه, وهذا ما يظهر في سورتي يونس وهود,

ثم يبين الله كيف يمكن أن تُبنى القيادات العليا في الأمم وكيف يمكّن لها في الأرض, فيصلح الله بها فساد الناس وفساد الأنظمة, ويواجه بها الأزمات, وذلك في سورة يوسف.

وبين الله في سورة الحجر كيفية معالجة الكفر, الذي ينكر وجود الله أصلا, فيؤدي إلى خروج على الحكمة ومنظومة السلام مع الكون والحياة,

ويعالج الله في سورة الأنعام الشرك بالله, الذي يؤدي إلى فساد الحضارات والأمم, فالذين كفروا بربهم يعدلون, فيلجأون لغيره, أو يشركون غير الله في العقيدة وفي التشريع وفي السلوك, فتفسد عليهم حياتهم. وهذا يؤدي إلى الفساد لحركة الإصلاح في الحياة, فيؤدي إلى الفساد الفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي, أو لنقل في كل مظاهر الحياة, كما يؤدي إلى أزمات اقتصادية وصحية واجتماعية ويؤدي إلى الجريمة واضطراب المجتمع, ولا يصلح مجتمع مضطرب لبناء حضارة.
وتخلص السورة إلى أن كل جزئية من الحياة الإنسانية يجب أن تخضع لحكم الله المتمثل في شريعته, وإلاّ فإن اتباع شرائع غير شريعة الله يعدّ شركا بالله, و يتنافي مع الإسلام والتسليم لله الذي يشمل الصلاة والنسك والمحيا والممات كله لله رب العالمين لا شريك له.
كما يبين في صدر السورة أن سبب هلاك الأمم وحضاراتها يكمن في ذنوب أهلها, مهما كانوا متمكنين في الأرض ولديهم كل مقومات الحضارة والقوة والاستقرار والاستمرار.

وفي سورة الصافات يزجر الله من لم يصل إلى قناعة بوجود الله, وبأن له الخلق والأمر. ويصل الإنسان إلى ذلك بأسباب واهية من علاقات اجتماعية أو سياسية أو وضع بين أهله وتاريخه يبين الدور الإيجابي للأفراد الحكماء في المجتمع في مواقعهم المختلفة, آباء و إخوة وأبناء وأزواج, في بناء الحكمة والحفاظ عليها كل في دائرته وموقعه, وعلى الجانب الآخر, بيّن دور مردة شياطين الإنس وأن الله يحفظ الأرض من شرورهم بأيدي عباده الصالحين, كما يحفظ السماء الدنيا من كل شيطان مارد من الجن,

ثم ضرب الله مثلا من داخل الأسرة, كيف يبني الآباء من عموم الناس الحكمة في أبنائهم, وكيف يسلك الأبناء طريق الآباء حين يبلغهم سبيل الله, وإلا فليتبعوا سبيل من أناب إلى الله, وذلك في سورة لقمان, الذي آتاه الله الحكمة أن اشكر لله, تماما كما آتى الله سبحانه الحكمة للناس أجمعين في آيات كتابه الكريم.

وفي سورة سبأ, ربط الله سبحانه بين عنصري الحضارة على لسان ورؤية الذين أوتوا العلم (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)) فالذين أوتوا العلم يرون الذي أنزل من آيات الله هو الحق, يهدي إلى صراط العزيز الذي يؤدي إلى العزة, وهي القدرة على الغلبة والنصر, في نفس الوقت الذي يؤدي إلى صراط الحميد, فيأخذ الإنسان المؤمن الصالح ما آتاه الله من نعم وثروات, فيعمل فيها ويستثمرها شكرا لله, لا خوفا من غيره, ولا طاعة إلا لله سبحانه, فينشئ بها عمارة الدنيا, وزخرف الأرض, صناعة وزراعة وفنونا..

وإلى تفاصيل منهاج بناء الحكمة من القرآن بترتيب مناسبات نزوله..

Sub Categories

نريد أن نكون من الذين قال الله فيهم: (ولقد يسرنا القرآن للذكر, فهل من مُدَّكِر!) نحيا بالقرآن, فنتعلم كيف نتدبّره, ونعمل به ونعلمه, كمنهاج حياة, فهو إمامنا نحو بناء الحضارة الإنسانية

روابط المقالات

اشترك

اشترك فى نشرتنا الاخبارية لتتابع جديد المقالات والاخبار

Develop By Quran – Copyright 2012 / 2022 – All Right Reserved

arArabic