سورة التكاثر في منهاج بناء الإخلاص, تمثل التدريب على التصديق بالحسنى, فمن آمن بالجنة وصدق بها, وعمل على أن يكون فيها في أعلى عليين بأمر الله وإذنه, فإنه لا تغريه الدنيا بشيء, في نفس الوقت الذي يسعى فيها ليمتلكها, ليقيم فيها دين الله, ليكون الدين كله لله.
ومن الدعاء الجميل: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وأيضا: اللهم اجعل الدنيا في أيدينا, ولا تجعلها في قلوبنا
وبعد رابطة العصر التي جمع الله فيها بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وجعلهم يترابطون ويتشاركون ويتشاورون ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر
.. و بعد الكوثر , بدأ الأصحاب والأتباع يتكاثرون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومازالوا يتكاثرون بعد وفاته- بأبي هو وأمي-
بعد رابطة العصر, وبعد التكاثر, بدأ التدريب الجماعي على الزهد (ألا يملكك شيء) والبرهنة على التصديق بالحسنى, استكمالا لدروس سورة الليل التي بينت أن من أعطى واتقى, ويصدق بالحسنى, فسيسره الله لليسرى, وأنه لا يبتغي بعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى, ثم استكمالا لدروس سورة الفجر التي عددت مظاهر للتصديق بالحسنى, وللعطاء, بإكرام اليتيم, والحض على طعام المسكين, فإن سورة التكاثر الآن تؤكد على الذين آمنوا ألا يلهيهم التكاثر, حتى يزوروا المقابر, وإنما هم يعتبرون النعيم مسئولية, يجب عليهم تجاهها أن يشكروا الله سبحانه, حيث سيسألهم عن النعيم الذي أعطاهم في الدنيا.
يسأل الإنسان عن عمره فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين جاء به, وفيم أنفقه قبل أن تزول قدماه يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى
إذن فالإخلاص يوجب عدم الالتهاء بالتكاثر, وعدم وضع التكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته, ثم يهيج فتراه مصفرا, ثم يكون حطاما, كما بين الله شأن الحياة الدنيا في سورة الحديد:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
ولهذا يحذر الله عباده الذين آمنوا في بدايات التنزيل الكريم, من أن يلهيهم التكاثر, فيقول:
أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)
وليس هذا انتقادا للتكاثر من الخير في حد ذاته , ولكن في الالتهاء بالتكاثر. فقبل أن ينعم الله على عباده الصالحين, فهو يحذّرهم من أن تشغلهم نعمه عنه سبحانه, فيذكّر بالمقابر, وبأنه كلما زاد علم اليقين , فإن الإنسان يقترب من التصديق بالحسنى إلى حد رؤية الجحيم , عين اليقين . وليعلم أن النعيم مسئولية قبل أن يكون ميزة. ثم لتسألُنّ يومئذ عن النعيم.