وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
جعل الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب لسان صدق عليا, ولكنه رفع إدريس مكانا عليا
تأتي صفة إدريس هنا كنتيجة طبيعية لإنسان بدأ بنية ميراث الكتاب, ودعا أبوه الله أن يجعله رضيا, ومرّ بمراحل الصبى والغلام والفتى والشاب والرجل, اتصف في كل مرحلة بصفاتها التي تزرع وتغرس فيها, فيرفعه الله مكانا عليا,
وبرسم المنحنى الصاعد من يحيي إلى إدريس, يكون إدريس هنا في سورة مريم, ممثلا لشيخ, يرفعه الله كنتيجة لحسن الإعداد والتربية حتى يصل إلى المكان العليّ.
وبهذا يصل الطفل الذي توجه أبواه بالنية لله كما توجه زكريا عليه السلام, أن يجعله وارثا لكتاب الله ومسئولية نبيه رحمة العالمين, ويربياه في مرحلة الصبى بأخلاق وصفات يحيي عليه السلام, وفي مرحلة البلوغ يزرعان فيه صفات عيسى عليه السلام, ثم في مرحلة الفتوة يكون بأخلاق إبراهيم مع أبيه الذي رباه, ثم بصفات موسى حين يتزوح ويكون له أطفال وإخوة, وفي مرحلة الحكمة يتصف بصفات صادق الوعد إسماعيل عليه السلام, حتى يرفعه الله إن شاء مكانا عليا
وبين الصفات التي يجب زراعتها أو جعلها في كل مرحلة من حياة أبنائنا الذين نعدهم ونؤهلهم لميراث الكتاب, جمع الله سبحانه آثار هذه التربية عليهم فقال:
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
إنهم يستجيبون لآيات الرحمان إذا تتلى عليهم, خرّوا سجّدا وبكيّا. استجابة لها, وتأثرا بها. هم الآن مستعدون لتلقّي آيات الرحمان, والتأثر بها والعمل بها, والدعوة إليها.
يمكنك التعرف على مستوى التربية الذي وصلت بأبنائك إليه, بأن تختبرهم في أمر من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فإن وجدتهم قالوا سمعنا وأطعنا, وكانوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا, فقد أنعم الله عليك وعليهم بالهداية وبالجنة إن شاء الله.
أما أنك تقول لهم قال الله افعلوا كذا, وقال رسوله, فيعصون, فإنهم لا والعياذ بالله لم نتجح فيهم التربية, ونسأل الله السلامة
وكما نأتي بطفل لا يعلم اللغة الألمانية, ثم نعلمه هذه اللغة, حتى إذا تعلمها فإنه إذا تتلى عليه أية نصوص من هذه اللغة, فإنه يفهمها ويتأثر بها.
وكما يدرس طالب في كلية التجارة قواعد التجارة وعلومها, فإذا تتلى عليه بعد ذلك نصوص في نفس التخصص, فإنه يعيها ويتأثر بها ويعمل بها, وكذلك في أجهزة الكمبيوتر أو الحاسب الآلي, فإن الإنسان جاهل بها, حتى إذا تعلمها فإنه يسمع ألفاظها وتعبيراتها فيعيها ويفهمها.
ولله المثل الأعلى, فهو سبحانه يؤهلنا لتلقي آياته بهذه التربية والإعداد والصفات.
فيسهل بعد ذلك التلقّي مباشرة من آيات الرحمان, وتكون العلاقة مباشرة بين الإنسان المؤمن وبين كتاب ربّه
وإن لم نؤهل أولادنا لتلقي آيات الرحمان, فإنهم لن يتأثروا بها ولن يخروا سجدا وبكيا حين سماعها.
وهناك من الناس من لا يعي ولا يفهم ولا يعتبر بآيات الله, هؤلاء يصفهم الله في سورة الجاثية بقوله:
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)