خلاصة ما قيل في الحروف الفواتح
لخّص الأستاذ الدكتور حسين نصار في كتابه الجامع” فواتح سور القرآن” كل ما قيل في الحروف الفواتح حتى تاريخ صدور الكتاب عام 2002 ميلادية. وفيما يلي بعض مما ذكره:
“لعل الحيرة والتوقف كانا الاتجاه الأقدم فى السعى إلى معرفة مدلول هذه الحروف , تلك الحيرة التى يكشف عنها قول أبى بكر الصديق : فى كل كتاب سر , وسر الله فى القرآن أوائل السور .
ويماثل قول أبى بكر ما حكاه أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذى لايفسر
واتفقوا أن عليا قال : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى أنه أراد بذلك ما أراده أبو بكر , وإن كانت كلمته توحي إلى جانب ذلك بالامتياز والنقاء .
ومن ثم حكم ابن عباس بأن العلماء عجزوا عن إدراكها .
وعاد الشعبى إلى مقولة الصديق وزادها تفصيلا . قال داوود بن أبى هند كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داوود إن لكل كتاب سرا وإن سر القرآن فواتح السور فدعها وسل عما سوى ذلك فهي من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه , فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله وفائدة ذكرها طلب الايمان بها .
واتفق الرازى مع الشعبى فى تفويض علم الحروف المقطعة إلى الله , لأن الكرم فى امتثالها يضيق , وفتح باب المجازفات مما لاسبيل اليه .
وقال محمد عبده : نفوض الأمر فيها إلى المسمي سبحانه , ويسعنا فى ذلك ماوسع صحابة رسول الله وتابعيهم . وليس من الدين فى شئ أن يتنطع متنطع فيخترع ماشاء من العلل التي قلما يسلم مخترعها من الزلل .
وبلغ الأمر بالكتور عبد التواب إلى أن يتساءل : انه لمن العجب حقا أن ينطق النبي بهذه الرموز ولايفسرها للمسلمين , وهو مأمور بتبيين ذلك لهم بنص القرآن . فهل بين النبى هذه الرموز فى روايات ضاعت , ولم تصلنا , مات حاملوها فى الحروب المختلفة التى استعر أوراها بعد وفاة النبى , ولم يورثوها لمن بعدهم فبقيت هذه الرموز – لذلك – بلا تفسير معقول حتى الآن ؟ هذا أمر لانستطيع أن نجزم به . كل مانستطيع أن نقوله : ان جميع الحلول التى وصلتنا حتى الآن لا تقنع البحث الحديث , وإن هذه الرموز كانت لغزا فيما مضى , ولا تزال لغزا حتى الآن .
ولم يكن هذا رأى جميع العلماء بل كان منهم من رأى إمكان معرفة مدلولها , ومن لم يقنع بمجرد الإمكان , بل تصدى للتأويل فعلا . فوصلت الينا أقوال من كعب الأحبار وابن مسعود وعلى وابن عباس وابن الحنفية وأبى فاختة وأبى العالية وسعيد بن جبير من أهل القرن الأول, ومن غيرهم , وممن تبعهم فى الأجيال تفسر بعض الحروف.
وربما كان الزجاج أول من أعلنها صريحة : “أذهب الى أن كل حرف منها يؤدى عن معنى” .
وفتح ابن فارس باب العلم بالحروف أمام بعض الناس , فأعلن أنها من السر الذى لايعلمه إلا الله والراسخون فى العلم .
وفتح ابن عطية الباب على سعته , فرأى أن جمهور علماء المسلمين يرون أنه لايوجد فى كتاب الله ما لايفهم .
وأفاض الرازي في الاحتجاج لكون هذه الحروف ذات مدلول معلوم, قال: أعلم أن المتكلمين أنكروا القول بسريتها, وقالوا : لايجوز أن يرد فى كتاب الله مالا يكون مفهوما للخلق , واحتجوا على ذلك بالآيات , والأخبار والمعقول . واستشهد بالآيات التي يأمر الله فيها بتدبر القرآن, وبأنه بلسان عربي مبين, وأن الكتاب (تبيانا لكل شيء) فوجب كون القرآن مفهوما.
وأما الإخبار فقوله صلّى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي). فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وعن على أنه -عليه السلام – قال “عليكم بكتاب الله , فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم , وحكم مابينكم . هو الفصل ليس بالهزل . من تركه من جبار قصمه الله . ومن اتبع الهدى فى غيره أضله الله . وهو حبل الله المتين , والذكر الحكيم والصراط المستقيم . هو الذى لاتزيغ به الأهواء , ولا تشبع منه العلماء , ولايخلق على كثرة الرد , ولاتنقضى عجائبه . من قال به صدق , ومن حكم به عدل , ومن خاصم به فلج . ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم “.
وأما المعقول: فمن وجوه:
أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به, لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية, ولما لم يجز ذلك, فكذا هذا.
وثانيها: أن المقصود من الكلام الإفهام, فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة به عبثا وسفها, وإن ذلك لا يليق بالحكيم.
وثالثها: أن التحدي وقع بالقرآن, وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التحدّي به.
وعاد القرطبى إلى الإغلاق غير فسحة ضئيلة , اذ أعلن أن هذه الحروف اختصار من كلام الله , خص الله رسوله بعلمه .
وهاجم ابن كثير من ذهبوا إلى أنها لتأكيد العبادة فقال : ومن قال من الجهلة : إن فى القرآن ماهو تعبد لامعنى له , فقد أخطأ خطأ كبيرا .
وأجمل الزركشي كلام الرازي فى فقرات قلائل قال فيها : قال الإمام الرازي : وقد أنكر المتكلمون هذا القول وقالوا : لايجوز أن يرد فى كتاب الله ما لايفهمه الخلق , لأن الله أمر بتدبره والاستنباط منه , وذلك لايمكن الإ مع الاحاطة بمعناه , ولأنه كما جاز التعبد بما لايعقل معناه فى الأفعال فلم لايجوز فى الأقوال بأن يأمرنا الله تارة بأن نتكلم بما نقف على معناه , وتارة بما لانقف على معناه , ويكون القصد منه ظهور الانقياد والتسليم .
وكشف د. غلاب أن فريقا من العلماء رأى أن محاولة الاجتهاد في كشف معانيها وفهم مراميها واجبة شرعا, للوقوف على أسرارها والانتفاع بها, تحقيقا للهدف الذي رمى إليه القرآن من ذكرها. وإلا فلو أراد الله أن تبقى مخبوءة, لكان من العبث الإكثار من ذكرها إلى الحدّ الذي بلغ تسعا وعشرين مرة, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ورأى د. زرزور أن من يذهبون إلى عدم الخوض في تفسير هذه الحروف أصلا لأنها-فيما قالوا- مما استأثر الله بعلمه, رآهم أضعف دليلا, واستند إلى أقوال الرازي, ختم بأن قال: لا خلاف على أن الغرض من الخطاب الإفهام, وعلى أن الصحابة والتابعين والعلماء تكلموا في معناها.
والمعنى أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلف , أخبر أن هذا القرآن إنما هو مؤلف من هذه الحروف .
فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم للفظ “حم” فى إحدى الروايات يدل على أنه من الوحي .
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقرئني يا رسول الله . قال له : اقرأ ثلاثا من ذات “الر” فقال الرجل كبرت سني واشتد قلبي , وغلظ لساني , فقال اقرأ من ذات “حم” فقال مثل مقالته الأولى , فقال اقرأ ثلاثا من المسبحات , فقال مثل مقالته : ثم قال الرجل : ولكن اقرئني يارسول الله سورة جامعة , فأقرأه “إذا زلزلت الأرض” حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذى بعثك بالحق , لا أزيد عليها أبدا , ثم أدبر الرجل , فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أفلح الرويجل , أفلح الرويجل …. “
وذكر أحمد عادل كمال أن حسن البنا وصف ثلاثة آراء في تفسير الحروف بأنها أحقها بالنظر والتقدير, وكان آخر هذه الثلاثة: أنها إشارة إلى فضل الكتابة وسمو منزلتها, والتفاؤل بأنه – كما كانت معرفة البشر للكتابة إيذانا بانتقالهم من طور إلى طور في مدارج الرقي والكمال- فكذلك الاهتداء بهذه الرسالة سيكون انتقالا جديدا إلى درجة أعلى وأكمل فى مدارج الحضارة الانسانية والرقي الاجتماعي .”
واستعرض الدكتور حسين نصار الأقوال التي قيلت في الحروف, وصنفها حسب القول لا على حسب القائل, فمن قال إنها من المتشابه, ومن قال هي حروف هجاء, أو حروف هجاء للتعليم, أو لإبطال دعوى قدم القرآن, أو أنها للتحدي, أو أنها فواصل وفواتح للسور, أو أنها أدوات تنبيه, أو إشارات ورموز مضمونية, صوتية أو ترهيبية, أو أنها للبرهنة على صدق سيدنا محمد, صلّى الله عليه وسلم, أو للإشارة إلى فضل الكتابة, أو الدلالة على عدد آيات السورة, أو أنها من حساب الجُمَّل, أو أنها مما أقسم الله به, أو أنها من أسماء الله, أو هي الاسم الأعظم للذات الإلهية, أو اختصارات من أسماء الله, أو أنها ثناء على الله, ومن قال بأنها من أسماء النبي, أو أسماء أنبياء وملائكة, أو أنها أسماء للسور, أو أسماء للقرآن, أو أنها للدلالة على معانِ شتّى, ومن قال بأنها مقتطعة من أسماء مفردة.
ومن هنا, فإنه لا اتفاق على مدلولات الحروف الفواتح, ولم يصل أحد بعد إلى ما يمكنه إثباته, وإقناع الآخرين به في شأنها.
ولنستكمل إن شاء الله ما فتح الله به عليّ,.. قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي, وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي