أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه فيما أمره (لتبين للناس ما نُزِّل إليهم) حتى فيما يخص الحروف الفواتح. ويتبين ذلك من أحاديثه صلى الله عليه وسلم أستعرضها فيما يلي:
● قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم, واختُصِر لي اختصار. وفواتح السور من جوامع الكلم, والله تعالى أعلم, فكما تبين من قبل ويتبين فيما بعد, فإن فاتحة السورة فيها ملخص لما فيها, وهي تفتح للناس كيفية استنباط معاني الألفاظ وتراكيبها, لكل الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم.
● بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ماهية تلك الحروف, في حديثه الذي رواه أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما ” حم ” فإنا لا نعرفها في لساننا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( بدء أسماء وفواتح سور) … صدق رسول الله.
لقد أعطانا عليه الصلاة والسلام مفتاحا لفهم الحروف بجوامع الكلم, والكلام المختصر.
● فمن الحروف تتكون الأسماء, فالحرف هو الأساس واللبنة الأولى التي تبنى بها الأسماء, وأفهم من قول رسول الله أن الأسماء لها بدء, وبالتالي يكون لها وسط ولها نهاية. ومن ذلك تكون الحروف هي البدء, وليست الأسماء ولا الألفاظ ولا الكلمات هي البدء, وإنما هي نتيجة تتركب من الحروف.
● ويتوافق ذلك مع جذر كلمة (حرف) بأنها طرف الشيء من أوله ومن آخره.
● ثم إنها هي فواتح السور التي تبين ملخص ما في السورة من مواضيع, فالفاتحة فيها ملخص الكتاب كله, وفاتحة أي موضوع فيها خلاصة الموضوع. فتكون بذلك الحروف الفواتح حاوية على خلاصة ما في السورة. وهي نقطة محورية توصل إلى ما بعدها. وكما تبين من فاتحة سورة طه, وفاتحة سورة الشعراء, وفاتحة سورة ص, فيها خلاصة مواضيع ومحاور السور.
● ومن هذه يبين الله لنا أن للحروف شخصيتها ومدلولاتها, فنأخذ منها المدلولات ونبني بها الأسماء.
● وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ:
● قَالَ لَهُ اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَاتِ الر فَقَالَ الرَّجُلُ كَبِرَتْ سِنِّي وَاشْتَدَّ قَلْبِي وَغَلُظَ لِسَانِي
● قَالَ فَاقْرَأْ مِنْ ذَاتِ حم فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى
● فَقَالَ اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ الْمُسَبِّحَاتِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً
● فَأَقْرَأَهُ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ
● ثُمَّ قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أُمِرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا مَنِيحَةَ[1] ابْنِي أَفَأُضَحِّي بِهَا قَالَ لَا وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِكَ وَتُقَلِّمُ أَظْفَارَكَ وَتَقُصُّ شَارِبَكَ وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ (صدق رسول الله)
ومن الواضح في الحديث أن الرويجل كان كبير السن, اشتد قلبه, وغلظ لسانه, لم يكن على قدرة ولا على استعداد لأن يجهد نفسه في سور ذات ثقل في دراستها ومدلولاتها, فاكتفى له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسورة الزلزلة, وفيها اتجاه مباشر يتناسب مع الرويجل, ففيها تذكير بيوم الزلزلة, وبأن الذي ينفع في ذلك اليوم هو (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره, ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فليذهب فليعمل أي مثقال ذرة يستطيعه من العمل الصالح الخير, وليتجنب أي مثقال ذرة من شرّ, وهو ما أقسم الرويجل عليه لرسول الله (والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبداً)
والسور ذات ألر هي سور الحكمة كما أشرت إلى ذلك في هذا البحث, وحرف (را) له صفة منفردة وهي التكرير, والحكمة تعبير يلخص حسن التصرف المانع من الخطأ, والذي يتم تكريره ويصلح لكل زمان ومكان.
والسور ذات ال(حاميم), هي سور فصل الخطاب, وحرف ال(حا) فيه الفصل كما أشرت في هذا البحث.
وأماالمسبحات فإنها تتحدث عن أعمال مجاهدة في سبيل الله, بالمال والنفس
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصح الرجل ابتداء أن يتعلم ويقرأ في الحكمة وقواعدها, والتي تجعله يستخرج للناس ما ينفعهم من الحكمة, من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا, وما يتذكر إلا أولو الألباب. فلما أعلن عن عدم قدرته, وضعفه, نصحه عليه السلام بأن يتعلم ذات الحاميم, وفيها يمكن أن يُلجأ إلى الرجل في فصل الخطاب, والفصل في الخلافات, باعتبار السن والخبرة, ولكنه أيضا أعلن عن عدم قدرته, فنصحه عليه السلام بأن يتعلم المسبحات, فيها من الأعمال الجليلة من المجاهدة بالنفس والمال, فلم يستطع الرويجل أيا من هذه المجاهدات والأمور التي كان صلى الله عليه وسلم يختارها له باعتبار المرحلة العمرية التي كان فيها الرويجل, ولكنه أعلن عن ضعفه, فكلفه صلى الله عليه وسلم بأخف الأمور والحد الأدنى الذي لا يمكن أن يقل عنه مسلم أيا كان ضعفه (مثقال ذرة)
وفي استكمال الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (عليّ به) فنصحه بأعمال بسيطة في عيد الأضحى, ولم يكلفه بالأضحية, ولكن كفاه (قَالَ لَا وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِكَ وَتُقَلِّمُ أَظْفَارَكَ وَتَقُصُّ شَارِبَكَ وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ) وهذه حالة خاصة للرويجل لا يُنصح بها أحد من المسلمين, إلا من كان على شاكلة الرويجل من الضعف, ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماه (الرويجل) والله أعلى وأعلم. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فذلك تمام أضحيتك عند الله)
من هذا الحديث يتأكد اتجاه البحث في القرآن بترتيب نزول سوره, والتي تسلسلت فيها ذات ألر عن الحكمة , وتلتها ذات الحاميم عن فصل الخطاب, ثم المسبحات عن الأعمال العليا من الجهاد, ثم في النهاية اكتفى ب(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره, ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)
ومن الحديثين, يتبين أن الحرف له مدلول يحدد معنى الأسماء, وأن الحروف يمكن التعرف عليها من دراسة محاور السور التي بدأت بها, حيث أنها هي نفسها مدلولات الحروف الفواتح التي تلخّص محاور السورة.
كما يتبين أن حرف (را) له علاقة بالتكرير وبالحكمة التي يمكن تكريرها في كل زمان وفي كل مكان, وبأن حرف (حا) له علاقة بالحد والحسم والحزم والحكم والفصل في الأمور.
● وعند نطق الحرف في اللغة العربية, فإنه لا يكون حرفا واحدا, وإنما مجموعة حروف, فنقول سين, ونكتبها س, ونقول ميم, ونكتبها م, ولكننا سنتعامل مع الحرف على أنه حرف واحد, استنباطا من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ) *الترمذي
وربما نلجأ إلى كون الحرف المنفرد يعبر عنه مجموعة من الحروف (ثلاثة) حين ندرس مدلولات الحروف, ولكنه في الكلمة يعتبر الحرف حرفا واحدا, استنباطا من الحديث الشريف, فنقول (أحد, أ,ح, د) ولا نقول (ألف, حاء , دال)
حم:
وروي عنه صلّى الله عليه وسلم (آل حم ديباج القرآن)
وفي مسند الدارمي قال : حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعد بن إبراهيم قال : كن الحواميم يسمين العرائس . وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” الحواميم ديباج القرآن “
وروي عن إِبراهيم النـخعي أَنه كان له طَيْلَسانٌ مُدَبَّجٌ ، قالوا: هو الذي زينت أَطرافه بالديباج
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب )
قال عكرمة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ” حم ” اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك )
قال ابن عباس : ” حم ” اسم الله الأعظم
روى أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما ” حم ” فإنا لا نعرفها في لساننا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بدء أسماء وفواتح سور )
وقد قال أبو القاسم الطبراني ثنا علي بن عبد العزيز ثنا عارم أبو النعمان ثنا معتمر بن سليمان قال سمعت أبي يحدث عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” من أعان باطلا ليدحض به حقا فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم “
الدَّبْجُ: النَّفْشُ والتزيـين، فارسي معرب. ودَبَجَ الأَرضَ الـمطرُ يَدْبُجُها دَبْجاً: رَوَّضَها. والدِّيباجُ: ضَرْبٌ من الثـياب، مشتق من ذلك،
ومن مدارسة منهاج بناء الحضارة الإنسانية بالترتيب التاريخي لنزول سور القرآن, (راجع الباب في نفس موقع التنمية بالقرآن) توصلت إلى أن السور المبدوءة ب (حم) تعبر عن منهاج فصل الخطاب, أو النظام القضائي, والفصل في المنازعات, والقاضي في المحكمة وفي المجتمع عموما يمثل الزينة كما يمثل الديباج زينة الثياب
الحبرات في الثياب:
حبر:
الـحِبْرُ: الذي يكتب به وموضعه الـمِـحْبَرَةُ ، بالكسر . ابن سيده: الـحِبْرُ الـمداد. والـحِبْرُ والـحَبْرُ: العالِـم، ذميّاً كان أَو مسلـماً، بعد أَن يكون من أَهل الكتاب. قال الأَزهري: وكذلك الـحِبْرُ والـحَبْرُ فـي الـجَمالِ والبَهاءِ. وسأَل عبد اللَّه بن سلام كعباً عن الـحِبْرِ فقال: هو الرجل الصالـح، وجمعه أَحْبَارٌ وحُبُورٌ
وفـي حديث أَبـي موسى: لو علـمت أَنك تسمع لقراءتـي لـحَبَّرْتُها لك تَـحْبِـيراً ؛ يريد تـحسين الصوت. وحَبَّرْتُ الشيء تَـحْبِـيراً إِذا حَسَّنْتَه.
وفـي الـحديث: سميت سُورةَ الـمائدة وسُورَةَ الأَحبار لقوله تعالـى فـيها: {يحكم بها النبـيون الذين أَسلـموا للذين هادوا والربانـيون والأَحْبَارُ } ؛ وهم العلـماء، جمع حِبْرٍ وحَبْر، بالكسر والفتـح، وكان يقال لابن عباس الـحَبْرُ والبَحرُ لعلـمه؛
وفـي الـحديث: يخرج رجل من أَهل البهاء قد ذهب حِبْرُه وسِبْرُه؛ أَي لونه وهيئته، وقـيل: هيئته وسَحْنَاؤُه، من قولهم جاءت الإِبل حَسَنَةَ الأَحْبَارِ والأَسْبَارِ، وقـيل: هو الـجمال والبهاء وأَثَرُ النِّعْمَةِ. ويقال: فلان حَسَنُ الـحِبَرْ والسَّبْرِ والسِّبْرِ إِذا كان جميلاً حسن الهيئة؛
والقاضي في المجتمع وفي المحكمة أيضا يمثل الجمال والبهاء, وليس أحب للناس من الفصل الحق في النزاعات, فيرتاح الناس وتستقر القلوب والنفوس
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لكل شيء ثمرة وإن ثمرة القرآن ذوات حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم ) .
وثمرة الأنظمة الحضارية المحترمة في التاريخ الإنسانية تتمثل في إقامة العدل والحق فالعدل أساس الملك, والحق يعلو ولا يعلى عليه
وصدق الله العظيم حيث كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم, ولعلهم يتفكرون) (النحل)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأشهد أنه بين للناس ما نزل إليهم, فهل من مدّكر؟؟
والله تعالى أعلى وأعلم
والحمد لله ربّ العالمين, وله الفضل والمنّة وله الثناء الحسن
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا, إنك أنت العليم الحكيم.
المنيحة الشاة كثيرة إدرار اللبن.