في سورة الشرح يكمل الله سبحانه مؤازرة رسوله , ويذكّره بأفضاله عليه, فيبين له آثار نعمة ربّه التي ذكرها في سورة القلم , والتي ختم بها سورة الضحى, فقد شرح الله صدره للإسلام: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) كما أراح نفسه مما لاقى من اتهامات قومه بالجنون , وطمأنه إلى أجره غير الممنون, وأنه على خلق عظيم.
وخفف الله عنه الأحمال والأثقال التي كان يحملها من هموم الدعوة وصد قومه, مما ينقض الظهر ويقصمه: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3).
والقرآن ذكر للعالمين, وأول العالمين شرفا به هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم, ثم من تبعه على طريق دعوة الحق, ودعا بدعوته وسار على منهاجه وسبيله, فيرفع الله له ذكره في الدنيا وفي الآخرة: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) أما من لم يسيروا على منهاجه, ومن تركوا سنته, فإنه لا ذكر لهم, ولينزعن الله من قلوب عدوهم المهابة منهم , وليقذفنّ في قلوبهم الوهن , حب الدنيا وكراهية الموت.
العسر واليسر:
العسر واليسر من سنن الله, (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)) وهو الذي يجعل مع العسر يسرين. إن الله هنا يشير إلى وجود يسر مع العسر, فحين يتعرّض الإنسان إلى العسر, فعليه أن يقف منه موقفا قويا:
- فليعلم أن مع العسر يسرا, يجعله الله للثابتين على الحق, ولم يستسلموا ولم ينهاروا أمام العسر, فليثبت ولا ييأس.
- ثم فليستعن بمن جعل مع العسر يسرا, ليستوحي يسرا من كتابه ومنهاجه.
- ثم لا يقعد في عسره ينتظر يسرا دون أسباب يتخذها للوصول إليه. بل يقوي همته في البحث عنه, ويستعمل عقله في دفع ما يحل به من العسر, وهو واثق ومتأكد بتوكيد الله على وجوده.
- ثم هو مع ذلك وبعد ذلك يستعين بالله سبحانه في كشف العسر باليسر, ويسأله التوفيق والرشاد.
أما من استسلم للعسر, أو أراد الخلاص منه دون أسباب يتخذها, وبدايات يبتديها, ووسائل يستعملها, ولا يستعمل عقله في البحث عن اليسر, ولا عزمه في الصبر على العسر, ويقولون نحن نحسن الظن بالله, ونرمي أثقالنا عليه, فلماذا لا يفعلون ذلك في طعامهم وشرابهم, فالله هو الذي يطعم ويسقي, فلماذا يذهبون إلى أعمالهم؟ ولماذا يشترون الطعام ويطهونه ويرفعونه إلى أفواههم؟ ولماذا يتقاتلون على حقّ لهم حتى ليقتل بعضهم بعضا؟ لماذا لم يتركوا المسألة كلها إلى الرزّاق ذي القوة المتين؟
إن ما استراح له المسلمون عند قراءتهم لهذه السورة, هو أن الله جعل مع كل عسر يسرين. فعند الله الحل. وما عليهم حين يحلّ العسر, إلاّ أن ينتظروا يسرا من الله. وإلى حين يأتي هذا اليسر, فهم منتظرون صابرون في أماكنهم, يتوجهون إلى ربهم بالدعاء حتى ينزل من عنده الخلاص واليسر. فإن لم ينزل فورا فهم لا يستبطئونه, فالله هو العزيز الحكيم, يأتي باليسر في الوقت الذي يشاؤه هو سبحانه.
بل قد تعتاد أمم على العسر, وتتعايش معه كما تتعايش مع الاستبداد والقهر والظلم, وتألف ذلك حتى يصعب عليها أن تعيش بدونه, بل وتحنّ إليه إن زال عنها. حتى ليصبح معايشتها للعسر واطمئنانها له نوعا من اليسر, الذي هو أسوأ من العسر.
والعسر خلاف الابتلاء.
وهنا أمره الله بزيادة القرب منه سبحانه , ليستمد منه الداعية العزم والقوة والمثابرة والصبر (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7)وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)).
وصلنا إلى وجود بعض الأفراد , كل منهم معتقد بأن هناك بعثا وحسابا وجحيما وجنة, مقتنع بإمامه يأخذ منه ويصدقه , يفضل الآخرة على الدنيا , ومستعد للتنازل عن أعز ما لديه ليبني مكانا ومكانة في الآخرة باعتبارها حياته, وقد أدى بعض التطبيقات التي تؤكد مصداقية اعتقاده وقناعته, لا يبتغي إلا وجه ربه الأعلى .
يواجهه على الجانب الآخر , عدو أشقى , كذب بالحسنى , وتولّى , بخل بماله وجهده واستغنى. هدده الله بما فعل بعاد وثمود وفرعون.
اختلفت مقاييس ومعايير الفئتين , فئة تؤثر الحياة الدنيا , وفئة تؤثر الآخرة عندها خير وأبقى. فئة تبذل المال والجهد لوجه الله , وفئة تكسب المال من أي وجه لاتراعي فيه حقا ولا سؤالا ولا حسابا.
وداعية صادق أمين , يفعل ما يدعو إليه , ويكون فيه الأسوة الحسنة.
المهمة تبدو شاقة, والطريق طويل, والنتائج مازالت محدودة.