ألاّ يسجدوا لله الذى يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ماتخفون وما تعلنون . الله لا إله إلاّ هو ربُّ العرش العظيم (النمل 25-26).
علَّق الهدهد على فعل القوم , بالنقد الإيجابى , والنصيحة الحقَّة , وبرّر لماذا ينصح بها . فهو يتعجب من القوم ألاّ يسجدوا لله , بدلا من سجودهم للشمس من دون الله , ويبرر ذلك بأن الله يخرج الخبء فى السموات والأرض , ويعلم ما تخفون وما تعلنون, حيث أن الله لا إله إلاّ هو , وهو ربّ العرش العظيم
والخبء الشئ المستور , أى الشىء الذى يخفيه شىء أو تخفيه أشياء عن الأنظار , فلا يُرى .
فلماذا اختار الهدهد هذه القدرات لله ليدعو القوم للسجود له ؟ وما هو الارتباط بين كل هذا ؟ : بين العرش العظيم , وبين السجود , وبين الخبء, وبين ما تخفون وما تعلنون؟ وما ارتباط ذلك بالهدهد ؟!!
لو أنك سألت عالما ضليعا في البلاغة أن يذكر لك أهم شئ يلاحظه في قدرة الله , فإن إجابته ستكون عن بلاغة كلام الله .
وإن سألت عالما في الفلك , فستكون إجابته عن عجائب علم الفلك .
ويجيب إخصائى المخ عن قدرة الله في خلق المخ ,
وعالم النبات عن النبات .
ولابد أن يجيب الدكتور أحمد زويل بما أطلعه الله عليه من أسرار الذرة.
وهكذا فإن ملاحظاتنا عن قدرة الله تنبع من اطلاعنا على بعض منها بما لدينا من معلومات داخل عقولنا , ومن واقع خبراتنا .
كذلك فإن الهدهد أودع الله فيه قدرة على كشف الخبء :
.. فهو يرى بعض الخبء في السموات والأرض , ويرى الله يخرجه .
.. كما أنه يطَّلع على خبء العقول , فالله علّمه مايخفى سليمان , وملكة سبأ وقومها , في أنفسهم وما يعلنون .
.. فاعترف لله بقدرته في إخراج الخبء في السموات والأرض وفى العلم بما يخفى كل الناس وما يعلنون , ونبّه إلى هذه القدرات , واعتبرها مدعاة للسجود لله , ودعا إلى ذلك . وهذا على حسب معرفته وخبرته .
ان الآية إلى جانب التعريف بقدرة الله هذه , افهم منها أن الله قد وهب الهدهد معرفة بالخبء , وبما يخفى الناس ومايعلنون , كما وهب للكلب قدرة على الشم والسمع , وللحصان قدرة على تذوق الموسيقى والانفعال بها , و للخفاش قدرة على الطيران ليلا دون اصطدام بالعوائق , باستخدام الموجات الخاصة , التى تعلم منها الناس عمل الرادار , وهكذا….
وقد ذكر الجاحظ فىكتاب الحيوان عن الهدهد :
“ويزعمون أن الهدهد هو الذى كان يدل سليمان عليه السلام على مواضع المياه فى قعور الأرضين إذا أراد استنباط شىء منها .
وحين سئل ابن عباس : تقول أن الهدهد إذا نقر الأرض عرف مسافة ما بينه وبين الماء , والهدهد لا يبصر الفخ دُويْن التراب , حتى إذا نقر التمرة انضمّ عليه الفخّ ! فقال ابن عباس : ” إذا جاء القدر عمى البصر ! ” .
والذى أراه أن وقوع الهدهد فى الفخ , لا ينفى عنه قدرته فى الاطلاع على الخبء. فوقوع الإنسان فى حفرة لا يدل على أنه أعمى , ولكن يدل على غفلته وعدم استعماله لقدرته على الرؤية والإبصار.
ولقد كان الهدهد ينقر الأرض بمنقاره , فإن هو لم ينقرها , لم يطَّلع على الخبء . وهذا قد يفسر وقوعه فى الفخ , وسبب عمى بصره عنه , والله أعلم .
ولقد راقبت نقر الهدهد للأرض , فإذا هو ينقر نقرة واحدة سريعة فى المكان الواحد , لا يخرج منها بحبّ ولا بحشرة , ويكرر ذلك فى مواضع من الأرض مختلفة , ثم ينقر نقرة تستغرق زمنا أطول يخرج منها بصيده من الحبّ أو الحشرات .
والذى أراه أنه بنقره السريع فى عدة مواضع , يحدد إحداثيات موقع صيده بدقة , والذى يكون مخبوءا فى الأرض , ثم يذهب إليه فينقره نقرة واحدة ليظفر به.
وحيث أن الطير له منطق , علمه الله لسليمان عليه السلام , فلا يوجد مانع من أن يتعلمه خلق آخر من خلق الله , وناس آخرون .
قال بهذا الرأى الشيخ محمد الغزالى- جزاه الله عن الأمة خيرا- فى كتابه ” التفسير الموضوعى صفحة 291-292 “
(وقبل أن نشير إلى قصة سليمان نذكِّر بقوله تعالى : “وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..”(الأنعام 38) هذه أمم تعيش وتتفاهم بلغات خاصة بها , وما دام التفاهم مستيقنا , فإن فى مُكنة الناس أن يعرفوا أسراره) .
فإذا حدث تواصل مع الطير , وخاصة الهدهد , فإن خيرا كثيرا يمكن أن يتحقق ..
وهناك فِرَق عمل في بلاد غربية أو شرقية تهتم بطبائع ولغات الطيور , لو علموا هذه البيانات التى نبهنا القرآن إليها , فسيأخذونها مأخذ الجد , ويحاولون التحقق منها , ويبذلون في البحث والدراسة عمرا ومالا وجهدا , ثم يأتون لنا بالنتائج , يبيعونها لنا..
و نحن لدينا من الإشارات القرآنية ما يدفعنا إلى السبق , ولكننا نكتفى بالتلاوة والترديد دون فهم ولا تدبر ولا وعى ولا عمل, ولا حول ولا قوة إلى بالله .
إن الآيات تلخيصا , تشير إلى معلومات هامة جدا للباحثين وللناس إلى يوم القيامة :
- إن لله خبئا في السموات والأرض ,
- وله سبحانه خبء فى العقول.
- والله يخرج هذا وذاك .
- وأن الهدهد يعرف من الخبء , فى السموات والأرض , وفى العقول.
- وأن له منطقا ,
- وأنه أمم أمثالنا , يدرك , ويفهم , ويحيط , وينتقد , ويقترح , وينصح ,
- وأنه يعرف أمور العقيدة الدقيقة , السجود لله , والسبيل إليه , ودور الشيطان فى الغواية , وأسلوبه فيها.
- وأنه لامانع من تعلم منطق الطير , والتواصل معه .
- وأننا تطبيقا لهذا يمكننا الكشف عن الخبء واستخراجه بسنن الله وقوانينه وما يحيطنا به من علمه , إما بالتواصل مع الهدهد وغيره أو بما أحاطنا الله به من علمه والكشوف التى توصلنا إليها بفضله.
وهنا فى هذه الآيات , أرى أن الهدهد بتحدثه عن الخبء فى السموات والأرض , و بتحدثه عما نخفى وما نعلن , وبجزمه بأن سليمان لم يحط بما جاءه من الأنباء , إنما هو يرى الخبء , ولاتقتصر رؤيته على الماء والحبّ فقط , بل ربما يكون التعرف على المعادن والثروات المخبوءة فى الأرض أيسر و أسهل .
كيف يرى الهدهد الخبء؟ هل بالعين؟ هل بالأشعة تحت الحمراء ؟ هل بالموجات فوق الصوتية ؟ هل لتاجه فوق رأسه دور فى ذلك؟
.. إنها مجال بحث!!
إن الهدهد ينبه أيضا إلى استمرارية وجود أشياء مخبوءة , وكل حين يخرج الله بعضا منها , وذلك يظهر من استعمال الهدهد للفعل المضارع (يخرج) , فلم يقل (الذى أخرج الخبء) مشيرا إلى أشياء شاهدها الهدهد من قبل بعد أن أخرجها الله من سترها في السموات والأرض , كالحب من الأرض والقطر من السماء مثلا , ولكنه ينبه إلى أشياء مستورة , ربما من واقع ثقافتنا الحالية نستطيع تسمية بعضها , ثم نتوقع بعضا آخر منها وهو الأهم , حتى نبحث عنها :-
.. ولننظر إلى صحرائنا وجبالنا وبحارنا وودياننا , ونتوقع أن فيها الكثير من الخبء. فالمعادن والخامات كالحديد والنحاس , وكالبترول , وكالماس خبء في الأرض , يخرجه الله .
.. وننظر إلى السموات : إننا نرى من السماء الدنيا النجوم والهواء والسحاب , والأشعة الشمسية والكونية بأنواعها مستورة في السموات يخرجها الله من الستر إلى إمكانية الرصد والإحساس بها بواسطة أجهزة حديثة أحطنا بها , وهى شئ من علم الله الذى لانحيط به إلا بما شاء سبحانه . ولانرى بقية السموات السبع حتى الآن , فهى ما زالت ضمن الخبء.
وننظر إلى العقول : إن كل إنسان يخرج أفكارا وكلاما , ويخترع ويبتكر , كل ذلك من خبء العقول , يخرجه الله بإتاحة الفرصة للفكر الحرّ , والمناقشات المفتوحة , وتبادل وجهات النظر , وعدم كتم العلم , والحرية بكل صورها.
والفارق الجوهرى بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة , أو الشركات المتقدمة والشركات المتخلفة , أن المتقدمة لديها أقسام للأبحاث والتطوير , وهى تنفق عليها الكثير , وأن المتأخرة تنتظر حتى تتوصل المتقدمة إلى اختراع جديد أو فكرة أو اكتشاف غير مسبوق , ثم تأتى المتأخرة لتقلدها أو لتشترى النتائج الجاهزة .
ثم لننظر فى كتاب الله , لنرى بعضا من إشاراته عن بعض الخبء.
● يقول الله : ” وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى الأرض , وإنا على ذهاب به لقادرون”(المؤمنون 18) تحت هذه الأرض , صحراء كانت أم أودية, يوجد ماء أسكنه الله فى الأرض حتى لا تبخره الشمس أو تلوثه الملوثات, فمن يبحث عنه؟ ومن يخرج هذا الخبء ويزرع به بدلا من الاستيراد والشكوى والضعف.
● ” وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين”(المؤمنون20) ماهى هذه الشجرة ؟ ولماذا لا نبحث عنها وقد حدد الله صفتها ومكانها وفوائدها؟
● ” وما يستوى البحران هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه , وهذا مِلحٌ أُجاجٌ , ومن كلٍ تأكلون لحما طريا , وتستخرجون حلية تلبسونها” (فاطر12) إذن فالبحار والأنهار بها أسماك وحلية تلبسونها تحتاج إلى استخراج . أى أن الأنهار أيضا فيها حلية يمكن أن تستخرج , وصدق الله العظيم .فمن يخرج هذا الخبء؟
● ” ومن آياته خلق السموات والأرض ومابث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير” (الشورى 29) من ذا الذى يسابق أو يشارك الباحثين من الغرب أو الشرق فى محاولات الاتصال بمن فى السموات من مخلوقات عاقلة , حتى إذا يشاء الله جمعهم يكون جاهزا للتعامل معها؟
● ” قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”(العنكبوت 20) من يطيع هذا الأمر كما يطيع أوامر الله الآخرى فى المأكل أو الملبس أو الميراث ؟ ولماذا يترك أمر مثل هذا , والآمر واحد جلّ شأنه.
● “مثل نوره كمشكاة فيها مصباح , المصباح فى زجاجة , الزجاجة كأنها كوكب درىّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار” (النور 35) هل حاول أحد تنفيذ هذا المثل الذى مثّل الله به نوره بأشياء فى أيدينا ؟ فلربما كان فى تنفيذ هذا المثل اكتشافات فى مجال الطاقة والضوء يحل للبشرية مشكلات عويصة فى هذا المجال!!
● ” .. وأسلنا له عين القطر..”(سبأ12) هل بحث أحد فى أرض مملكة سليمان بالشام والعراق وماوصل إليه فى اليمن عن احتمالات وجود قطر , وهو النحاس؟ فالقطر موجود فى تلك الأرض لسليمان ولغير سليمان , وإسالته هى التى منّ الله بها على سليمان.
● إن فى السموات والأرض لآيات للمؤمنين. وفى خلقكم ومايبث من دابة آيات لقوم يوقنون. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعلمون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون).(الجاثية 3-7) إنها آيات كونية للاكتشاف وللعلم وللعمل ولإعمال العقل والقوة . وهذه خزائن لخبء لا حصر له فى السموات والأرض , وفى خلق الناس, والدواب, وفى اختلاف الليل والنهار والمطر والرياح, للمؤمنين,والموقنين,ولقوم يعلمون , لماذا يذكر الله لنا هذه الكنوز والخبء؟ ألكى نتلوها دون وعى أم أن المرور عليها دون تدبّر جريمة يقول الله فيها فور هذه الآيات من سورة الجاثية (ويل لكل أفاّك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم. وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين)(الجاثية 8-9).
وأرجو أن نتوقف لحظات مع أنفسنا ونراجع أمثلة أخرى من الخبء في السموات والأرض أخرجها الله من قبل , أو يمكن أن يخرجها الله بسننه فى خلقه , وبما أحاطنا الله من علمه .
.. ثم لننظر كيف يخرج الله الخبء .
إن لله أسبابا يخرج بها الخبء , فتارة يخرجه وحده دون جهد منا , وتارة يخرجه بجهودنا .
.. فالحب والنبات قد يخرج في الأرض بفعل الله وحده لاشريك له , كما فى الغابات, وقد يخرج بسبب عمل نعمله في فلاحة الأرض.
والماء والبترول خبء قد يتفجر عيونا بفعل الله وحده , وقد ننقب عنه فنجد أن الله أسكنه فى الأرض .
والمعادن خبء في الأرض , قد يخرجها الله مع البراكين , وقد ننقب عنها فنجدها بما يسّر الله من علم وتقنية .
وهذه إشارات إلى مشاريع اقتصادية واستثمارية ضخمة .
.. فإن لم نتوصل إلى لغة الطير , فهناك وسائل وأجهزة ودراسات سبقنا بها الشرق والغرب , للكشف عن الخبء في السموات والأرض ..
.. وهناك أنظمة فى الإدارة والحكم تكفل حرية الفكر والرأى لإخراج الخبء في العقول والأفكار , بمقدار ما يتاح لها من حرية ,
كما أن هناك أسباب للعلم من معامل وأجهزة وإمكانيات ومناهج دراسية , يخرج الله بها خبء المواد والظواهر الطبيعية لمن يتخذها.
إن الرزق كله مكفول من الله , فهو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين , وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها .
ولكن سنة الله فى توزيع مقدار الرزق مرتبطة بما يقدمه الإنسان من عمل , وما يجتهد به من فكر وجهد , فالجزاء من جنس العمل – مع التسليم التام بطلاقة قدرته وحكمته سبحانه فى أن يرزق من يشاء بغير حساب – فيقول الله تعالى :
” ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض” (البقرة 267) … فإما ما كسبتم , وإما ما أخرج الله لكم من الأرض, إما عمل الإنسان , أو خيرات الله فى الطبيعة.
.. حتى الجنة يقول الله لمن يدخلها من المؤمنين : “ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون “(الأعراف 43).
ويقول فى نعيمها ” فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون ” (السجدة 17)
وليست المسألة مجرد مصادفة , أن تكون الأرض مملوءة بالخيرات المستخرجة فى بلاد العالم الغنية المتقدمة , لأن رزقهم واسع , وتكون شعوبها مجتهدة عاملة متعلمة , فى نفس الوقت الذى تخلو فيه الأرض فى بلاد فقيرة من الخيرات المدفونة , وتكون شعوبها كسولة جاهلة .
إنما ما نتوقعه أن كل جزء من الأرض حباه الله بالنعم المودعة فى أرضه , على اختلافها , فاجتهدت شعوب فى استخراجه , فأخرج الله لها الرزق الوفير …. بينما كسلت شعوب فحرمها الله من موفور الرزق حتى تفىء إلى أمر الله وتعمل شكرا فى استخراج نعمته , وتقول كما قال سليمان عليه السلام ( ربّ أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىَّ وعلى والدىّ وأن أعمل صالحا ترضاه , وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين)( النمل19).
غير أن الله تعالى , بعطاء ربوبيته , يكفل الحدّ الأدنى من الرزق , من فضله على شعوب كسولة , فيأتى إليها من شعوب مجتهدة , بمن يستخرج لها ثروات أرضها , ويستثمرها لها , ويحصِّل لها ثمنها , ويودعه فى مصارفه ليستغل فى تنمية الشعوب المجتهدة والمتقدمة , ثم يعطى قدرا من فوائد هذه الأموال المودعة فى المصارف إلى تلك الشعوب الكسولة لكى تعيش منه , وتدّعى الثراء والغنى , وإنما هى شعوب ثرية حقا , ولكنها ليست غنية , أى أنها تملك الثروة , ولا تستغنى بها. بل ربما أقول هى ليست مالكة للثروة , وإنما تنسب الثروة لها فى التقارير المالية , ولا تسيطر عليها .
إذن فالشعوب الغنية , شعوب مجتهدة فى العمل والعلم والبحث, والشعوب الفقيرة شعوب كسولة عن العمل والعلم والبحث.
وهذه وتلك , أودع الله أرضها جميعا ثروات مخبوءة , فاستخرجها المجتهدون , وكسل الكسولون , فزاد رزق هؤلاء , ونقص رزق هؤلاء, ولا يظلم ربُّك أحدا.
إذن فنحن لا نستطيع أن ندّعى أن الرزق ثابت بصرف النظر عن عمل الإنسان . ولكننى أرى المسألة مرتبطة , وكلها بأمر الله وسنن الله .
وصدق الله العظيم “إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”(الرعد 11). وهذه من سنن الله الثابتة التى لا تجد لها تبديلا ولا تحويلا.
.. ولننظر إلى الخريطة المرفقة التى تبين بعضا من الخبء في الأرض : ففيها البترول , والغاز الطبيعى , والحديد , والنحاس ,والنيكل , والصفيح , والرصاص , والزنك , والبوكسايت , والزئبق , والبلاتين , واليورانيوم , والقصدير , والماس , والذهب والفضة , وغيرها , موزعة على البلاد والمناطق المختلفة..
وقد أخرج الله كل هذا الخبء في الولايات المتحدة , وكندا وأوروبا , واليابان , وأستراليا , وجنوب أفريقيا , وخرج بواسطة جهود الناس في هذه البلاد , الذين عملوا في إخراجه وفى استغلاله في بناء قوتهم الاقتصادية والعلمية والعسكرية والسياسية , فصاروا إلى ماهم عليه الآن فيما يسمى بالعالم الأول.
في حين كسلت شعوب عن إخراج الخبء من أرضها , فتخلفت وضعفت وذلت . وحتى ماخرج في أرضها من خبء , فقد أخرجه الله بواسطة العالم الأول , كالبترول والغاز الطبيعى والماس.
لابد أن الأرض فى تلك المناطق الخالية على الخريطة , مملوءة بالخبء , وأهل هذه المناطق ينتظرون الجزء الثانى من احتمالات الرزق ” ومما أخرجنا لكم من الأرض” ولا يعملون بالجزء الأول منها ” أنفقوا من طيبات ما كسبتم ” , بل هم يتركون مسألة إخراج الخبء من أرضهم , للشعوب الغنية , يأتون لينقبوا لهم عنه , وترسل أقمارهم الصناعية صورا لتلك البقاع , ليقوم علماؤهم بتحليلها , ثم تقوم شركاتهم باستخراجها بالمعدات التى صنعوها , ثم باستغلالها , وبيعها وتحصيل ثمنها , ثم تقول لهم الشعوب صاحبة الأرض : أعطونا منها جزءا .
يذكرنى ذلك بمداعبة أمهاتنا لنا فى طفولتنا , عدّا على أصابع أيدينا
{” آدى البيضة … وآدى اللى سلقها … وآدى اللى قشرها … وآدى اللى أكلها … وآدى اللى قال حتّة .. حتّة !!! ” }
… وطبعا شعوبنا هى القائل الأخير!!
… فلنضحك كما كنا نضحك , ولكنه ضحك كالبُكاء .
ولو نظرنا إلى السماء الدنيا , وما تكشّف من خبئها فلن نجد للشعوب الإسلامية أثرا فيه , فالولايات المتحدة أخرج الله لها خبئا من حجارة القمر , وتبحث عن خبء في المريخ والزهرة , وتفحص نوعيات لأشعات كونية وشمسية , وموجات واتصالات , و تتابع خبئا محتملا من إشارات غامضة في الفضاء , وترسل مركبات فضائية تحمل رسائل بكل لغات الأرض, ورسما لرجل وامرأة على لوحات معدنية رمزا للجنس البشرى , وتبذل جهودا لبحث احتمالات وجود مخلوقات عاقلة أو حضارات أخرى فى كواكب أخرى فى المجموعة الشمسية أو فى مجموعات أخرى
والمسلمون يتلون آيات الله , وفيها إشارات الهدهد في كتاب الله منذ أربعة عشر قرنا , دون تدبر ودون عمل بها , حتى صاروا إلى ماهم فيه , فتلوا الآيات المخطوطة , ولم يقرأوا الآيات الكونية .
وتجتهد الشعوب الأوربية في إخراج الخبء من أفكار الناس بحرية الفكر والبحث و إمكانيات المعامل والمختبرات , ومناقشة كل صغيرة وكبيرة مما يفكر الناس فيه ,
في حين تملى أنظمة كثيرة من حكومات المسلمين فكرها على شعوبها ولاتتيح فرصا لإخراج خبء الأفكار والعقول , فيستقطبها العالم الأول ويخرج الله الخبء له علما وآدابا وبحثا علميا وأجهزة واكتشافات واختراعات واقتصادا وثروات وقوة .
كما أن أنظمة أخرى فى بعض البلاد , تمكِّن لمن لا يستحق , أن يصل إلى مجالس التشريع ومراكز اتخاذ القرار, فيشرِّع خطأً , ويقرر تخلُّفا , ويتحكَّم فى مصائر البلاد والعباد إلى آجال طويلة , فلا يخرج خبءٌ من أرض ولا من سماء , ولا يخرج خبء من عقول , ولا حول ولا قوة إلا بالله , اللهم لا تجعلنا منهم ياربّ.
وهذه وهذه وتلك , لايستعملها المسلمون في أرضهم وبلادهم وأنظمتهم , ولكنهم يكتفون بتلاوة كتاب ربهم تلاوة سطحية – لمن يتلو منهم – ولايتدبرونه , ولايعقلونه ولايتفكرونه ولاينفذون إلى لبِّه , وكلها تكليفات وأوامر من ربهم وهم لاينفذونها , ثم هم يعيشون في ضعف وذلة وخضوع وعدم اطمئنان وينسبون ذلك إلى مؤامرات شعوب وحكومات وأنظمة معادية , والعدو الأول هو الشيطان ثم الجهل والكسل وترك أوامر الله بتدبر كتابه والعمل به , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
.. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم .
والمسلمون يتلون إشارات الهدهد دون وعى لمعناها فتخلو بلادهم من كل هذه النوعيات من الخبء الذى يخرجه الله في السموات والأرض .
وهم يسجدون بجباههم كلما تليت عليهم هذه الآية , ويكتفون بذلك .
فهل هذا هو السجود الذى يرضى الله ؟
إن الهدهد أمام قدرة من قدرات الله – وهى أنه سبحانه يخرج الخبء فى السموات والأرض ويعلم ماتخفون وماتعلنون – سجد وأسجد الأمة . وهو يسجد ونسجد من ورائه إلى يوم القيامة كلما ذكرت هذه القدرة , وكلما قرئت هذه الآية .
فإذا لخصنا السجدة فإنها تكون كالتالى : يذكر أحد المؤمنين قدرة من قدرات الله أمام قوم مؤمنين , فيكون ذلك مدعاة للسجود لله رب العالمين , لا مرة واحدة , ولكن كلما ذكرت هذه القدرة واستطاع الحاضرون السجود.
… إذن فماذا نفعل أمام كل مانعلم من قدرات الله ؟
إن الواجب علينا أن نسجد لله , أمام كل قدرة تذكر أمامنا , من قدرات الله عز وجلّ.
لا حين تذكر لأول مرة , ولكن كلما ذكرت أمامنا.
إذن : لابد أن يطول بنا السجود ليشمل حياتنا كلها , حيث أن قدرات الله نراها وتعرض علينا فى كل لحظة .
فإن فعلنا , فلا وقت لعمل ولا لسعى !!
… هل هذا هو السجود المطلوب ؟