( قالت يا أيها الملأ إني ألقى إلىّ كتابٌ كريمٌ . إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا علىّ وأتوني مسلمين)(النمل 29-31).
انتقل المشهد إلى مملكة سبأ , حيث ألقى الهدهد كتاب سليمان , إلى الملكة بالذات دون غيرها من القوم , فقالت ( إنى ألقى إلىّ ).
وكان أمر سليمان له ( فألقه إليهم ) . فلو ألقاه إلى أى شخص آخر من قومها لكان قد نفذ أمر سليمان دون حرج أو تقصير , ولكنه اختار الملكة من دونهم جميعا , وألقى إليها الكتاب الهام والخطير , تقديرا منه للمسئولية , وشعورا بخطورة محتوياته.
فبإلقائه كتاب سليمان إلى الملكة تحديدا , يكون بذلك قد ألقاه إلى القوم كلهم متمثلين في شخص الملكة , أى باللغة الرسمية ” إلى من يهمه الأمر” أو إلى “الممثل الرسمى”.
والعكس غير صحيح , فإلقاء الكتاب إلى أى شخص من القوم غير الملكة , رغم أنه يحقق الأمر شكلا , إلا انه لايحقق المضمون .
ونحن نحدد في تعاملاتنا شخصا واحدا يمثل شركة أو هيئة أو وزارة أو دولة أو مجموعة دول , وأن أى مراسلات أو أحاديث مع هذا الشخص تعتبر مع كل من يمثلهم
وهذا المعنى استوعبه الهدهد , ووعاه وتصرف بمقتضاه بمسئولية وفهم كاملين .
ولنحلل قول الملكة , الذى تضمّن الآتى:
1) قالت يا أيها الملأ : جمعت الملأ , ولم تتحدث لكل القوم . والملأ أشراف القوم وعليتهم وجمعهم ,وأصحاب الحلّ والعقد فيهم, لتبلغهم بأمر الكتاب الذى ألقى إليها .
2) بدأت بالتمهيد لهم بمدح الكتاب , رغم مايحمل في طياته من أمور خطيرة يهدد معتقداتهم وأمنهم , ولكن الملكة الحصيفة لا تزعج القوم بالأخبار الخطيرة قبل أن تمهد لهم ( إني ألقى إلىكتاب كريم ) .
3) ذكرت المرسل ( إنه من سليمان ) وقد يفهم من ذلك ذيوع صيط سليمان فى كل المنطقة , كما أن كلمة سليمان تعنى السلام والسلامة , والسلم .
4) ذكرت استفتاح الكتاب ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) وفيها معانى الرحمة والقدرة , ولفظ الجلالة الجامع لكل معانى الجمال والكمال والجلال , وفى هذا الاستفتاح يبين سليمان منهجه بأنه يتحدث باسم الله , وبالتالى فهو لا يريد إلا الخير للقوم , ولا ينتظر منه ظلم ولا جور وهو يتحدث باسم الله .
5) ذكرت المطلوب في الكتاب , وهو تهديد فى صورة نهى وأمر ( ) والنهى والأمر يأتيان من موقع السلطة والعزة والقوة , حيث لا معنى لهما لو صدرا من موقع ضعف وذلة , أو من موقع تعادل وندّية والتهديد فهمته الملكة , وفهمه الملأ , ظهر ذلك من تعليقاتهم فى الآيات التالية .
كان حجم الكتاب صغيرا يتناسب مع قدرة الهدهد في حمله , كما كان مضمونه مختصرا , لم يشرح فيه سليمان شيئا عن العقيدة والدعوة , ولكنه في الحقيقة كان استدعاء للملكة والملأ .
وكانت لغته المكتوبة , مقروءة للملكة.
وفى الحقيقة , إنها لم تتل نصّ الكتاب عليهم , ولكنها لخصته لهم ورتبت نصه حسب أسلوبها حيث قالت “إنه من سليمان , وإنه باسم الله..,و(إنه) إشارة إلى غائب. وقالت “ألاّ تعلوا ..” ولن يقول سليمان ألاتعلوا , ولكن يمكن أن يقول “لاتعلوا” , فكلمة “ألا “هى تعبير الملكة , وليس تعبير سليمان.
إن النص المذكور ليس هو نص أو عين قول سليمان , ولكنه مضمون رسالته كما أرادت الملكة أن تنقله .
وبهذا الأسلوب توجهت الملكة إلى الملأ بعد إذاعة نبأ كتاب سليمان :
( قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري , ماكنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ) (النمل 32)
والفتيا التي طلبتها الملكة هي بيان للحكم على شئ , أي هي رأى – مجرد رأى – غير ملزم لها , فهى (قاطعة أمرا) وتطلب فتياهم , ولن تقطع أمرا حتى يشهدوها , أي بحضورهم , وهذا يبين طبيعة العلاقة بين الملكة والملأ , فلا وزن لرأيهم إلا كونه رأيا استشاريا غير ملزم .
ولو نتذكر قول فرعون حين كان فى حاجة إلى ملئه للرد على استعراض موسى عليه السلام ” قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم. يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون”( الشعراء 34و35). أهكذا يافرعون !! هل قومك يأمرون؟ أم أنك تنافقهم !!؟ وهذا يدل على ضعف حجته ومنطقه
أما ملكة سبأ فهى قاطعة أمرا, وقومها يفتونها, ويحضرون ويشهدون , ولكن لا يأمرون.
هل كان كتاب سليمان من وجهة نظر الملكة كتابا كريما حقا؟
.. في الحقيقة , إن كتاب سليمان إلى ملكة سبأ وقومها لم يكن من وجهة نظرها كريما , حيث كان يهددها في ملكها , ويهددها في عقيدتها . وأى تهديد أكبر من ذلك ؟
يظهر هذا من صيغتى النهى والأمر ( ألا تعلو على وأتوني مسلمين ) ..
.. كما يظهرمن انطباع الملأ بعد إبلاغ الملكة لهم:
(قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) (النمل33) أى أنهم جاهزون للحرب والدفاع عَددا وعُددا , ولا يكون هذا إلا أمام تهديد , وليس أمام كتاب كريم .
و يظهر كذلك من رد الملكة ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة , وكذلك يفعلون ) (النمل 34)
إذن فإن مضمون الكتاب تهديد , فلا يعتبر هذا كتابا كريما بالنسبة لها .
.. فلماذا تصفه للملأ بأنه كتاب كريم ؟
إنها تنقل إليهم أخبارا مزعجة , فتلطّف الخبر عليهم .
ثم تبلغهم أنه من سليمان (المرسل),
و أنه بسم الله الرحمن الرحيم : الاستفتاح ,
ثم المضمون , ألا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين.
وغالبا , فقد بدأ سليمان باسم الله الرحمن الرحيم , ثم ثنى بطلبه ( لاتعلوا على وأتوني مسلمين ) ثم غالبا ما ذكر أشياء أخرى في كتابه مثل المكان الذي يأتون إليه , وربما الموعد أيضا , ثم أنهى بتوقيعه ..
وربما كان توقيعه بعد البسملة ( من سليمان )
وغالبا ما يكون قد توجه إليها بالكلام كملكة .
وأما الملأ فقد فوضوها فى اتخاذ القرار السياسى, ووعدوا بالدفاع عنه أيا كان, وهذا شأن الجنود الواثقين من قيادتهم . ولكنه ليس شأن الساسة الذين ينظر كل واحد منهم من وجهة مختلفة , وتسمع مناقشات وآراء تثرى الموضوع , خاصة حين تكون آراء مخلصة لا تبتغى إلا وجه الله , ثم مصالح البلاد والعباد .
ونتصور نص الكتاب مثل هذا :
باسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان ( وربما صفته أنه الملك أو الملك النبى )
إلى ملكة سبأ
لا تعلو علىّ و أتوني مسلمين
(ثم ذكر المكان والزمان المطلوب أن يأتوه فيه ).
حيث أن سنة أنبياء الله أن يبدأوا باسم الله , كما كان يحدث من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسائله إلى الملوك .
فلماذا أبدلت الملكة مواضع الكلم فأتت باسم سليمان قبل اسم الله ؟
إن النص الوارد في كتاب الله على لسان الملكة , هو مضمون كتاب سليمان وليس عين ونص الكلام , لأنه لابد سيحوى أمورا أخرى .
وربما يفسر هذا ذكر اسم سليمان قبل اسم الله , فالملكة لا تكترث بذكر اسم الله أولا حيث كانت تسجد للشمس من دون الله , ولكنها تدرجت في نقل وإذاعة مضمون كتاب سليمان , فبدأت بوصفه بالكريم وهو من وجهة نظرها ليس كذلك ولكنها الدبلوماسية ..
.. وأي كافر يأتيه كتاب يدعوه لتغيير عقيدته عادة مايصفه بأوصاف غير ذلك , كما فعل كفار مكة حيث قالوا عن القرآن أساطير الأولين اكتتبها فهى تُملى عليه بكرة وأصيلا , وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاعر و كاهن وساحر ومجنون .. كبرت كلمة تخرج من أفواههم , إن يقولون إلا كذبا.
والملكة رغم تهديد سليمان لها في عقيدتها وملكها تقول عن كتابه ( كتاب كريم ) وهى سياسة وحصافة وحسن تقديم للأنباء المزعجة .
ثم بدأت في لفت نظر الملأ إلى مرسل الكتاب (إنه من سليمان ) ثم تطمئن الناس مرة أخرى ( وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ) ثم في الأخير تنقل مضمون النبأ بتبسيط ( ألا تعلوا على وأتوني مسلمين ) .
لقد فهمت الملكة خطورة كتاب سليمان , وفهمها الملأ وأعلنوا استعدادهم بالقوة والبأس الشديد .
وفى تاريخنا الحديث أحداث يمكن قياسها على موقف الملكة من الأنباء المزعجة , فبعد اجتياح القوات المصرية خط بارليف بالعبور العظيم في رمضان – أكتوبر 1973 , واتجاه العمليات العسكرية لصالح مصر , ألقت الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها في المعركة مباشرة بأن أنشأت جسرا جويا بين أمريكا وسيناء نقلت عبره أسلحة ومعدات وذخائر , حتى أنه كما شاع – وجدت بعض الدبابات المصابة وعداد قياس المسافات فيها مسجل عليه أقل من مائة كيلو متر, وأنبأ كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى آنذاك ـ أنبأ الرئيس الراحل السادات بأن أمريكا قد بدأت تلقى بثقلها مباشرة في المعركة.
ولو أن السادات قد أذاع هذه الأنباء على الناس أو القوم لكنا نتوقع ردود أفعال متباينة , من بعض اليائسين ـ وهم قلة نادرة – بأن تهتز أيديهم على الزناد , ومن بعض شديدي الحماس بأعمال تخريبية ضد الولايات المتحدة , قد تزيد الطين بلة , ولكن ماحدث أن الرئيس السادات قد أصدر أوامره إلى القوات بإيقاف القتال , وبرر ذلك بأننا دعاة سلام وتفاوض , وأننا فى موقف قوة , بدلا من إعلان أنه تحسّب لمزيد من إراقة الدماء والتدمير والدخول في حرب غير متكافئة .
وأيا كان اجتهاده واختلاف الآراء فيه , فهو داهية سياسى , تعامل مع الأنباء المزعجة بحكمة ولم يذع عين الأنباء بل أذاع ما يريد أن يذيع منها , وبالأسلوب الذى أراده .
ونأخذ من هذه الآيات درسا في كيفية نقل الأنباء المزعجة للناس :
.. فالمجتمع مكون من القوم وهم عامة الناس ..
.. وفيهم الملأ , وهم عليتهم وأصحاب الرأي فيهم ..
.. ولهم جميعا ملكة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم .
فإن كنت ناقلا لنبأ مزعج أو خطير , أو لرسالة ذات أهمية قصوى , فعليك بتوصيلها إلى رأس القوم أو المسئول الأول فيهم , فإن فعلت فقد ضمنت أن يتم التصرف بحكمة وبمسئولية , و إن لم تفعل , ولكنك أذعت بالنبأ لغير المسئول الأول , فإنك لاتضمن النتائج التي غالبا ما ستأتى مختلفة تماما عن الحالة الأولى , حيث سيصاب الناس بالفزع والهلع وربما يبدأون في الانفعالات التي تصعب السيطرة عليها .
ثم عليك أن تمهد للناس الخبر , تدريجيا , وتخفف من وطأته عليهم , دون أن تبسطه تبسيطا مخلاّ بخطورته.
وفى ذلك يقول الله تعالى ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به , ولو ردوه إلى الرسول و إلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم , ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا).النساء 83
وفى الواقع فقد اتبع الهدهد هذه النصيحة التي نصحنا الله بها في كتابه فقد رد الأمر من الخوف إلى الملكة وهى ولية الأمر لقوم سبأ , وهى بدورها قدمته – لا للقوم كلهم , ولكن للملأ منهم , وكانت في تقديمها حريصة على عدم إزعاجهم , وعلى تبسيط الأمر لهم , وطمأنتهم .
وربما لو لم تكن بهذه الحصافة , لبدأت في الانزعاج , وبدأت تقول لقومها لقد جاءنا تهديد خطير من ملك قوى يدعونا للاستسلام فى عقيدتنا وملكنا , فتثير هياج الناس حماسا أو خوفا , وهى كلها انفعالات عاطفية لا يسيطر العقل عليها , فالجماهير لاعقل لها , إن هي أثيرت وانفعلت .
عودة إلى ملكة سبأ :
فبعد سماعها لرأى الملأ واستعداداتهم وتسليمهم الأمر إليها لتنظر ماذا تأمر : ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة , وكذلك يفعلون ) (النمل 34) .
إن هذا وصف لأفعال الملوك غير المؤمنين إذا دخلوا قرية , وهى تصرفات ظالمة , وافتراء وإذلال لأعزة الناس بالذات , تمثيلا بهم أمام مواطنيهم .
أما المؤمنون فانهم لايتصرفون كذلك !!.
ففيما روى من السيرة , أنه حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا , بعد أكثر من عشرين عاما عداوة بين الكافرين من أهلها وبين الذين آمنوا معه , وعداوة أهلها له شخصيا , ولدين الله كله , فحين تمكن من أعزة أهلها سألهم : يا معشر قريش ,ما تظنون أنى فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا , أخ كريم وابن أخ كريم , قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء . أو كما قال.
وكيف تعامل مع أعز أعزة أهلها – أبى سفيان ؟
بعد أن شهد أبو سفيان بألاّ إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله , قال العبّاس عم النبىّ: يارسول الله ,إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر , فاجعل له شيئا. قال ( نعم, من دخل بيت أبى سفيان فهو آمن, ومن أغلق بابه فهو آمن , ومن دخل المسجد فهو آمن ) إكراما للرجل العزيز في قومه , وترقيقا لقلب الرجل الذي انهزم أمامه – متناسيا كل عداوات أبى سفيان السابقة.
ورغم أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة عامة , تؤكد على أن من دخل بيت أي واحد من عموم المسلمين فهو آمن , ولكن نص الحديث يوحي بتشبيه بيت أبى سفيان بالذات بالكعبة ووجه الشبه هو أمن من دخله , تماما كأمن من دخل بيت أحد من المسلمين , بل من المواطنين على اختلاف ملتهم , ولكنه لطف من رسول الله لأحد أعزة أهل مكة , ورأفة ورحمة للعالمين . صلّى الله عليه وسلّم.
وفى الحقيقة فقد جعل صلى الله عليه وسلم أذلة الناس أعزة , فقد كانوا أذلة للكفر , وللتقاليد البالية الجاهلية , أذلة للخمر , ولرؤسائهم الظالمين , وللشيطان, وللذنوب . أذلة فى الدنيا وأذلة فى الآخرة , يقال للواحد منهم فى النار سخرية (ذق إنك أنت العزيز الكريم)(الدخان 49).
فأعزّهم الله بدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم , ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.