بدأ سليمان باستعراض للقوة والعلم وتطبيقاته , وإمكانيات ملئه وجنوده :
(قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين )(النمل 38)
لقد توجه إلى الملأ ولم يتوجه إلى الناس عموما . والملأ هم المتميزون من الناس فى الإمكانيات والفكر , وأهل الحل والعقد.
.. حين أعلن تعلمه منطق الطير, قال ( يا أيها الناس ) وحين أراد قدرات خاصة قال ( يا أيها الملأ ) . وهكذا فلكل مقام مقال , ولكل أمر رجاله .
وقد طلب شيئين :
1 ) أيكم يأتيني بعرشها : … يريد إحضار عرشها إليه
2 ) قبل أن يأتوني مسلمين : … يريد الزمن والسرعة ويحدده قبل أن يصل قوم سبأ إليه مسلمين .
وهو بهذا لايشك لحظة في أنهم سيأتونه مسلمين , مستسلمين.
.. إذن فقد بلغ سليمان معلومات مؤكدة أن قوم سبأ فى الطريق إليه سيأتونه مسلمين.
وبالقياس على ما سبق من أحداث , تكون الخطوات المنطقية التى بها يعلم سليمان أن سبأ سيأتوه مسلمين , والتى يخطوها القوم ليأتوا إلى سليمان مسلمين , هى كالتالى:
- يرجع الهدهد إليهم برسالة التهديد التى قالها سليمان ” ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود …” الآية. وهى رسالة مكتوبة كسُنّة سليمان فى رسالته الأولى.
- تجتمع الملكة مع الملأ لمناقشة الأمر , ثم تقرر هى أن تأتى إلى سليمان مستسلمة , وتعلن هذا للملأ الذين لن يعترضوا عليها , فالأمر إليها,وهى الآمرة الناهية. وذلك كما حدث فى المرة السابقة.
- ينظر الهدهد ماذا يرجعون من القول والقرارات. تماما كما حدث من قبل , وكما أمره سليمان أول مرة.
- يرجع الهدهد إلى سليمان بالتقرير الذى به يعلم سليمان أن القوم سيأتونه مسلمين. أيضا كما حدث من قبل. وتكون عودته أسرع من وصول الملكة فى موكبها, حيث يطيرالهدهد طيرانا متواصلا لمدة حوالى 25 إلى 30 ساعة طيران , أما الملكة فأمامها مسيرة بضع ليال وأيامها.
- يدعو سليمان الملأ أن يأتيه أحدهم بعرشها قبل أن يأتوه مسلمين, وذلك للغرض الذى سيعلنه بعد ذلك.
ويكون للهدهد دور مماثل لأدواره السابقة تماما,
..ولا يمكننا أن ندعى أن سليمان سيعلم عن أحوال سبأ شيئا دون مساعدة الهدهد, وإلا لكان قد علم أصدق الهدهد أم كان من الكاذبين دون حاجة إلى اختبار , والله أعلم.
والهدهد لا بد راجع إلى سليمان لعدة أسباب : فمستقره عند سليمان , وهو ضمن جنوده , فهم يوزعون , أى بأمره يتحركون , وهو لابد أن يبلغه ماذا يرجع قوم سبأ من القرارات , خاصة وهو فى هذه المرة مكلف بمهمة عمل بأمر سليمان , لا بهدف اختبارصدقه , ولكن باعتباره سفيرا حاملا لرسالة ,بعد أن ثبتت كفاءته فى هذه المهمة .
● لقد رجع الهدهد من أول زيارة له لسبأ , بأنباء شفهية , لم يصدقها سليمان ولم يكذبها , وإنما اختبره لينظر أصدق أم كان من الكاذبين.
● ثم حين عاد للمرة الثانية إلى سليمان , لم يعد بكلام شفهى دون دليل , ولكنه عاد ومعه المرسلون بهدية الملكة, فصدقه سليمان.
● ثم أرسله سليمان عليه السلام برسالة ثانية إلى سبأ (ارجع إليهم..)
● ثم عاد الهدهد إلى سليمان للمرة الثالثة دون حاجة لانتظار دليل مادى ليصدقه , فهو الآن مصدًّق لدى سليمان , وبعد أن نظر ماذا يرجعون , ورآهم وقد بدأوا فى السير إلى سليمان مسلمين , سبقهم إليه وأبلغه بخبرهم وبأنهم يأتونه مسلمين , ف(قال ياأيها الملأ أيكم ياتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين)
وهذه آخر أفعال وأقوال الهدهد التى ذكرت فى القصة طبقا لما فهمت , والله أعلم.
والهدهد أثار مواضيع كثيرة , غاية فى الأهمية , ولفت الله به الانتباه إلى علوم وخيرات كثيرة , لسليمان , ولملكة سبأ , وللناس أجمعين , وأدت حركته بالسير فى الأرض وحبه للترحال إلى توصيل دعوة الله إلى قوم لم يسمعوا بها من قبل , ومن ثم إلى دخولهم فى دين الله أفواجا , كما سيظهر فى بقية أحداث القصة .
إن الهدهد كان سائحا مثاليا
.. ضرب مثلا لكل السائحين والرحّالة والمسافرين , فهو يعشق السفر والترحال , ومغرم بحب الاستطلاع والتنقل بين البلاد , حتى إنه أخذ المخاطرة وسافر دون إذن مسبق معرّضا نفسه لخطرالعذاب والذبح فى عدم استئذانه من سليمان.
وفى سياحته , كان الهدهد مثالا للسائح المنضبط الجاد المؤمن , الناقد الذى يعرض ما يراه على قواعد العقائد ومبادىء الإيمان , فهو قد وصف القوم والملكة والملك والعرش , ثم وصف تصرفاتهم وأعمالهم ونواياهم , ثم عرض كل هذا على عقيدته وانتقد بشدة كفرهم وضلالهم , ثم ذكر التصرف الأمثل طبقا لعقيدته , بأن يسجدوا لله , وبرر ذلك بأحقية الله سبحانه فى أن يسجد له الناس جميعا , له وحده لا شريك له, فكان غيورا على الله من أن يسجد أحد لغيره سبحانه, وذكر قدرة من قدرات الله التى تكفى لأن تجعل الناس جميعا يسجدون له جلّ شأنه.
لم تبهر الهدهد إمكانيات سبأ , وما أوتيت ملكتهم من كل شىء , أو من عرشها العظيم, كما ينبهر بعض السائحين من قومنا , بإمكانيات الغرب أو الشرق, ويتشبهون بأعمالهم وتصرفاتهم دون فرز ودون وعى , ودون عرض على ما يرضى الله وما يغضبه, فهم يرون ولا يفقهون , ويسمعون ولا يدركون ويقول الله تعالى فى أمثال هؤلاء :
“أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها , فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور”.(الحج 46)
لقد كان الهدهد مثالا لما يريده الله من الذى يسير فى الأرض , فكان له قلب يعقل به , وعين يسمع بها , فعقل ما رأى وما سمع , ولم يكن أعمى القلب .
ثم إنه حين رجع إلى مقرّه , نقل مارآه , وعلّق تعليقا مؤمنا ونصح لله وللناس , جزاه الله عنا خيرا , وجعلنا من أمثاله !!
لقد كان حسن تصرف الهدهد فى سياحته , مبررا لأن يعفو عنه سليمان عليه السلام , بعد أن تأكد من صدق روايته وثبتت براءته من جريمة الكذب. رغم أن ذنبه فى مخالفة الأوامر والتغيب بدون أذن قد وقع فعلا , لكن كياسته وإيمانه وصدق توجهاته شفعت له , فنال العفو والسماح.