وقع آدم وزوجه في براثن الشيطان فأكلا من الشجرة المحرّمة, وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة, ثم تابا إلى الله فتاب عليهما, فجعل الله يحذّر بني آدم مما وقع فيه أبواهما, ويودع فيهم ميثاق الفطرة, وذلك من قبل أن يرسل رسله ومن قبل أن يُنزِل كتبه. كيف يصل هذا الميثاق لكل فرد من بني آدم بلا استثناء؟
لقد وجّه الله لبني آدم من البداية توجيهات عامة. ووضح لهما سنته فيهم, في أربعة نداءات , وأربع رسالات, قبل أن يرسل إليهم رسله, وهي موجّهة إلى بني آدم كلهم جميعا, ولم يقل فيها الله: يا أيها الناس, ولا: يا أيها الإنسان. إنها هي النداءات الوحيدة في القرآن لبني آدم فور الأحداث التي حدثت بين آدم والشيطان,
وبعد هبوط آدم وزوجه من الجنة التي كانا فيها. وتكرر النداء لبني آدم مرة خامسة في سورة يس, ولكنه نداء يوم الحساب: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين), وبمراجعته في سورة يس, يتبين أنه تعقيب يوم القيامة على الوصايا والنداءات والرسالات التالية من سورة الأعراف, التي أنزلها الله على بني آدم منذ البداية, وأودعها في فطرتهم التي فطرهم عليها, و بلغة الحاسب الآلي, فكأنها البرمجة الأولى أو النظام الأساسي لبني آدم. ولنتدبر هذه الرسالات:
- يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26)[i]
إن الله أنزل على بني آدم رسالاته الهادية وشريعته, لباسا يواري سوءاتهم في سوء استخدام حق الاختيار الذي منحه لهم, وسوء الفعل في الخطأ والخطيئة, فيهديهم به الله إلى العقيدة السليمة, وإلى الشريعة الحكيمة الحاكمة العادلة. فإذا التزم بنو أدم بما أنزله الله عليهم, فإنهم لن يخطأوا في الاختيار, أي لن يتعمدوا الخطأ, ولن ينزلقوا إلى المعصية, وبالتالي سوف يختارون الطاعة ويتوافقون مع ما يأمر الله وينهى, فيوارى سوءاتهم المحتملة من حرية الاختيار.
وقد أنزل الله على بني آدم, كما سن رسوله صلّى الله عليه وسلم مستويين من اللباس, أولهما لباس الفروض. والالتزام بها يواري السوءات, وينجي بني آدم من سوء المعصية والفواحش وارتكاب الأعمال والأقوال التي تسيء وتشين. وبالتالي يجنّبهم مواقف مشينة بين يدي الله, وعلى رءوس الخلائق يوم الحساب.
كما أنزل فوق ذلك ريشا, وهو ما يزيده المؤمنون من أعمال وأقوال وأفعال ترتفع بها درجاتهم في الجنة. فالفرض لباس يواري سوءات بني آدم, والنافلة ريش تزينهم وتكسوهم, والزكاة لباس يواري سوءات حب المال والصدقات ريش, والحج لباس يواري سوءات الكبرياء والتكبر, وسوءات الكسل والركون إلى المكان والملبس والأهل وانشغالات الحياة, والعمرة ريش, وصيام رمضان لباس يواري سوءات شهوات الطعام والشراب والجنس, وقيام ليله ريش. ومن يكتفي باللباس يكون من أصحاب اليمين وليس عليه حرج, أما من يرتقي بالريش فإنه يكون من السابقين السابقين, أولئك المقربون في جنات النعيم. السابقون يخافون مقام ربهم فلهم جنتان, وأصحاب اليمين الذين يكتفون بلباس يواري سوءاتهم, لهم من دونهما جنتان.
وفي الجنة مستوى أصحاب اليمين, ومستوى السابقين المقربين.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِيَامُ رَمَضَانَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ *البخاري 44
وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا *مسلم 18
فلو نطق المسلم الشهادتين بقلبه ولسانه, وأدى الصلاة, والزكاة, وصام رمضان وحج البيت, ثم لا يزيد على ذلك شيئا, دخل الجنة كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولكنه يكون على الحافة, أما إن زاد على ذلك من النوافل والسنن, وحسن الخلق وصدق المعاملات, فإنه يحصّن نفسه من الخطيئة, كما يرفع الله به درجاته في الجنة إن شاء سبحانه.
وروى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ
إذن فهناك مستويان أنزلهما الله على بني آدم: مستوى الفروض, ومستوى النوافل. الفروض هي كل ما فرضه الله على عباده, ولا تقتصر على فروض العبادات بمعناها الفقهي من أركان الإسلام, وإنما أن نتبع كل ما فرض الله علينا وننتهي عن كل ما نهانا عنه, ولا غنى عنها لمن أراد أن يطيع الله, والنوافل بعد أداء الفروض, تؤدي إلى حب الله, وهداية الله وتوفيقه ورشده في السمع والبصر وعمل اليد, وخطى القدم, وتفتح أبواب عطاء الله وإجابته لسؤال عبده, وتفتح الباب لإعاذة الله لمن استعاذه؛ هذا في الدنيا.
أما في الآخرة, فإن الفروض تؤدّي إلى الجنة ويكون مؤديها بحقها من أصحاب اليمين بإذن الله, وله جنتان. ولكنهما من دون جنتين للسابقين السابقين, أولئك المقربون في جنات النعيم, فلهما جنتان أعلى وأرقى. وتوصيف ما في كلتا الدرجتين, موجود في سورة الرحمن. وتوصيف جزاء وأحوال كل من المستويين: أصحاب اليمين , والسابقين المقربين, مبين في سورة الواقعة.
وتصل إلى المستوى العادي بالتقرب إلى الله بما افترضه عليك, ثم تصل إلى الدرجات العلى بالتقرب بما افترضه الله عليك, وبالتطوّع بالنوافل التى بينها لك الله ورسوله.
ثم إن هذا في شكل الأداء والعمل والقول, أما سوءات السرائر التي لا يعلمها إلا الله, فإن التقوى لباسها, وذلك خير. فإن رأيت الرجل يصلي الفريضة فقد التزم باللباس الذي أنزله الله يواري سوءاته من احتمال المعصية, أما إن صلاها في المسجد في جماعة في أول وقتها, فذلك الريش, وإن صلى النافلة فهي ريش, أما إن كان خاشعا في صلاته, يحافظ عليها, فإنه يكون لابسا لباس التقوى وهو لباس المتقين, الذي يواري سوءات التصرفات والفواحش من الأقوال والأعمال وتنهاه الصلاة عن الفحشاء والمنكر, ويواري سوءات حرية الاختيار التي أودعها الله في بني آدم. ولباس التقوى ذلك خير, حيث أنه يواري كل السوءات, المادية والحسية والمعنوية, في الجسد وفي القول وفي العمل.
ويحتاج كل ذلك إلى تذكُّر مستمر لأنها ممارسات الحياة كلها, لذا قال: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)
- يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)
ثم يحذر الله بني آدم من فتنة الشيطان التي بها أخرج أبوينا من الجنة ينزع عنهما لباسهما. إنه عليه لعنة الله, يقعد لبني آدم صراط الله المستقيم, حتى يحيدوا عنه, وبذلك يكون قد نزع عنهما لباسهما من الطاعة والحياة في كنف رضى الله, وشرعه وكتابه الذي أنزله, فيريهم الشيطان سوءاتهما, وهنا أفهمها أنها المادية والمعنوية. في القول وفي الفعل وتشمل أيضا سوءات الجسد من الفرج والعورة, لكن لا تقف عندها.
وللجسد سوءات سوى العورة, فالقوة الباغية بغير الحق سوءة للجسد, والعبوس في وجه الناس سوءة في الوجه, والعين الناظرة إلى ما حرم الله, سوءة للعين, واللمس لما حرم الله سوءة في اليد, والمشي إلى ما لا يرضي الله, سوءة في الرجل, وقول الزور والفاحش من القول, ورمي المحصنات, سوءة في اللسان, وهكذا, وكل ذلك ربما يفوق في سوئه وتأثيره كشف العورة الحسية, ويتدنّى إلى ما هو أسفل من تأثير كشف العورة فقط على الناس وعلى المجتمع, فكشف العورة الحسية خطوة أولى نحو المعصية ولكن كل ماذكر هو المعصية بعينها وهو تعدّي المعصية إلى ظلم الناس وغضب رب الناس.
وقال بعض المفسرين: إنما عنى الله بقوله: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِباسَهُما), يسلبهما تقوى الله.
والشيطان وقبيله, يروننا من حيث لا نراهم.
ومن يسلب تقوى الله, فإنه يستصغر الذنوب, ويحقّر صغائرها, حتى يعتاد على انتهاك حرمات الله, ويُسلب تقوى الله, روى أحمد بن حنبل (3627) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا *ومعظم النار من مستصغر الشرر.
وكنتيجة طبيعية, أن الله جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون. فيسيرون على وسوستهم وإغوائهم وإغرائهم, ويتحكمون فيهم, وبالتالي فهم يقعون في النهي والمخالفة التي هي في صدر السورة: اتبعوا… ولا تتبعوا…
والتعقيب على الآيات يذكر فعل الفاحشة, ولا يتحدث عن الفرج بالذات..
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(28)قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(30)[ii]
إن احتجاج بني آدم باتباع الآباء فيما يفعلون وفيما يخالفون, أو بأن الله أمرهم بالفاحشة هو محاولة لإضفاء الشرعية على الخطأ واتباع أولياء من دون الله, وقول على الله ما لا يعلمون, يفترون على الله الكذب.
ولكي يعود فاعل الفاحشة إلى الفطرة التي فطره الله عليها, فلابد له من اتباع الخطوات التي بينها الله في هذه الآية:
● قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ : فالله أمر بالقسط وهو الاستقامة, فمن اعوج فعله, فعليه أولا أن يعود فيستقيم على الطاعة, ولا يترك نفسه فريسة للشيطان والتمادي في اتباع وسوسته.
● وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ: وإقامة الوجوه عند كل مسجد, فحين يقيم الإنسان وجهه عند كل مسجد, فإنه بذلك يعلن أنه قد اتخذ قراره بالسجود, فسجد عقله أولا وسجد قراره, ثم سجد وجهه, ويداه ورجلاه وركبتاه, وسجدت عيناه ولسانه وفمه وأنفه, كل جوارحه تسجد معلنة الطاعة لله والانقياد له بالسجود إلى الله إعلانا عن الخضوع والخشوع, والاطمئنان والطاعة والانقياد لله رب العالمين.
● وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ : والدعاء لله مخلصين له الدين, وكل ذلك ييسر للإنسان اتباع ما أنزل الله من هدى. فإن دخل الشيطان بالوسوسة, فإن الدعاء لله مخلصين له الدين يحفظ الله به ابن آدم فينقّيه من رجس الشيطان ووسوسته, ويعينه ويعطيه مسألته ويعيذه من الشيطان الرجيم.
● كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ : فيعود إلى الفطرة كما بدأه الله سبحانه على الفطرة, قال الله سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(30) الروم.
وفي حديث رسول الله:
● “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه”
● وفيه أيضا: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم”
● ويقول: “كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”.
وبذلك تكون الآية وصفة للإجراءات التي يجب أن يتخذها الإنسان الذي فعل فاحشة, لكي يعود إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وهي نصائح لحفظ الإنسان من الفواحش في القول وفي الفعل, ويقيه الله بها من شر الوسواس الخناس.
فإن اتبع ابن آدم هذه النصائح والأوامر فقد اهتدى بهداية الله, وهداه الله إليه.
أما إن لم يتبعها, فقد حقت عليهم الضلالة, لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون. وبذلك يكونون قد خالفوا صدر السورة فلم يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم, بل اتبعوا من دونه أولياء, وليسوا أولياء عاديين, وإنما هم اتخذوا الشياطين أولياء, وبذلك فقد حقت عليهم الضلالة بموجب ظلمهم وضلالهم.
- يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31).
إن الله يبين لنا بعد أن قص علينا قصة آدم وزوجه مع إبليس, فبعد أن أباح لهما كل الطيبات وسمح لهما بالأكل من حيث شاءا, إلا شجرة واحدة بينها لهما, بين لهما أنهما مخيران فيما يأمره الله وما ينهى عنه. إما أن يلتزمه فيكون من المتقين, وإما أن يقترفه فيكون من الظالمين.
وهو الآن يبين لبني آدم أنه أحل لهم زينته والطيبات من الرزق, واستثنى فقط القليل مما نهاهم عنه.
فإذا أقام بنو آدم وجوههم عند كل مسجد, فعليهم أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد. حتى لا ينفر منهم بقية رواد المسجد, وتكون ثيابهم كاملة مزينة. فكل ذلك حلال بل مطلوب ومستحب. وكذلك كل صنوف الطعام والشراب, ما عدا القليل الذي حرّم.
ومن مداخل الشيطان أيضا الإسراف في الأكل والشرب, سواء في الكمية أو في النوعية كأن يأكل من حرام. والله لا يحب المسرفين.
وحد الاعتدال هو الذي يحث عليه دين الله, فمن حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ بل إن أولى الناس بها هم الذين آمنوا, وإنما حرم الله أشياء أخرى.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(33)
إن الله يضع الأساس لتشريعاته في الحلال والحرام لبني آدم. وهو يتلخّص في الآتي:
● إن القاعدة الأولى أن المشرع الوحيد للحلال والحرام هو الله سبحانه وحده لا شريك له.
● لا يحق لأحد أن يحّرم زينة الله التي أخرج لعباده, والطيبات من الرزق.
● الزينة والطيبات من الرزق للذين آمنوا في الحياة الدنيا هم أولى بها, إلا أن بقية الناس يشاركونهم فيها, وتكون خالصة يوم القيامة للذين آمنوا دون بقية الناس.
إنما حرم ربي: إن الذي حرم هو الله. لكنه حين ذكر الزينة قال (زينة الله) وحين ذكر التحريم قال (إنما حرم ربّي), فربط التحريم بما يبلغنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فلكي نعرف ما حرم الله, علينا أن نلجأ إلى رسول الله فنتعلم من سنته تفاصيل الحرام. إن الحرام ما حرم الله ورسوله. وقد قال صلّى الله عليه وسلم ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم, وما نهيتكم عن شيء فانتهوا. إي أن النهي لابد أن ننتهي عنه كله.
● حرم ربي الفواحش: والفواحش كلمة تدل على قبح في شيء وشناعة, وكل ما جاوز قدره فيما يتكرّه. ولو استفتى الإنسان قلبه فيما يقول أو يفعل فسوف يعرف الفواحش.
● ما ظهر منها وما بطن: يجعل الله من الإنسان على نفسه بصيرة, يراجع نفسه فيما بطن من التصرفات, حتى لو لم يطلع عليها الناس, وإنما يشعر بأن الله مطلع عليه, فيتقي غضبه ومعاصيه, ولا يسمح له أن يرتكب الفاحشة حتى وإن كانت في نفسه لا يضر بها أحدا. ومن باب أولى يتقي ما ظهر من الفواحش. أما المجتمع وإدارته فعليها أن تحرم الفواحش بالتشريعات والقوانين والتربية والتوعية ومواثيق الأخلاق, وبالحكمة والموعظة الحسنة.
● والإثم: الهمزة والثاء والميم تدلُّ على أصلٍ واحد، وهو البطء والتأخُّر. والإِثمِ بطيءٌ عن الخير متأخِّر عنه.
o وهو أَن يعملَ ما لا يَحِلُّ له.
o وهو تعمّد المعصية
o وهوالذنب
o وهو ما حاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس.
● والبغي بغير الحق: وهو جنسٌ من الفَساد. وهوالظلم والاعتداء
● وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
● وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون: مثل الكفر والتحليل والتحريم بغير ما أنزل الله.
● وهذه كلها أساس الحرام والتحريم.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(34)
وهذه قاعدة أو قانون من قوانين الله وسنة من سننه. إنه جعل لكل أمة أجل, لا يستأخر ولا يستقدم. أي أن أمما ستنشأ ثم ينتهي أجلها, ثم تنشأ من بعدها أمم أخرى. فترث أممٌ أمما. وقد يكون الأجل موقوتا بموعد محدد, كما أنه قد يكون مؤجلا لحدوث ظروف معينة, حين تتجمع, يحل أجل الأمة. وفي كل الأحوال, فإن لكل أمة أجل, ولن تستمر أمة في علوّ دائم إلى الأبد. وهذا هو المشاهد أو هو ما حدث في التاريخ القديم والحديث. ففي القديم كانت كل أمة تمكث فترة ثم تنتهي وتخلفها أمة أخرى. أما في التاريخ الحديث, وبدءا من بني إسرائيل حيث يقول الله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى), وأصبحت سنة الله في الأمم أن تستمر في الأرض, ولا ينتهي وجودها تماما, وإنما تنتهي خلافتها لله في الأرض.
وقد أنشئت التشريعات عبر التاريخ الإنساني في أمة تتلوها أمة, وبنيت وتراكمت حسب التطور في المجتمع الإنساني.
وأصبحت الأمة الوارثة لخلافة الله في الأرض هي أمة محمد صلّى الله عليه وسلم. حكمت العالم لفترة طويلة, ثم تراخت وتراجعت عن الصدارة في الحكم السياسي والعسكري, كما تراجعت عن قيادة العالم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. فلا هي تقود العالم الآن بالحكمة في الفكر والعقيدة والأخلاق, ولا هي تقوده بالحكم والقوة السياسية والعسكرية كما لا تقوده في العلوم والفنون والآداب.
والفرصة ما زالت متاحة لكي تعود أمة محمد صلّى الله عليه وسلم للقيادة ولخلافة الله في الأرض في كل أو جُلّ هذه المجالات, ويمتد أجلها مرة أخرى ليسود عقيدة وشريعة, ليسود حكما وحكمة, ليسود علما وآدابا. ولتكون بحق هي الأمة التي استخلفها الله على الأرض, لتعود إلى ما يحب لها الله خير أمة أخرجت للناس.
إن الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي تسود وتقود عسكريا وعلميا واقتصاديا وإداريا, وتخطط لكي تستمر في السيادة, فلا تسمح لقوى أخرى بالسيادة. ولكن أمما شتّى في عالم اليوم, تفكر وتخطط لكي تسود العالم بفكرها وقوتها وعقيدتها, ولتكون بديلا عن الولايات المتحدة الأمريكية. فالاتحاد الأوربي يخطط لذلك, ويحاول الحفاظ على الهوية الأوربية وكما يسمونها وعلى قيم المجتمع الغربي ومكاسبه, وكذلك الاتحاد السوفييتي أعتقد أنه لم ينس بعد أنه كان إحدى القوتين الأعظم من الناس, والله سبحانه هو أعلى وأعظم وهو القاهر فوق عباده. وكذلك تسعى الصين لتكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم, وغيرها وغيرها من الأمم.
فأين أمة محمد في هذه التخطيطات؟ وأين خطتها لتسود؟ وما هي عناصر السيادة التي يمكنها أن تسود بها؟ ما هي عناصر تميزها عن غيرها من الأمم؟
ومن جهة أخرى, ما هي عوامل انهيار الأمم السابقة والتي بها استخلف الله أمما غيرها في تاريخ طويل من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟
هذا هو الموضوع الرئيس لسورة الأعراف … والتي تتحدث عن خلفاء الله في الأرض.
- يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(36)
يبين الله لبني آدم عامة سنته في خلقه أنه سيرسل رسلا من الناس, يقصون عليهم آياته وما أحل وما حرّم تفصيلا, فينقسم الناس إلى قسمين, من اتقى وأصلح, والذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها. وينال كل قسم نصيبه بما فعل وعمل.
ولننظر إلى ملخّص هذه التوصيات الأربعة لبني آدم, وما تشتمل عليه:
- أنزل الله ميثاقه وعهده لبني آدم, يواري به سوءاتهم, لو أنهم اتبعوه, فلن تظهر لهم سوءات لا في أخلاقهم, ولا في تصرفاتهم, ولا في مأكلهم ولا في ملبسهم, لا في أقوالهم ولا في أفعالهم. يستر الله باللباس الذي أنزله على بني آدم كل ما يحتمل من سوءاتهم بسبب ضعف أنفسهم وإغواء الشيطان ووسوسته لهم. وللمزيد من الحماية من كيد الشيطان وضعف النفوس, فقد أنزل الله على بني آدم ريشا, يتمثل فيما استنه الله عليهم ورسوله من نوافل وطاعات بعد ما افترضه عليهم من فروض. لو اتبعوه فإن الشُّقة تبعد بينهم وبين كيد الشيطان, ولا يكون له عليهم سلطان. وعلى بني آدم تجاه ذلك أن يلبسوا لباس التقوى من قلوبهم ويلتزموا كلمة التقوى, ذلك خير, ذلك من آيات الله لعلهم يذّكّرون في ممارساتهم اليومية للحياة ومظاهرها وأنشطتها المختلفة.
- بعد إنزال الله لباسا يواري سوءات بني آدم, وريشا, وتوصيته لهم بلباس التقوى, فإن بعض بني آدم يذّكّرون وبعضهم لا يذّكّرون, أو أن بني آدم قد يذّكّرون في وقت, ولا يذّكّرون في أوقات, فالشيطان يتربص بهم ويقعد لهم صراط الله المستقيم, ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم, إذن فلحمايتهم من هذا الاحتمال وهذه الوسوسة, فإن الله يحذّر بني آدم من فتنة الشيطان, كما أخرج أبويهم من الجنة, ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما, هو ومن يعمل معه من قبيله من شياطين الإنس والجن, وهم أولياء للذين لا يؤمنون. وإن حدث واستجاب بعض بني آدم لفتنة الشيطان ففعلوا فاحشة, ينسبونها إلى تقليدهم لآبائهم, أو لادعائهم أن الله أمرهم بها, فيعطيهم الله الوسيلة التي بها يعودون لفطرتهم, بأن يلتزموا القسط الذي أمر الله به, فيستقيمون عليه, ويقيموا وجوههم عند كل مسجد, والمسجد هو الذي يمثل الاجتماع في بيوت الله لطاعة الله وللاغتسال من أدران المعصية, وللتعرف على أحوال بعضهم, ويدعون الله مخلصين له الدين, فيعودون كما بدأهم الله على ميثاق الفطرة الذي أنزله عليهم لباسا يواري سوءاتهم, وهو القسط والاستقامة, والريش الذي يتمثل هنا في إقامة وجوههم عند كل مسجد, ثم لباس التقوى الذي يتمثل هنا في التوجه بالدعاء مخلصين له الدين.
- وللاستمرار على ما وصل إليه بنو آدم المتبعون لآيات الله, فإن عليهم أن يستمروا في الاتصال بكل مسجد, كل مكان يعبدون الله فيه ويلتقون فيه جماعة, وأن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد, فيلتزموا ما فرض الله عليهم من لباس وزينة على أجسامهم, وأن يستمتعوا بما أحل لهم من أكل وشرب, دون إسراف, وهو الحد الأقصى للملبس والمأكل والمشرب أي ما قبل الإسراف. ومن الجانب الآخر, فلا يحق لأحد أن يحرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق, والذين آمنوا هم أولى الناس بها في الحياة الدنيا, ولكن يشاركهم فيها كل الناس ولا تقتصر على الذين آمنوا , إلا إنها تكون لهم خالصة يوم القيامة, على تفصيل أنزله الله وبينه رسوله لقوم يعلمون, و قوم يعلمون هم الطائفة الذين نفروا من كل فرقة من المؤمنين ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يعلمون. وهنا يحدد الله حدوده ويبين مجمل ما حرّم على بني آدم جميعا, إنما حرّم الله الفواحش, ولكي يعطي الناس الوسيلة للتعرف أكثر على ما حرّم , وهو في شريعته, فقد أمر رسوله فقال له: قل إنما حرم ربّي … ويعدّد ماحرّم, وكلمة “قل” وكلمة “ربّي” تجعل بني آدم يلجأون إلى رسول الله الذي أمره الله أن يقول, فربطهم بسنته وسيرته, فيتعلمون منه تفاصيل ما حرّم ربّه, وقد مارس صلّى الله عليه وسلم تطبيق شريعة الله في المجتمع المسلم الأول, ليعطي الأسوة الحسنة في التطبيق حتى لا تقتصر الشريعة على نصوص فقط, وإنما يضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنته كلائحة تنفيذية لشريعة الله, ثم يضيف التطبيقات العملية في المجتمع بسيرته. ويحدد الله ما حرّم إجمالا, فقد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, والإثم والبغي بغير الحق, وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا, وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. وفي ذلك تفاصيل سوف تأتي فيما أنزل الله من الكتاب.
- ويوجّه سبحانه نداء رابعا لبني آدم يبين فيه سنته في ربط الأرض بالسماء, ووسيلته سبحانه لإبلاغ بني آدم بما يشاء من عقيدة وشريعة. فينقسم بنو آدم إلى أمم ولكل أمّة أجل, ويرسل الله لكل أمة رسولا, ليبلغهم رسالته وما أنزله إليهم في كل أمة وفي كل زمان ومكان, وقبل أن يرسل رسله إليهم يقول: يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(36) بيان لبني آدم بلا استثناء, باعتبارهم بني آدم, الذي كان منه الموقف الذي بينه الله في بدايات السورة, والذي أخرجه الشيطان وزوجَه من الجنة وتوعده بالوسوسة والإغواء, فمنهم من اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, ومنهم من كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها, فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
[i] قال المفسرون: إن بني آدم لهم ثلاثة ألبسة محتملة: لباس يواري سوآتهم, وريش, ولباس التقوى. فاللباس الأساسي أو الحد الأدنى, يستوي فيه كل بني آدم, الفقير والغني, المؤمن والكافر, وهو اللباس الذي يواري سوأة القبل والدُّبُر. والريش هو اللباس الفاخر والكسوة, ويتمتع بها الأغنياء من الناس على اختلاف مستوياتهم.
غير أن المسألة تحتاج إلى نظر.
فمن معاجم اللغة:
لبس: اللام والباء والسين أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على مخالَطَة ومداخَلة. من ذلك لَبِسْتُ الثَّوبَ ألْبَسُه، وهو الأصل، ومنه تتفرَّع الفروع[i]
ريش الراء والياء والشين أصلٌ واحدٌ يدلُّ على حُسْن الحال، وما يكتسب الإنسانُ من خَيْر. فالرّيش: الخير.
الرِّيشُ، بالكسر: للطيرِ، كالراشِ ج: أرْياشٌ ورِياشٌ، واللباسُ الفاخِرُ[i]
والريش: إنما هو المتاع والأموال عندهم، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال[i]
إن كلمة لباس في كتاب الله, لها معان عديدة, فالنساء لباس لنا ونحن لباس لهن, يستروننا ونسترهم من الحرام, فإن ابتغينا ما كتب الله لنا, ولم نقرب حدود الله, نكون من المتقين.
والقرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان, فكفرت بأنعم الله, فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وقد جعل الله لنا الليل لباسا, أي سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن.
[i] فحش : كلمة تدل على قبح في شيء وشناعة و من ذلك الفحش والفحشاء والفاحشة
[ii] ويقولون كل شيء جاوز قدره فهو فاحش ولا يكون ذلك إلا فيما يتكرَّه.