آثار فاطر السموات والأرض
● الرياح والسحاب يحيي الله بها الأرض
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(9)
وهذا مظهر من مظاهر فطرة الله وتجسيد لها يعمّق العقيدة ويرسّخها..
فالأرض الحيّة التي تدبّ فيها الحياة, وتُملأ بالخضرة والنباتات والماء والناس, كيف وصلت إلى هذه الحالة؟ إنّ الله أحياها بالماء.
ومن أين جاءها الماء؟ إن الله ساق لها سحابا محمّلا بالماء المكثّف.
وما الذي حمل هذا السحاب؟ إن الله أرسل الرياح فتثير سحابا.
ومن الذي اختار هذه الأرض الميتة بالذات دون غيرها؟ وهل كل أرض ميتة يساق لها سحاب ويسقط بها مطر؟ إن الله هو الذي يحدد البلد الميت ويحدد كمية الماء الذي ينزل فيه, ويحدد آثار الحياة فيها.
إذن فحين نري أرضا حيّة لابد أن نفكّر في الخطوات والأسباب التي أدت بها إلى هذه الحالة, كما أنه لابد أن نفكر فيما ستؤول إليه, ونفكر في أننا نحن أنفسنا سيحيينا الله بعد موتنا, كذلك النّشور. فيثبت الله للناس النشور بعد الموت, من خلال مظاهر الحياة والطبيعة من حولهم, لأن في إثبات البعث والنشور تأثير رئيس في الإيمان والالتزام بأمر الله والانتهاء عن نواهيه.
فإن آمن الناس بالبعث والنشور, وبالحساب والجزاء, وكان بعضهم يريد العزة في الدنيا, أو في الآخرة, فلله العزة جميعا. والطريق إليها بالكلم الطيب والعمل الصالح, (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)
ويبين الله كيف فطر وكيف جعل الملائكة رسلا للناس, فخلق الله بهم خلقا جديدا, ثم يزيد في الخلق ما يشاء:
● في خلق الناس وأعمارهم..
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(11)
هنا تنوّع خلق الله بصفته فاطر السماوات والأرض, حيث خلقنا من تراب, ثم من نطفة…
ثم خلق الله الأجيال كلها من رجل وامرأة وطفل, بصفته جاعل الملائكة رسلا بينه وبين خلقه, فأوحت الملائكة لكل رجل أن يختار امرأة معينة لتكون زوجه, وأوحى لكل امرأة أن تقبل هذا الزوج, أو تختاره, ووفّق الظروف والمواقيت التي يلتقيان فيها, فجعلهم الله أزواجا, فخلق الله منهما أطفالا, وجعل الإنسان سببا في ذلك الخلق.
إن هذا أثر من آثار فاطر السموات والأرض, وتشمل القوانين والنظم التي تحركت بها مخلوقات الله بعد خلقها, وخرجت للكون ليكون كما نراه أو لا نراه. ثم آثار جاعل الملائكة رسلا, فيجعل الإنسان سببا في الخلق, والله سبحانه خالق كل شيء.
ويستمر الإنسان على قيد الحياة فيعمًّر, بقضاء الله وأسبابه, أو ينقص من عمره بقضاء الله وأسبابه, وتسجل أسباب الحياة, وأسباب نقصها في كتاب, فكتاب الطب البشري يحدد أسباب الحياة, وكتاب الطب الشرعي يحدد أسباب نقص العمر.
والإنسان بصفة عامة يعمر طالما لم تأت أسباب لنقص عمره, من تلك الأسباب التي يحويها كتاب الطب الشرعي, فيظل مؤخرا إلى أجل مسمي حين يريد الله له ذلك, أو يعجًّل بأسباب يجعلها الله ويسجلها كتاب الطب الشرعي, فيموت دون استكمال العمر الطبيعي له, أي ينقص من عمره. إن ذلك على الله يسير,
فالحمد لله فاطر السموات والأرض.
● وفي خلق البحار واختلاف مائها ومنافعها
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(12)
وهذا مثال آخر لما يستحق الحمد لله, فاطر السموات والأرض, في شأن البحار, وما يستحق الحمد لله جاعل الملائكة رسلا, فيرسلهم إلى بعض الناس بإيحاءات يسير وراءها بعض الناس, فيطورون البحار, ويستفيدون منها…
فبنظرة للبحار, نرى قوانين تنظمها وتنظم ما فيها من عوالم. الماء عذب فرات أو ملح أجاج, وفي كلٍّ أسماك ذات لحم طريّ, وهذا من خلق الله فاطر السموات والأرض,
ثم يجعل الملائكة رسلا بينه وبين خلقه, يوحون إليهم كيف يعملون في البحر لاستخراج حلية يلبسونها, من كلٍّ من البحرين (وهذا يعني أن الماء العذب به أيضا حلية, فلنبحث عنها!!) وهذه كلها مشروعات ينبغي العمل فيها, صناعة أدوات الصيد, صناعة الفلك, وسائل حفظ الأسماك, ووسائل نقلها, مع حرفة الصيد نفسها, لأسماك خلقها الله ويربيها ويدلنا عليها, فليس علينا إلا أن نصيدها فتصير رزقا في صيدها, ورزقا في طعامها. والحمد لله فاطر السموات والأرض, جاعل الملائكة رسلا.
وقوانين الطفو التي تنطبق على الفلك ولا تنطبق على السمك والحلية, لنبتغي من فضل الله باحثين عن تلك الكنوز في البحرين, ولنشكره سبحانه. كل هذا مما أعد الله به كونه وجهزه قبل أن يخرج للوجود وأخرجه للوجود قبل أن يتفاعل فيما بينه, فالحمد لله فاطر السموات والأرض.
● وفي أمر الله الذي يتحكم في الليل والنهار والشمس والقمر, والذي لا يستطيعه إلا الله
أما الذين من دونه فإنهم ما يملكون من قطمير, وهي القشرة الرقيقة البيضاء بين التمرة والنواة, ما يملك أحد مقدارها, وليس لهم حتى قدرات على السمع أو الاستجابة, ولا لهم صلاحيات يوم القيامة حيث يتخلون عمن يدعونهم من دون الله:
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14)
مرة أخرى, قوانين تنظيم العلاقات بين الليل والنهار والشمس والقمر, إن الذي نظّم كل هذا هو فاطر السموات والأرض, فالحمد لله.
ونتيجة لكل هذه المظاهر والآثار لفاطر السموات والأرض, يدرك الإنسان أنه محتاج إلى الله سبحانه الذي نظم له الكون وعلاقاته قبل أن يوجده فيه.
حين أصل إلى كل هذه الحقائق, وأتفكر فيها, فإنني لابد أن أشعر كم أنا فقير إلى الله, محتاج أن أكون بين يدي رحمته, إن شاء فتح وإن شاء أمسك. أما هو سبحانه فإنه هو الغنيّ الحميد. لا إله إلا هو.
يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(16)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(17)وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(18)
والله جل شأنه ينبهنا لآياته التي أنشأها على أسس العقيدة في الله وكتابه ورسوله واليوم الآخر, وبأنه فاطر السموات والأرض. ومن يخشاه بالغيب وأقام الصلاة, فإنه يرى هذه الآيات ويؤمن بها ويكون خيرا وسلاما على نفسه وعلى الدنيا. أما الأعمى الذي يغمض عينيه عن آيات الله في كتابه, وفي كونه, ويصم أذنيه عن كل ما يسمع من الهدى والذكر, فإنه لا يستفيد من آيات الله, لا لنفسه, ولا للدنيا, وحتى إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم, لا يملك له سمعا أو بصرا أوهداية إلا بإذن الله, والأمر كله بيد الله سبحانه:
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ(20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ(21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ(23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ(24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(26)
● اختلاف الألوان:
وهذا نموذج آخر من آثار فاطر السموات والأرض, جاعل الملائكة رسلا:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27) وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)
إن الألوان المختلفة في الثمرات التي يخرجها الله من الأرض بعد أن ينزل عليها الماء من السماء, والألوان التي يجعلها الله للجبال التي جعلها أوتادا للأرض فلا تنزل من مطر ولا تخرج بالماء, ومن الناس والدواب والأنعام التي يخلقها الله بسنن أخرى مختلف ألوانه كذلك. من يرى ذلك ويتفكر فيه يدرك أن الذي نظمه هو فاطر السموات والأرض. فالحمد لله الذي يخشاه أكثر ما يخشاه العلماء الذين يطلعهم الله على أسراره, ويدركون أنه العزيز الغفور, فهو قادر على العلماء وعلى الجهلاء, وهو الغفور على جهلهم وكفرهم حتى يبين لهم ما يتقون.
والعلماء هنا يجعل الله لهم الملائكة رسلا, فيوحون إليهم إيحاءات من هذا الخلق مختلف الألوان, فيستخرجون منه المعادن والمواد المختلفة, ويحللون اختلاف الألوان في الناس والدواب والأنعام, كما يفعلون ذلك في الثمرات وفي الجبال, فيطور الله بهم الدنيا نحو زخرفها وزينتها, وذلك بكونه جاعل الملائكة رسلا.