والخليفة لابد أن يتحلى بأخذ العفو وبسعة الصدر أمام جهل الجاهلين: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ(199)
فإذا نزغه من الشيطان نزغ, فلابد أن يستعيذ بالله: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200)
فإن لم يتدارك نفسه, وإن مسه طائف من الشيطان فعلا, فإنه يكون في هذه الحالة أعمى فلايرى أبسط الأمور وأوضحها, ويعود إلى بصيرته مرة أخرى إن تذكّر: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201) مهما كان من أحوال إخوانهم: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ(202)وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا) واتباع ما يوحى إلينا من ربنا يغني عن الكثير من القصور , ويجعل القرآن هو بصائرنا من ربنا, نرى بها الأمور على صحتها كما يحب الله ويرضى, ويعالج قصور نظرنا وما تراه عيوننا وما تحكم به خبراتنا القاصرة, فالقرآن بصائر من ربنا وهدى ورحمة: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(203)
ولنستمد ما أنزل إلينا من ربنا, من قرآنه حين يُقرأ: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(204)
وذكر ربنا يعين على التذكّر كله, ويبعد عن الغفلة: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ(205)
هذا هو علاج الغفلة:
- وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ:
- تَضَرُّعًا
- وَخِيفَةً
- وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ
- بِالْغُدُوِّ
- وَالْآصَالِ
- وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ
والمثال الواضح في الاتباع, وفي عدم الاستكبار عن عبادة الله, موجود في الذين عند ربك, استسلام كامل لله رب العالمين: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ(206)
صدق الله العظيم, ربّ العالمين
الغفلة
إن الغفلة هي أول ما يجعل الفرد بني آدم ينقضون الميثاق. وعلاج ذلك يكون بالتذكُّر الدائم لله الذي قال في بداية السورة: قليلا ما تذكّرون. وكذلك تذكُّر آيات الله الكونية والقرآنية, ولا ينفع تذكر يوم القيامة حيث انتهت الفرص كلها:(..أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)
ثم بين الله علاج الغفلة حين نهى رسوله الكريم, ونهانا من بعده أن نكون من الغافلين: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ(205) فلو ذكر الإنسان ربه في نفسه تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال, فإنه لن يكون من الغافلين.
نقل ميراث الكتاب إلى أمة أخرى:
حتى إذا لم يهتدوا أبدا, بل كفروا واستكبروا, وتحايلوا, وفسدوا وأفسدوا, وتوارث هذا الفسق والفساد أجيالهم وأبناؤهم جيلا بعد جيل, لا يتناهون عن منكر فعلوه, ويتمسكون بما وجدوا عليه آباءهم, فإنهم بذلك لا يستحقون أن يكونوا حملة نور الله إلى الناس, ففاقد الشيء لا يعطيه. فتكون سنة الله بعد ذلك, أن ينقل مسئولية ميراث الكتاب, وميراث الأنبياء, إلى أمة أخرى, ويضع لها الدستور والنظام والسنن التي تكفل الاستمرارية, وإصلاح الأخطاء لهم وللناس, فيأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات, ويحملون مسئولية تبليغ دعوة الله ونشر نور الله, وتوجيه عباد الله إلى طريق الله المستقيم, وحكم الناس بها حتى يكون المجتمع نفسه, والأمة, والدولة, محكومة بشريعة الله, وسنن الله, فلا تظلم نفس شيئا, حتى ولو كان الناس في المجتمع كلهم كفارا, فإن الحكم والنظام العام لابد أن يكون هو تطبيق لشريعة الله, والعمل بما أنزل, فيكون المجتمع كنظام مجتمعا ونظاما من الله, مجتمعا مسلما لله, مؤمنا بالله واقفا على حدوده, ومن شاء من الناس فليؤمن ومن شاء فليكفر.
استمرار سنة الله في توريث الكتاب لمن يستحق, ونزعه ممن لا يفرط فيه:
تستمر سنة الله بعد ذلك في استبدال قوم بقوم في حمل الرسالة ومسئولية الكتاب, وكلهم يكونون من الأمة الوارثة للكتاب, وإنما تأخذ كل أمة منهم الفرصة للعمل في إتمام نور الله وإظهار دينه على الدين كله. وهكذا تمضي سنة الله في الأمة الوارثة.
ويمكن مراجعة تاريخ أمة الإسلام منذ عهد نبي الله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم, ثم عهد خلفائه الراشدين, ثم بني أميّة , وبني العباس, ثم آل عثمان, بكل تفاصيل حكامهم وأمرائهم, من نصر دين الله فنصره الله, ومن فرّط خذله الله فلا ناصر له.
ثم نحن الآن بعد انهيار الخلافة الإسلامية بانتهاء الامبراطورية العثمانية, نواجه نفس سنن الله, كل جزء من الأمة يمكنه أن يبادر بنصرة دين الله , ولم شمل الأمة الإسلامية, وتقوية ضعفها, وإخلاص النية لله بنصرة دينه وكتابه, وإلا فإن الله يذهبنا ويأتي بخلق جديد.
لماذا تصاب بلاد المسلمين بإصابات ربما لا تصيب غيرها من البلاد ومن الأمم؟ إصابات بحكام طاغين, وبظروف اقتصادية ضاغطة, وبأوبئة وبأمراض لم تكن فيمن كان قبلهم, وآفات زراعية, وبعدوّ يتربص بهم, وبحكومات ضعيفة أمام الأعداء, قوية على أبنائها؟ رغم أن هناك بلادا لا يلتزم أهلها بالحق ولا يدعون إليه, وفيهم إسراف وفساد وكفر وظلم, ولكن لا يصيبها ما أصاب بلاد المسلمين؟
إننا نسأل الله في كل حين النصر لإخواننا في فلسطين, وفي العراق, وفي الصومال وفي الشيشان وفي البوسنة وفي كشمير, ونشاهد ما يصيب المسلمين في بلاد المهجر, وحتى في البلاد المستقلة يعاني المسلمون من جور الأنظمة الحاكمة والإجراءات والحكومات. لماذا المسلمون بالذات؟
ولله المثل الأعلى…
لقد تصورت رجلا لديه ورثة لماله الوفير وثروته الواسعة, ولن يرثه أحد غيرهم من الناس. وهؤلاء الورثة منهم الكسول, ومنهم المسرف, ومنهم الغافل, ومنهم الظالم, ومنهم الضعيف, ومنهم الجاهل, ومنهم المجرم. فلو أنه تركهم على ماهم عليه, فإن الثروة ستضيع فلا ينتفعون بها, ولا ينفعون بها غيرهم, ولا يمكن أن يأخذ هذه الثروة فيعطيها أحدا غير ورثته. فما هو التصرف الأمثل لهذا الرجل؟
إنه لا يوجد أمامه إلا طريق واحد, أن يعمل في ورثته بالإصلاح, بتعليم الجاهل, وتهذيب المسرف , والأخذ على يد الظالم, وتنبيه الغافل, وتحفيز الكسول, وتقوية الضعيف, وتأديب المجرم, حتى يكون الورثة كلهم أهلا لاستقبال الميراث وصيانته والعمل في تنميته, والانتفاع به لأنفسهم وللناس.
ولله المثل الأعلى, وهو سبحانه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
إن الله ختم رسالاته بالإسلام, وختم كتبه بالقرآن, وختم أنبياءه بمحمد صلّى الله عليه وسلم, وختم الأمم المستخلفة على دعوة الحق, بأمة محمد. فأورثها الكتاب, فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. فأراد الله سبحانه أن يحملهم مسئولية ميراث الكتاب, فلن يحمل هذه المسئولية كافرون ولا مشركون ولا أهل الكتاب ولا الضالون, وإنما ستحمله هذه الأمة. فإن هي تكاسلت أو تراخت أو غفلت, أو ضعفت أو جهلت أو أجرمت, فإن الطريق الوحيد لتبليغ دعوة الله للناس أجمعين, أن تعمل سنن الله في هذه الأمة لإصلاحها, بالموعظة الحسنة من أئمة يجددون إيمان الأمة, أو بالتذكير بالابتلاءات والأخذ بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون, وبتسليط الأعداء عليهم, وبالابتلاءات بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكّرون,
وهكذا حتى تعود الأمة الوارثة إلى طريق ربها وكتابه ورسوله, فتحمل المسئولية وميراث الكتاب والدعوة, فتؤدي دورها كخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر من موقع القوة , وتؤمن بالله, وتدعو إلى الخير وتعمل به, فيؤدب الله بها الناس ويهديهم إلى طريقه المستقيم, وتصلح ما أفسد الكافرون والمجرمون والطاغون. فتكون كلمة الله هي العليا, ويتم الله نوره ولو كره الكافرون, ويظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
إذن فأمة الإسلام ستظل في ابتلاءات ونقص من الثمرات وفي مواجهات لأعدائها حتى ترجع إلى طريق الله, عندئذ فقط, ينصرها الله ويقويها من ضعف ويجبرها من وقصور, ويعزها من ذلة, ويصرّف لها آياته ونعمه الواسعة.
كيف نتناول التاريخ بالتسجيل وبالدراسة؟
إن هذا درس في كيفية كتابة تاريخ الأمم, خاصة الأمم التي استخلفها الله.
غالبا ما يدرس التاريخ بشكل أحداث دون تعليق, أو تواريخ وأسماء ومواقع, أو أحداث يومية, وهذا تسجيل للتاريخ على هيئة سجلّ وتدوين دون فهم ووعي, ودون اتجاه في قراءته. وهو يشبه ما دونه الجبرتي من يوميات أحداث عصره. وهذه مرحلة ضرورية ولكن غير كافية. ضرورية كسجلّ وتصوير أمين لما حدث, وغير كافية لأنه ليست فيها العبرة وقراءة الحكمة من الأحداث. إن الآيات السابقة تدل على أن الإصابات والأحداث وراءها حكمة وهدف.
إن الله أصاب فرعون وقومه بإصابات لعلهم يذّكّرون, ثم أهلكهم لما كذبوا بالآيات وكانوا عنها غافلين. فلا يجب أن يكتفى بدراسة الأسباب الظاهرة للإصابات والأحداث دون تعميق الدراسة لتستوعب أحوال الأمم بالنسبة لعلاقتها بالله, فالمصيب بالأحداث هو الله, ويجعل الإصابة بأسباب من طاعة أو معصية, ويجعل الحكمة منها أن يترك فرصة للأمم والأفراد أن يرجعوا إلى ربهم ويتضرعوا له, ويذكروا حقه عليهم.
أما أن نحاول مثلا أن نحلل أسباب الإصابة بالآفات الزراعية بحالة الجو أو نقص مياه الفيضان, دون التطرق لدراسة أحوال الناس وأخلاقياتهم ومدى طاعتهم لله , ومعصيتهم له, فإن هذا يعتبر من قبيل الغفلة فلا يتعظ الناس , ولا ينسبون الأسباب لمسببها, والأحداث لمحدثها والإصابات لمصيبها سبحانه وتعالى.
ويؤكد هذا المعنى التعليق السابق في السورة في قوله تعالى (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا, كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون) وفي قوله تعالى (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالسراء والضراء لعلهم يضّرّعون) وفي قوله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) وهناك أمثلة أخرى كثيرة.
ولننظر كيف فعل الله بالأمة التي سبقت أمة الإسلام في الخلافة على دعوة الله, بعد إهلاك الله لفرعون بمعصيته وقومه لله. وأمة بني إسرائيل, الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وفضلهم على العالمين, وآتاهم بينات من الأمر. فكيف كان موقفهم من طاعة الله والتزامهم بدين الله وكيف كانت تصرفاتهم؟