إن بداية قصة تطوير المجتمع الإنساني, أو تطوير الأمم, تبدأ من الدعوة لعبادة الله وحده, وإبلاغ الناس أن هناك يوما عظيما بعد الموت, هو يوم الحساب والجزاء. (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59)
فيتصدّى الملأ, وهم كبراء القوم وسادتهم, الذين اعتادوا أن يتحدثوا فيسمع لهم, وأن يوجهوا ويحكموا فيطاعون, ويُملون رؤيتهم على الناس, فيردون على صاحب الدعوة بالتهكم والسخرية… (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)(60)
فيرد الداعية إلى الله نافيا الضلالة عن نفسه ودعوته, ومؤكدا أنه رسول من رب العالمين.
قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(61) وأنه فقط يبلغ عن الله رسالاته إلى الناس, وينصح لهم: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(62).
والملأ يعجبون أن يكون رجل منهم داعية إلى الله, فالناصحون دائما يكونون محل نظر واهتمام من الناس, ويستجيب بعض الناس لهم ويلتفون من حولهم, وبالتالي يراهم الملأ أفضل منهم, وأعلم, فلا يتقبلون ذلك استكبارا, فهم دائما يظنون في أنفسهم أنهم النخبة والصفوة وأنهم أفضل من في الأمة, مع أن الذكر من ربهم, وفيه إنذار, وفيه دعوة للتقوى والرحمة. (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(63)
فإذا استمر الملأ في التكذيب والتهكم, فإن الله سبحانه ينجي الدعاة إليه ومن آمن معهم إن شاء, ويهلك الذين كذبوا بآياته, رغم وضوحها وبيانها , فهم قوم عمون. (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ(64)
عاد قوم هود..الملأ الذين كفروا, وما كانوا مؤمنين
ويأتي جيل جديد ومرحلة جديدة من الدعوة, تسلمت من نجا من المرحلة الأولى وهم يعلمون حقيقة الدنيا, والعذاب العظيم والحساب من بعدها, فيبدأ الداعية الجديد مع قومه من حيث انتهى سابقه, فيبني على ما سبق, ويدعو إلى التقوى مع التوحيد:
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(65)
وحيث زال الجهل, فإن الكفر هو الآفة التي سيواجهها الداعية الآن, فيواجهه الملأ الذين كفروا ويطلبون منه بينة على صدقه: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ(66)
وعليه أن ينفي عن نفسه السفاهة, ويبلغ قومه ويعرّفهم على الله وآلائه:(قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68)
وهو يبني على ما سبقه من رسالات, ويذكّر بآلاء الله وفضله على خلقه: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(69)
وسيجد الداعية إلى الله في الناس شركا بالله وعبادة لآلهة آخرى بالباطل, مع عبادة الله, وعقائد وعادات موروثة من الآباء, وكل هذه أمور تحتاج إلى إصلاح وتقويم, وهو يحتاج إلى بينة وتأكيد على صدقه: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ(71)
وفي النهاية فإن الله ينجي رسله والدعاة إليه والذين استجابوا لله ورسله, إن شاء سبحانه, وبالطريقة التي يحددها الله من النجاة: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ(72)) وينفي الله عنهم الإيمان في نهاية المطاف, وكان الكفر سببا في إهلاكهم
ثمود قوم صالح..الملأ الذين استكبروا من قومه, لا يحبون الناصحين
ثم يتسلم الداعية الجديد قوما نجاهم الله من الهلاك, بعد أن أزيل عنهم الجهل والعمى, الكفر والشرك, فما هي الآفات التي يمكن أن تصيبهم؟
إن منهم من يستكبر عن طاعة الله وعبادته. والداعية إلى الله يبدأ مع مثل هؤلاء بالبينة على صدقه حتى لا يواجه بالتكذيب من الملأ المكذبين أو المستكبرين: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73)
وهو أيضا يبني على سابقه, ويذكّر أبناء اليوم بأنهم خلفاء لآباء الأمس, وعليهم أن يتذكروا ما حدث لهم, وألا يبدأوا من حيث بدأ الآباء, وإنما من حيث انتهوا: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(74)
وهنا نلاحظ أن الكفر بدأ في الانحسار, فالملأ ليسوا من الكافرين, وأن بعضا منهم هم الذين استكبروا, ففي قصة نوح: قال الملأ من قومه, وفي قصة هود: قال الملأ الذين كفروا من قومه, وهنا مع صالح, قال الملأ الذين استكبروا من قومه. ويحتمل هذا أن جزءا من الملأ مؤمنون غير مستكبرين, وأن المشكلة تنحصر في الملأ الذين استكبروا, وهي مشكلة مازالت موجودة ولكن بحجج جديدة, فهم بعد البينة لا يكذبون الرسول في نفسه, ولكن يشككون ويتشككون في نسبة رسالته إلى الله.
وعلى الجانب الآخر, فإنّ دعوة الحق أصبح لها قاعدة من المؤمنين, يؤخذ رأيها, غير أنها لم يهتد إليها إلا شريحة من الذين استضعفوا:(لمن آمن منهم) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ(75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ(77)
ويعم الله بعذابه الذين استكبروا عن عبادته بعد البينات (فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(78)
ووسيلة علاج الاستكبار إنما تكمن في إبلاغ رسالة الله, وفي النصيحة, التي لا يحبها الذين استكبروا: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ(79)
والملاحظ هنا أن صالحا عليه السلام, هو الوحيد في هذه المجموعة الذي قال رسالة ربي, وقال الباقون: رسالات ربّي, ولا أعلم لماذا!
أظن أن لدي سببا في ذلك, من خلال مدارسة سورة يس وهي تتلو الأعراف في النزول بعد سورة الجن, فلقد قال الله لرسوله :(إنك لمن المرسلين) وقال قوم صالح (أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه) فيكون من جاء برسالة محددة مرسلا, ومن جاء برسالة عامة فهو رسول, مثل المبعوث الرسمي أو الخاص هو مرسل برسالة, والسفير الذي هو رسول للدولة لدى الدولة الأخرى, فهو يمثل كل ما يهم دولته, فلديه رسالات وليست رسالة واحدة, والله أعلم, وبيان سورة يس يأتي في حينها إن شاء الله.
قوم لوط..مسرفون مجرمون بالفواحش
أهلك الله قوما عمين, والذين كفروا وما كانوا مؤمنين, والذين استكبروا عن عبادة الله. ونجّى الذين يعلمون, والمؤمنين, وغير المستكبرين عن طاعة الله, فما هي الآفات التي يمكن أن تصيب الأمة بعد إزالة الجهل والكفر والاستكبار؟
إنها ارتكاب الفواحش, والضعف أمام إغراء الغريزة, والإسراف في استعمال نعمة الله في غير ما يرضي الله. تمثل هذا في قوم لوط: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ(80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(81)
وحيث أن الأمر واضح الآن, فالفطرة التي فطر الله الناس عليها, والخلفية الإيمانية التي زرعت في قلوب الناس على مر العصور, تجعلهم يشعرون بالخطأ, وإنما هم يضعفون عن الامتناع عنه, ولا يحتاج الداعية إلى تعليم الناس الحق من الباطل بقدر ما يحتاج إلى تذكيرهم وتنبيههم بمخالفتهم للفطرة, وإبراز بشاعة الجريمة التي تخالف الفطرة, وبالتالي فإن من يصر على المعصية والإجرام, لا يطيق أن يرى الدعاة إلى الله, فهم يذكرونه بميثاق الفطرة وكأنهم يضعونه أمام المرآة التي يرى فيها نفسه, فلا يصبر على وجود الدعاة, وإنما يدعو إلى إخراجهم من القرية نهائيا حتى يظل في غفلته وضعفه.
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82)
فينجّي الله أهل دعوته إن شاء, ويهلك الظالمين المجرمين: (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ(83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(84)
مدين قوم شعيب..مفسدون في المعاملات
فإذا اعتدل الناس في شهواتهم وتقووا على شيطانهم, فإن هناك آفة أخرى يمكن أن تصيبهم, وهي الفساد في المعاملات, والإفساد في الأرض بعد إصلاحها.
وكانت دعوة شعيب عليه السلام معالجة لهذه الآفة, وهو يبني على ما سبقه بأن يبدأ بالبينة التي تؤكد صدقه: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(86)
ومازال الكفر والشرك والعمى ينحسر, فالذين آمنوا أصبحوا طائفة, أمام طائفة لم يؤمنوا: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(87)
هنا ينقسم الملأ من قومه إلى الذين كفروا, والذين استكبروا, الذين يعلمون أنهم مخطئون ولكنهم يضعفون عن إصلاح أنفسهم, وعن مواجهة من يذكرهم بالحق, فيهددون بإخراجهم من قريتهم أو ليعودن في ملّتهم: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88)
ويثبت الدعاة على الحق, ويتوكلون على الله, ويسألونه العون والفتح بينهم وبين قومهم بالحق: (قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(89)
أما الذين كفروا, فيعملون بالصد عن سبيل الله, ولا منطق لهم: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(90)
وهنا يصيب الله بعذابه من أغلق قلبه وعقله عن دعوة الحق, فهو يحارب الدعوة بالقوة أو بالدعوة المضادة: (فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ(92)
والعلاج أيضا يكمن في تبليغ رسالات الله والنصيحة لمن يستمع إليها وينتفع بها ولا يكفر ويحجب نفسه عن الله ويحجب نعمه ويجحدها.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ(93)
تعليقات على القصص الخمسة
إلى هنا تنتهي مرحلة من مراحلة دعوة الله للناس, تتلخص دعوة الأنبياء في النصيحة والتذكير, ثم حين تنغلق العقول والقلوب, بعد استعراض كل الأسباب والمنطق والعلم والشواهد, فإن عقاب الله ينزل, فيصيب الذين كفروا, والذين استكبروا, والمجرمين والمسرفين والمفسدين.
يعقب الله على هذه المرحلة بالآيات التسعة التالية:
- وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94)
- ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95)
من سنن الله سبحانه أنه يعرّف نفسه لعباده, بأن يرسل نبيا لقرية, وحتى يتأهل أهلها لسماع الحق والشعور بالحاجة إليه, فإن الله يأخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يضّرعون. وهذه سنة ثابتة يدل على ثبوتها قول الله تعالى: وما أرسلنا في قرية من نبيّ* وهي صيغة تدل على الحصر, أي أنه لم يرسل في قرية من نبي إلا أخذ الله أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرعون.
وتمضي مرحلة من الزمان, ثم يأتي الأبناء حين يكون الله سبحانه قد بدّل مكان السيئة الحسنة, حتى يعتقد الأبناء أن ما حدث من قبل في آبائهم من البأساء والضراء, إنما هو لا يعنيهم في شيء, ما دام الأبناء في عفو وصحة وليس بهم بأساء ولا ضراء. وهم بذلك لا يستفيدون من التاريخ ولا يعتبرون بما حدث لآبائهم, ولا للحكمة من أخذ الله لهم بالبأساء والضراء. وبالتالي فإن الله سبحانه يأخذ هؤلاء الأبناء الغافلين بغتة وهم لا يشعرون.
إذن فعلى الأمم أن تعي تاريخها والأحداث الجسام التي حدثت فيه, وأسبابها من وجهة العلاقة مع الله, فتلك الأحداث العامة التي تصيب الأمة جميعها, إنما هي من الله, والهدف منها والحكمة هي أن يتضرّع الناس وتتضرع الأمة, أي تلجأ إلى الله وتعلم أنه لا ملجأ منه إلا إليه, فتعيد حساباتها وتتجه إلى ربها, وتراجع تصرفاتها, فإن هي فعلت بدلها الله مكان السيئة الحسنة. فإذا خلف الله من بعدهم خلف, فإنهم لا بد أن يتعظوا بما حدث حتى لا تتكرر سنة الله فيهم بتذكيرهم به, بأن يأخذهم بالبأساء والضراء, فكفى ما حدث للآباء. فإن لم يتعظوا ويتعلموا, فإن سنة الله تنالهم مرة أخرى ولكن بغتة وهم لا يشعرون.
- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)
مايفعل الله سبحانه بعذاب الناس؟ إن العذاب والبأساء والضراء, إنما هي لفائدة الناس ومصلحتهم. فالله يبتلي بالمصائب ليطهر من الذنوب والمعايب, وليذكّر عباده الذين أرسل إليهم رسله, وأنزل معهم الكتاب وكلفهم بتبيينه للناس وأخذه بقوة, ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون. وكذلك تمضي سنة الله في الغافلين عن حكمته.
إذن فرزق الله وبركاته بالنسبة لمن كلفهم الله بالدعوة, مرهون بإيمانهم وتقواهم…
وهذه معاملة ربما لا تنطبق على من لم تبلغهم الدعوة بعد من الأمم, ولم يبعث فيهم رسول ولم ينزل لهم كتاب, فهؤلاء ضالون, يحتاجون لمن يبلغهم ويرشدهم ويهديهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. ولكنها تنطبق كسنة من سنن الله, على القوم الذين أرسل الله فيهم أنبياء ورسلا, الذين استخلفهم الله على دينه وكتابه وشريعته حتى يتأدبوا ويعودوا إلى ربهم, فينصلح حالهم وينصلح بهم حال الناس, فيبلّغون رسالات الله, ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
إن البأساء والضراء في أمة الإسلام والإيمان, سنة من سنن الله, وتقابلها سنة أخرى من سننه سبحانه أنه يربط رزقهم وفتحه عليهم بركات من السماء والأرض, بإيمانهم وتقواهم. وأما إن كذبوا ولم يأخذوا الحكمة مأخذ الجد, فإن الله يأخذهم بما كانوا يكسبون.
- أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97)
- أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98)
- أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)
لابد من الانتباه في كل لحظة وحين, إلى أن الله قادر سبحانه على أن يأتي بأسه بياتا أو ضحى, أثناء النوم أو أثناء اللعب, فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. - أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(100)
وهذه رسالة للذين يرثون الأرض من بعد أهلها, للجيل الجديد, إن ذنوبهم تكون سببا في إصابتهم بالبأساء والضراء, فعليهم أن ينتبهوا لذلك فيقلعوا عن الذنوب التي يصرون عليها حتى يرفع الله عنهم ما بهم من غمّة, وحتى لا يصابوا بالذنوب , وحتى لا تنغلق قلوبهم فهم لا يسمعون. - تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ(101)
وأمثلة التاريخ واضحة فيما قصّ الله من أنباء القرى, فما استفادوا وما اتعظوا بما حدث لمن كان قبلهم , وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل, كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين - وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ(102)
كان هذا هو حال الأمم السابقة وواقع أمرهم. وهو الواقع المطلوب تغييره في أمتنا التي أورثها الله الأرض والخلافة على دعوته بالحق, أن يكونوا حافظين لعهد الله, وألا يكونوا فاسقين عن منهج الله خارجين عن شريعته وسنته.
ولقد ترك الله لنا الخيار في أن نكون ملتزمين بعهده أو ناكثين له, وأن نكون مؤمنين أو نكون فاسقين, وهذا الخيار خيار خطير, يؤثر على رزق الأمة وفتح الله بركاته عليها من السماء والأرض, ومن ثم فهو يؤثر على مسار دعوة الحق والهداية للناس أجمعين, فرسالة الله للناس, مودعة أمانة في أعناق المسلمين, فلن يرسل الله رسلا بعد رسوله الخاتم صلّى الله عليه وسلم, ولن ينزّل كتابا بعد كتابه المجيد, ولن يختار أمة غير أمة الإسلام لحمل هذه الرسالة والدعوة للناس وهدايتهم بها, وبالتالي فإن اهتداء أمة الإسلام إلى ربها ورسولها وكتابها إنما هو أخطر أمر في هذه الدنيا, ولن تستقر أحوال هذه الأمة إلا باتباع كتاب الله وسنة رسوله.
والله يمنع فتح بركاته من السماء والأرض على هذه الأمة طالما لم تؤمن وتتق. فإن هي فعلت, فتح الله عليها, فأغناها وقواها وأيدها بنصره ورزقها, حتى تكون قوتها وغناها ونصرتها, نصرة لدين الله ونشرا لدعوة الله وإتماما لنور الله الذي يأبى سبحانه إلا أن يتمّه ولو كره الكافرون.