وعودة إلى طلب سليمان أن يأتيه أحد ملئه بعرش ملكة سبأ..
… إن سليمان لم يكلف أحدا بعينه بمهمة الإتيان بعرش الملكة , ولكنه تركها للمبادأة الشخصية , ودعا إلى التطوع عن اختيار لتنفيذ المهمة . وهذا أسلوب في الإدارة أعتبره أفضل أسلوب , أن تترك المرءوسين للمبادأة الشخصية , أن تعلن عن طلبك , وتستنفر فيهم التنفيذ بالتطوع دون أن تكلفهم :
أولا : يشعر المرءوسون بأنهم مخيرون وليسوا مقهورين على التكليف .
ثانيا : حين يتطوع واحد منهم , فإنه يرى في نفسه الكفاءة للتنفيذ .
ثالثا : هو أيضا يلزم نفسه , فيكون أكثر التزاما وأحرص على التنفيذ , منه لو أمرته وهو لا يريد , فيظل يسوق الحجج لعدم التنفيذ ,
رابعا : تدع الفرصة للحصول على أكثر من عرض بالتنفيذ , وربما تختار شخصا آخر لم يدر ببالك أنه يستطيع التنفيذ .
خامسا : يتسابق المرءوسون باختيارهم في تحقيق الطلب بأفضل الوسائل , ربما أفضل مما كنت تتصور أو تتوقع .
سادسا : تولّد شعورا إيجابيا بالمشاركة لدى الجميع حتى الذين لم يتقدموا هذه المرة , فإنهم في المرات القادمة سيحرصون على المشاركة وإلا سينكشف للجميع قصورهم وتأخرهم وكسلهم .
ولكن على الجانب الآخر , ربما يجدي هذا مع ( الملأ ) أكثر من جدواه مع ( الناس ) أو ( القوم ) أو ( العامة ) الذين ربما يصلح معهم الأمر المباشر والتكليف المحدد لكي يرتقوا بالممارسة إلى المستوى الذي يؤهلهم إلى أن ينضموا ( للملأ ) وهم علية القوم وذوو الكفاءة , والقدرات العالية , وأصحاب الرأي والمشورة .
.. و نتج عن هذا الأسلوب أن حصل سليمان على عرضين للتنفيذ :
- أحدهما من عفريت من الجن , وهو عرض لم ينفذ ,
- والآخر من واحد من الملأ ,عنده علم من الكتاب , وهوالذى قام بالتنفيذ .
وقص الله سبحانه علينا قصة العرضين , والله لا يذكر شيئا إلا لحكمة وعبرة لأولى الألباب ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب , ما كان حديثا يفتري …) ( يوسف 111) .
لماذا ذكر لنا الله هذه التفاصيل , عن عرض العفريت ؟ رغم أنه لم يكن العرض الأفضل , وهو لم ينفذه ؟ .
.. لو أنك طلبت من مرءوسيك أن يأتيك أحدهم بكأس من الماء , فقال واحد : أنا آتيك به خلال 4 ساعات , وقال آخر : أنا آتيك به فى لحظة , وأتى به فعلا قبل أن ترد عليه بالقبول. فلماذا تذكر لنا قصة من قال آتيك به خلال 4 ساعات ؟
الطبيعى أن تذكر أن الكأس جىء به , أو أن لديك مرءوس سريع ونشيط , أو ما شابه ذلك . ولا داعى لأن تذكر كل العروض , إلا أن يكون فى ذلك مصلحة هامة لمن تقص عليه هذه القصة , علينا أن نبحث عنها.
ولنحلل العرضين بحثا عن العبرة :
العرض الأول :
وهو مقدم من عفريت من الجن يمثل قدرات بدنية طبيعية هى قوَّته, وقدرات خلقية هى أمانته : (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوى أمين )
والعفريت من كل شئ هو المبالغ , من (عفر ) وهى كلمة تدل على الشدة والقوة .
وإضافته إلى الجن تحدد نوعه , أى أنه يمكن أن يكون هناك عفريت من الإنس, وهو الشديد القوى منهم.
حقق العفريت من الجن الاشتراطات الأساسية في الناقل أو شركات النقل والشحن :
- الشرط الأول : الالتزام بالمهمة فى ( أيكم يأتينى بعرشها) بأن ردّ ( أنا آتيك به)
- الشرط الثاني : السرعة المناسبة ( قبل أن تقوم من مقامك ) , والمفترض أنها أقصى سرعة له.
- الشرط الثالث : قوة وسيلة النقل حتى لا تخفق أو تتعطل أو تنهار أثناء النقل ( وإني عليه لقوى .. ) .
- الشرط الرابع : أمانة الناقل , فلا يفرط ولا يسرق (أمين).
وبالتالى تنقل البضاعة , فى الزمن المطلوب , بوسيلة قوية تتحمل المهمة , والسائق أمين لا يضيع الأمانة.
وكان سليمان يجلس في مقامه بين الصبح إلى ما قبل الزوال , لرعاية مصالح الناس , أي مثلا بين الثامنة صباحا , والثانية عشرة ظهرا , أى حوالي 4 ساعات .
والمسافة بين مقام سليمان فى القدس, وبين سبأ جنوب غرب الجزيرة العربية , تبلغ حوالي 2100 كيلو مترا طبقا لدقة المواقع والخرائط والقياس.
والعفريت يتحدث عن قدراته البدنية (لقوى), وقدراته الأخلاقية ( أمين) . إذن فهو سيذهب بنفسه شخصيا من الشام إلى اليمن ويعود بالعرش , ولن يكلف أحدا بهذا العمل , كما أنه لن يستعمل وسائل غير قوته وأمانته , أى أنه سيؤدى المهمة بشخصه وإمكانياته الخاصة .
وبالتالى فإن العفريت سيقطع المسافة ذهابا وإيابا , أى 2100X 2 = 4200 كيلو مترا في زمن أقصاه 4 ساعات , أو أسرع قليلا من ذلك حيث قال (قبل أن تقوم من مقامك ) بحيث لو وافق سليمان على عرضه , فإن العفريت عليه أن ينفذ فورا , ويأتى قبل 4 ساعات .
.. أي أن سرعته تزيد قليلا عن 4200 ÷ 4 = 1050 كيلو مترا في الساعة.
وطبقا لدائرة المعارف البريطانية , فإن سرعة الصوت – حسب آخر أبحاث عام 1988 هي 331.29 مترا في الثانية , أي حوالي 1192.64 كيلو مترا في الساعة , وذلك عند درجة حرارة صفر مئوية عند سطح البحر
إن المتطوع النشيط القوى الكفء من الجن , لاتزيد سرعته عن سرعة الصوت !!
.. أى أن الطائرات الحديثة فى عالم اليوم تفوقه فى السرعة مرات ..!!
وهذا يحجِّم تصورنا عن الجن بعد أن كان شيئا خياليا يسرح كل منا فى تقدير إمكانياته وقدراته , وينسب إليه المعجزات .
وهل هي مصادفة أن تقترب الأرقام هكذا بين السرعة التي عرض العفريت أن ينقل العرش بها , وبين سرعة الصوت ؟ .
ولنتصور أن هذه الآيات إشارة إلى سرعة الصوت و إشارة إلى قدرة من قدرات العفريت من الجن , يمكننا حسابها باستخدام علم الحساب , وعلوم الفيزياء ,
.. ولنسترسل في ذلك : فنفترض أن العفريت الذى أعلن استعداده بأن يذهب بنفسه ليأتي سليمان بعرش ملكة سبأ , على مسافة – إلى أن ندقق في قياسها – حوالي 2100 كيلو مترا.
إذن , فإن العفريت سيقطع 2100 × 2 = 4200 كيلوا مترا .
وهو سيقطع هذه المسافة في فترة تقل عن 4 ساعات ( قبل أن تقوم من مقامك ) ونفرض أنها 3.5 ساعة ,
فكم تكون سرعة العفريت؟
إذن سرعة العفريت = 4200 ÷ 3.5 = 1200 كيلو مترا في الساعة .
ونظرا لشدة قربها من سرعة الصوت , فإننا نعيد بناء الفرض كالتالي :
عفريت من الجن يسير بسرعة الصوت 1192.64 كيلو مترا في الساعة , عند درجة حرارة صفر مئوية , عند سطح البحر :
كم من الزمن يحتاجه ليقطع مسافة 2100 كيلو مترا ذهابا وإيابا ؟
الزمن = 2100 × 2 ÷ 1192.64 = 3.522 ساعة = 3 ساعات + 31 دقيقة + 17.75 ثانية
وبالتالي فإنه حين بدأ في تقديم عرضه إلى سليمان في أول المجلس فى حوالى الثامنة من صباح ذلك اليوم , فلو وافق سليمان على عرضه , فإنه سيصل حوالي الحادية عشرة والنصف قبل الزوال , أى قبل أن يقوم سليمان من مقامه.
وتكون الآية بذلك قد أشارت إلى سرعة الصوت , والى السرعة القصوى للعفريت القوى الأمين الشهم .
وحيث أن سرعة الصوت تقاس بأساليب علمية , فإنها تخضع للتدقيق كلما زادت دقة أجهزة وأساليب القياس .
ولكننا نطلب من علماء الفيزياء , مجرد بحث هذا الاحتمال , هل يمكن الاستفادة من هذه الإشارة , دون تحميل للآيات أكثر مما تحتمل ؟
كما أن هذه إشارة أيضا لخاصية من خصائص العفاريت من الجن, فهل يمكن أيضا الاستفادة منها؟
وهل ستكون هذه هى الإشارة الوحيدة فى كتاب الله عن خصائص الجن؟
المتوقع أن كل الخصائص الهامة للجن موجودة فى كتاب الله , حيث أن وجود خاصية , وكشفها بهذا الأسلوب يدل على وجود غيرها.
بل ربما لا أبالغ لو قلت بناء على ذلك: إن كل خاصية لكل شىء موجودة فى هذا الكتاب.
… بل نقول: إن علم كل شىء على الإطلاق , موجود بين كلمات الله التى بين أيدينا فى كتابه إلا ما استأثر الله به فى علم الغيب عنده “إن الله عنده علم الساعة , وينزل الغيث , ويعلم ما فى الأرحام , وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا , وما تدرى نفس بأى أرض تموت , إن الله عليم خبير”.
ويظل القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , تنزيل من حكيم حميد. ولكن رؤانا هي التي تختلف طبقا لتطور ثقافتنا وعلومنا.