لابد أنَّ للسجود معنى آخر .. يضم السجود الفعلى بالجبهة واليدين والقدمين , وبين السجود العقلى بإسجاد العقل لله , وبين حتمية السجود كلما ذكرت أمامنا قدرة من قدرات الله , كما دعا الهدهد , وسنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم.
إن أصل كلمة ( سجد ) يدل على المعانى الآتية :
- أسجد الرجل : إذا أدام النظر .
- تطامن : وهو السكينة والاطمئنان .
- ذل : وكل ماذل فقد سجد .
- خضع : بمعنى أطاع وانقاد :
- أطاع : فيما يعلم ويدرك .
- انقاد : فيما لايعلم ولا يدرك .
كيف تتخذ قرارك بالسجود ؟ وأنت الذى خلقك الله فسوّاك فعدلك !!
أنّى لك و أنت المعتز بهامتك المرفوعة , ورأسك التى تناطح السحاب , وجبهتك التى تواجه بها الدنيا , أنّى لك أن تضع كل هذا على الأرض !! ؟
إن وضع الجسم والأعضاء حال السجود هو أضعف وضع لها على الإطلاق
.. فالساجد يضع جبهته على الأرض .
.. والساجد تكون عيناه إلى الأرض فلايرى ماحوله من متغيرات حتى يتمكن من الانفعال تجاهها .
.. وهو يلصق يديه بالأرض , فلا يتمكن من استعمالهما فى الدفاع عن نفسه أمام أى أخطار .
.. كما أنه يضع ركبتيه وقدميه على الأرض , فلا تسعفانه فى حركة أو هروب , أو إقدام .
إنه وضع لايرضاه الإنسان لنفسه تحت أى ضغط , ولا يفعله – إن فعل – إلا مكرها أشد الإكراه …
.. إلاّ أن يكون ساجدا لله رب العالمين .
فكيف يتخذ إنسان قرارا بالسجود ؟
ولنتناولها معنى معنى , ونتسلسل معها خطوة خطوة …
إن الإنسان يديم النظر أولا فى ملكوت الله , و يتفكّر فى خلقه ونعمه , ويتدبّر فى أمره , فيتعرف على قدراته , وصفاته , وإمكانياته , فيرضى به ربّا.
ثم هو يتعرّف على قدرات الله فى العطاء , وصفات الجمال فيه , وبأنه له كل شىء سبحانه , فيطمئن له.
ثم يتعرف على صفات الجلال و قدرات الله فى القهر والمنع , فيرى أنّه لاملجأ ولا منجى منه إلا إليه, ويؤمن به إلها واحدا, فيخضع له .
ثم حين يخضع , يطيع الله فيما يأمر وفيما ينهى , من أمور يقتنع بها عقله , كأن لا يسأم أن يكتب الديْن صغيرا أو كبيرا إلى إجله , لأن (ذلكم أقسط عند الله , وأقوم للشهادة , وأدنى ألا ترتابوا) ( البقرة 282).
ويجد أمورا لا يستطيع عقله إدراكها , فينقاد إليه بفهم وبغير فهم , خاصة فى الأمور التى لا يجد لها مبررا , كأن يصلّى الصبح ركعتين , والظهر أربعا , والمغرب ثلاثا.
وأن يقبِّل الحجر الأسود , ويرجم الجمرات بنظام مخصوص , ليس للعقل تفسير له , إلا أن ينقاد لله , ويتبع رسله.
ثم يجد نفسه وقد أدام النظر , واطمأن , وخضع , وأطاع , وانقاد , وأنه لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا لله , فيذلّ لله .
وبمذلتّه أمام الله , يعزّ أمام كل شىء سواه . سواء كان إنسانا , أو شيطانا , أو ذنبا.
هنا يكون الإنسان المؤمن قد سجد لله بعقله , أى اتخذ قراره بالسجود , وهو مازال واقفا على قدميه.
ومتخذ هذا القرار جزء فى مخّ الإنسان , هو ناصيته , التى هى خلف جبهته مباشرةً , فهى المسئولة عن قرار الفعل من صواب وخطأ , ومن صدق وكذب , وذلك طبقا لآخر ما توصّل إليه علماء المخّ والأعصاب فى العالم , حتى أنهم لاحظوا أن من يصاب فى ناصيته إصابات غائرة , تتغير تصرفاته عكسيا , بين الصدق والكذب , والصواب والخطأ .
… ويصدق ذلك ما سبق به القرآن فى قول الله تعالى منذرا ذلك الذى ينهى عبدا إذا صلّى ” كلاّ لئن لم ينته لنسفعا بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة “(العلق 15-16) أى أن الله يتوعد ذلك الكافر , بأن يقذف بناصيته فى النار , وهى صاحبة القرار الخاطئ بالنهى عن ذكر الله وعن الصلاة.
هذه الناصية هى السلطة التشريعية فيك .
حين يتخذ الإنسان قراره بالسجود , بواسطة مركز اتخاذ القرار فى ناصيته , أو السلطة التشريعية , فإنّ أول ما ينفّّذ هذا القرار فيه هو ناصيته نفسها فيسجدها سجودا حسّيا بوضعها على الأرض.
ثم من الذى سينفّذ القرار المتّخذ من الناصية؟ من هى السلطة التنفيذية فى الجسم؟
إن ما ينفِّذ القرار بالفعل هى أعضاء الإنسان الآتية :
● اليدان : بأن تبطشا وتأخذا وتلمسا .
● الركبتان والقدمان : بأن تسيرا إلى حلال أو إلى حرام , فى طاعة أو فى معصية , إلى حيث يرضى الله , أو إلى حيث لا يرضى.
● العينان : تنظران إلى ما أحلَّ الله أو إلى ما حرَّم . تنامان عن ذكر الله , أو تبيتان تحرسان فى سبيل الله . تجحدان نعمة الله , أو تبكيان من خشية الله.
● اللسان : ينطق إما شاكرا وإما كفورا . إما ذاكرا وإما ناكرا . إما بالحق أو بالباطل . إما قولا سديدا أو منكرا من القول وزورا.
يحدث كل هذا تنفيذا لأمر الناصية .
فهل تسجد هذه الأعضاء هى الأخرى ؟
إنك تسجد اليدين لله , والركبتين , والقدمين , بأن تضعها جميعا على الأرض.ثم توجّه عينيك إلى موضع السجود , فهما ساجدتان .
بقى اللسان ! كيف يسجد اللسان ؟
إن اللسان يقول فى السجود : ” سبحان ربّى الأعلى “.
إنّ “سبحان” تقال عند إدامة النظر فى قدرات الله : سبحان الذى سخّر لنا هذا – سبحان الذى أسرى بعبده – فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء ….
إذن أنت تديم النظر فى قدرات الله , فتقول بلسانك” سبحان ” وهذا جزء من معنى السجود.
ثم تقول بلسانك “ربّى” : والربّ هو الخالق , المالك , القائم على الشىء , الملازم له , والمصلح له.
فحين تذكر هذه المعانى , فأنت تذل لخالقك وحده لا شريك له , ولاتخضع إلا له , فهو مالكك , وتطمئن له حيث أنه قائم عليك وملازم لك .
ثم أخيرا , أنت تطيعه سبحانه , وتنقاد له , حيث أنه مصلح لك.
ثم يكمل لسانك ذكر اسم ربك ” الأعلى ” فتقول كل التسبيح
” سبحان ربِّى الأعلى”
هكذا يسجد لسانك أيضا.
بذلك تكون قد سجدت السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية فى جسمك كلها , لله تبارك وتعالى, سجدت كل مراكز القرار فيك , الناصية المتخذة القرار ,والأعضاء المنفّذة وهى اليدان والرجلان والقدمان والعينان , واللسان.
… سجدت بكل معانى السجود العقلية , والنظرية, والحسية , والقولية , والفعلية .
وفى الحقيقة , فأنت ساجد لله منذ شهدت أنه لا إله إلا الله , وكلما تذكر أو يذكرك أحد بقدرة من قدرات الله , وطالما أنك تطيع الله فى سرّك وعلانيتك
…. فأنت فى حالة سجود دائم لله ربّ العالمين .
وكما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد “
فالسجود لله فى جوهره : إدامة النظر فى خلقه وآثار نعمته فى كونه , والاطمئنان لله ولمنهجه , والسكون اليه , والذل له وحده دون سواه – وفيه العزة كلها – وطاعة الله , والانقياد له , والخضوع الكامل لأوامره سبحانه .
والسجود فى مظهره الشرعىّ : هو وضع الجبهة واليدين والقدمين على الأرض , وتوجيه العينين إلى موضع السجود , وتسبيح الله باللسان
سبحان ربِّى الأعلى .. سبحان ربِّى الأعلى .. سبحان ربِّى الأعلى .
وهكذا فإن دعوة الهدهد الناس للسجود لله بموجب قدراته سبحانه , أوجبت السجود الدائم لله كلما رأيت أو ذكرت قدرة من قدراته جل شأنه , وهى مسألة مستمرة لكل ذى عقل ولب ونظر وإيمان , طوال الوقت , فيظل ساجدا أبدا بمعنى السجود الشامل , وهو يسجد على الأرض آناء الليل وأطراف النهار في الصلاة , فى الأوقات التى شرعها الله للسجود , وسنّها رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالتالى فإن نصيحة الهدهد لقوم سبأ , أن يسجدوا لله , أمام قدرة من قدراته , هى نصيحة فى مكانها ووقتها تماما , حيث يحفظهم الله سبحانه من الذلّ إلاّ له , ومن الخضوع إلا إليه , ومن القلق وعدم الاطمئنان ” ألا بذكر الله تطمئن القلوب “( الرعد 28) . فيحفظ عليهم ملكهم , من بطش كل جبار , ومن الذل للذنوب , وللشيطان , وللنفس الأمارة بالسوء.
وكذلك هى نصيحة لكل ملك , ولكل حاكم , ولكل دولة , ولكل صاحب عمل , ولكل صاحب مال , أو جاه , أو سلطان , لو سجد كل من هؤلاء لله , بكل معانى السجود , فإن الله يحفظ عليهم ملكهم , حيث أنه سبحانه هو
” الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم”.
قالها الهدهد وهو يذكّر الخلق , وخاصّة من كان منهم له عرش عظيم , أو يظن أنه عظيم , يذكّر الكافّة بأن الله الذى لا إله إلا هو , عرشه هو العرش العظيم , وهو رب كل عرش عظيم .
والرب كما ذكرنا هو:
الخالق : الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل .
المالك : قل اللهم مالك الملك , تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء , بيدك الخير , إنك على كل شىء قدير .
القائم على الشىء : الله لا إله إلا هو الحى القيوم .
وهو القاهر فوق عباده.
أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت
الملازم له : وهو معكم أينما كنتم .
وهو الله فى السموات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم.
المصلح له : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم , ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما . ( الأحزاب 70+71)
والذين قتلوا فى سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم . ويدخلهم الجنة عرفها لهم .(محمد4-6)
.. فيا صاحب العرش والملك فى الدنيا , لو أنك عبدت الله وحده لا شريك له , فإنه يؤتيك الملك , ولا ينزعه منك , ويعزك , ولا يذلّك , ويأتيك بالخير فى ملكك. ثم هو لا يتركك تواجه الدنيا وحدك , بل هو قائم عليك , لا تأخذه سنة ولا نوم . ملازم لك أينما كنت , ثم هو سبحانه إن اتقيته وقلت قولا سديدا , فإنه يصلح لك أعمالك , ويغفر لك ما تخطئ فيه , وتفوز فوزا عظيما , وهو جلّ شأنه يهديك ويصلح بالك , وأخيرا , هو يدخلك الجنة عرّفها لك.
وهذا ما نصح به الهدهد قوم سبأ وملكتهم.
ومن يريد عرشا عظيما في الدنيا , ويريد أن يحفظ الله له عرشه فليسجد لله بكل معانى السجود الشاملة .
فملكة سبأ تملك قومها , وأوتيت من كل شئ , ولها عرش عظيم وهذا العرش جعله الله لها , ولكن العرش له ربه , مالكه , ومصلحه والقائم عليه وخالقه , فان هى سجدت لله , أى انقادت له وحده , وأطاعته وحده , فانها تخضع له وحده لاشريك له , فلا يخضعها لأحد , ولا لهواها , ولايذلها لأحد , ولا لذنب , ويظل العرش لها .
فإن لم تسجد , وإن لم يسجد أصحاب العروش العظيمة لله سبحانه فإنها وإنهم سيذلون ويخضعون لغير الله , من الناس أو من الأمور , من شهوات النفس وهواها , ومكايد الشيطان . فنجدهم يظلمون الناس , ويسعون في الأرض ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل .
والهدهد يستنكر على من لها عرش عظيم وبالتالى يستنكر على كل من له عرش عظيم ألا يسجد لله أى لايطيع ولاينقاد ولايخضع ولايذل ولايطمئن لله , وهو سبحانه رب العرش العظيم أى مالكه ومصلحه والقائم عليه والملازم له وخالقه .
هكذا ربط الهدهد بين كل هذه المعانى .. أفاده الله.