قررت الملكة إرسال هدية كاختبار للملك هل تغريه الهدايا أم لا . فقالت :
( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) (النمل 35).
وهو شأن التصرف مع أصحاب السلطة غير المؤمنين , الذين يرتشون باسم الهدايا , فيميلون إلى صاحب الهدية , ويميلون عن الحق .
لاحظ أن الملكة تتصرف وحدها , وتعلن للملأ عن عزمها ولا تأخذ رأيهم , فقد فوضوها والتزموا بالدفاع عن قرارها أيا كان .
انتقلت الآيات إلى حيث وصل المرسلون بالهدية إلى سليمان ولابد أن الهدهد كان معهم , فالهدهد حريص على إثبات براءته , وسليمان لن يقبل منه تقارير شفهية , فهو قد تحفّّظ عليها من قبل ووضعه موضع اختبار, فلا يكفى تقرير دون برهان مادى , كما أنه لابد راجع إلى سليمان وتحت سيطرته , فهو قد حشر ضمن الجنود الذين حشروا لسليمان فهم يوزعون .
كما أن سليمان قد كلفه بأربع مهام :
اذهب بكتابي هذا … فألقه إليهم … ثم تول عنهم … فانظر ماذا يرجعون
إذن فالهدهد عليه أن يقدم إلى سليمان تقريرا عن نتائج تباحث الملكة مع القوم, وماتوصلوا إليه من قرارات . وعليه أن يأتيه بأمارة تؤكد صدقه وتبرئه .
إن كل ما نوقش فى مجلس الملكة مع ملئها , وما رجعوا به من القرارت , لابد أن الهدهد ناقله إلى سليمان تنفيذا لأمره (فانظر ماذا يرجعون) .
يقول الله:
( فلما جاء سليمانَ قال أتمدونن بمال , فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون . ارجع إليهم , فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها , ولنخرجنهم منها أذلة , وهم صاغرون ) (النمل 36-37) . .. إن الفاعل المستتر للفعل ” جاء ” هو – على الأرجح – للهدهد , حيث جاء مع دليل براءته , وكان فى مجيء المرسلين إلى سليمان إجابة على تساؤل سليمان ( أصدقت أم كنت من الكاذبين ) , وبالتالى إعلان لبراءة الهدهد من الكذب , ونجاته من العذاب الشديد أومن الذبح .
وحتى لو كان الفاعل المستتر هو رئيس وفد المرسلين , فإن الهدهد لابد أن يكون قد حضر إلى سليمان ليشهد لحظة براءته , وليسلم تقريره.
حلل سليمان الموقف قبل أن يتخذ قراراته :
- ثبتت السيطرة الكاملة للملكة على قومها وملئها : فهى تطلب فتواهم وهم لا يفتونها , وهى قاطعة الأمر وهم يشهدونها لينفذوه , وهم يفوضونها , وينتظرون الأوامر .
- الملكة تناور بإرسال هدية على سبيل الرشوة , وجس النبض ,ولتحجزه عن الوصول إلى قومها بدعوته .
- مازالت الملكة متشبثة بعناصركبريائها , وعزتها , وتخشى من ضياعها إذا دخل الملوك قريتها (..إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة..) .
- الملأ يملكون قوة وبأسا شديدا ويعتزون بها وفى انتظار أوامر الملكة للدفاع.
… إذن فقد زادت خطورة الملكة على الدعوة :
● إما أن تهتدى فتيسّر المهمة , وتدعو قومها فيطيعونها وهى صاحبة الأمر فيهم ,
● وإما أن تكون من الذين لا يهتدون , فلن تجدى الدعوة مع قومها وهى على رأسهم.
كما أنها فى وجودها وسط قومها , وعلى عرشها , وعلى رأس ملكها وفى عزها وعزتها, وهى فى هذه الحالة فإن سبيل الدعوة إليها أصعب وأشق , حيث تكون فى موضع استكبار وإصرار وعناد , وهى كلها من أمراض القلب والعقل التى تصد صاحبها عن سبيل الله كما حدث لإبليس اللعين حين رفض الامتثال لأمر الله بالسجود لآدم استكبارا ” قال أنا خير منه”.
وهذا من تاريخ البشرية الذى سجله القرآن:
فإخوة يوسف اعتبروا كونهم عصبة , سببا كافيا يعطيهم حقا فى أن يكونوا أحب إلى أبيهم من يوسف حتى وإن ساءت أخلاقهم (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة..)(يوسف 8) , فعالج أبوهم يعقوب الموقف بأن أمرهم ألا يدخلوا من باب واحد (وقال يابنىّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شىء..)( يوسف 67) ولعل الحاجة التى كانت فى نفس يعقوب هى أن يشعرهم بأنهم ليسوا بعصبة , أو أن العصبة لا تعطيهم حقا ليس لهم , ولا ينبغى أن تكون سببا فى تآمرهم وشعورهم بالتفوق.
وليست المسألة مسألة حسد , فالعصبة الذين يقولون إن أبانا لفى ضلال مبين , ويقولون اقتلوا يوسف , ويجيئون على قميص يوسف بدم كذب , إن هذه العصبة لو حُسدت بسبب كثرتها وانضمام بعضها لبعض فى الشر, فسوف تتفرق, وفى ذلك فائدة لهم وللمجتمع.
ويقول الله لأهل المعصية( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون)(الزخرف 39)
.. ولعل بعض الناس لا يرى الحق حقا ولايتبعه إن رآه, إلا إذا تجرد من عوامل الكبر و العصبية. مثلما حدث لأبى سفيان الذى لم يستجب لدعوة الحق إلا بعد أن هُزم فى فتح مكة وتجرد من عصبته وقوته.
ولعل من حكمة الله فى الحج أن يتجرد الإنسان – ولو مرة واحدة فى حياته_ يتجرد من بلده , ومكانه ومكانته , وعصبته وفصيلته التى تؤويه , وماله , وملبسه , فيخلع كل مظاهر الكبر والغرور, ليرى نفسه على هذه الحال , ويعلم أنه دون عبوديته لله رب العالمين , لا يساوى شيئا , وأن العزة حقا فى طاعة الله والذلّ له سبحانه.
ومن الجميل أن الإنسان الذى يحتاج إلى ذلك هو الإنسان الذى يملك من عناصر الكبر قوة فى البدن , أو مالا , أو جاها ,أو زادا أو راحلة أو كل ذلك ,أى من استطاع إليه سبيلا , وهو الذى كلفه الله بحج بيته.
ويوم القيامة حين يعلم الناس علم اليقين , ويرون الجحيم عين اليقين , يقول الله: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة , وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم , وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء , لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) (الأنعام 94).
قرارات سليمان
بعد أن حلل سليمان تقريرى الهدهد , كان عليه أن يتخذ القرارات التصحيحية اللازمة , ولنا أن نتوقع أن قرارت سليمان وتصرفاته إنما تنبع من عقيدته , وعلمه وحكمته التى آتاه الله , ولا تكون انتصارا لنفسه ولا انفعالا لغير الحق , فما هى القرارات التى اتخذها سليمان عليه السلام ؟ وما ارتباطها بعقيدته كنبى , وهدفه للدعوة إلى ربّه ؟ وماهى الأساليب التى اتبعها من واقع مكانته كملك ؟
قرار رقم “1” : رفض الهدية:
استنكر سليمان مده بالهدية , وسفه من شأنها فقال ( أتمدونن بمال ) نكرة , لأن أي مال مهما كانت قيمته , يُمَدُّ به المسئول أو صاحب السلطة لابد أن يُستنكر , وألا يُقبل , حيث يفتح أبوابا للفساد الإداري , وينبغى أن يرد بما رد به سليمان ( فما آتاني الله خير مما آتاكم , بل أنتم بهديتكم تفرحون ) .
ولو أن الهدية قد قدمت لسليمان فى ظروف أخرى ربما كان يقبلها , ولكن تقرير الهدهد عن (ماذا يرجعون) عرف منه سليمان أن الهدية غرضها رشوته لكى تتهرب ملكة سبأ من التنازل عن عقيدتها , ولكى تصده عن توصيل دعوة الله للقوم.
إن الأمم التي تطورت إداريا وسادت العالم بقوة إدارتها , تحرم على موظفيها العموميين قبول هدايا تزيد عن 100 دولار وهى قيمة تقل كثيرا عن جزء واحد من الألف من دخلهم السنوي , وهى لنفس المقياس لدينا في مصر , يجب أن تكون أقل من بضعة جنيهات , وإلا فعلى المسئول أن يسلم أية هدايا ذات قيمة أكثر من ذلك إلى إدارته فور تلقيها .
قرار رقم “2” براءة الهدهد , واعتماده سفيرا :
لم يكتف سليمان برفض الهدية وتسفيهها بمقارنتها بالخير الذي آتاه الله , وبتبكيت المرسلين ( بل أنتم بهديتكم تفرحون ) ولكنه أرسل الهدهد مرة أخرى إليهم بإنذار عنيف – وهو ثالث ذهاب للهدهد :-
● الأول من تلقاء نفسه , حين كان من الغائبين
● الثاني حين ذهب بكتاب سليمان فألقاه إلى ملكة سبأ,وهو فى موضع اختبار.
● الثالث هو هذا : ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لاقبل لهم بها .. ) , وهو فى موضع أداء مهمة رسمية , أى أنه فى هذه المرة موظف مسئول بعد اعتماد صدقه وإخلاصه وغيرته على ربّه أن يسجد أحد لغيره سبحانه وتعالى وجلّ شأنه.
وفى رأى من آراء المفسرين , أن الأمر في ( ارجع إليهم ) صادر إلى رئيس الوفد , ولكننى أرجح أنه للهدهد , حيث أن حديث سليمان في الآية الأولى موجه إلى المخاطب ( أتمدونن – خير مما آتاكم … بل أنتم بهديتكم
وفى الآية الثانية ( فلنأتينهم … لاقبل لهم … ولنخرجنهم … وهم صاغرون ) كلها موجهة للغائب .
فإما أن يحدث سليمان المرسلين جامعا معهم قوم سبأ في الآيتين , وتكون الضمائر كلها للمخاطَب , أو أنه يحدث المرسلين في الأولى بضمير المخاطب, ويحدث الهدهد في الثانية بضمير المخاطب أيضا , ثم يذكر سبأ بضمير الغائب .
ثم يحمّل سليمان للهدهد رسالة أو كتابا ثانيا, ويفهم من الآيات السابقة أسلوب سليمان في نقل أوامره للقوم من خلال كتاب مسطور , ويمكن أن نفهم أن المسألة تكررت هنا أيضا بأن كتب كتابا ذهب به الهدهد – الذى أصبح محل ثقة عند سليمان حيث صدق ولم يكن من الكاذبين , كما أنه قد أدى المهمة الأولى بدقة ونجاح كبيرين.
وهكذا أعلنت براءة الهدهد !! وأصبح سفيرا معتمدا لدى النبى الملك سليمان عليه السلام.
قرار رقم “3”: استعراض القوة لكسر أسباب عزة الملكة بالإثم واستكبار جنودها :
قال سليمان “فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها” , وهى جنود لا يعهدها قوم سبأ من قبل , ولا يستطيعون شيئا حيالها . وذلك بعد أن عرف من التقرير الثانى للهدهد أن لهم جنودا أولى قوة وأولى بأس شديد . وهم يعتزون بها , وملكتهم تتكبر أو تحتمى بها, إذن فلابد من استعراض للقوة التى لا يستطيعونها , وليس بالضرورة أن تكون كثرة جند , ولكنها نوعية من الجنود التى لم يعهدوها.
قرار رقم “4” : تكسير الكبرياء المادى الذى تعيش فيه الملكة , ويصدها عن سبيل الله:
قال عليه السلام ” .. ولنخرجنهم منها أذلة ..” , فيخرج ملكتهم من بلدها , وملكها الذى قال الهدهد فيه “وأوتيت من كل شىء” , وعرشها الذى قال عنه ” ولها عرش عظيم”. وقوة ملئها وبأسهم الشديد , حيث أن وجودها فى هذا الجو يعضد موقفها ويقوى شعورها بالكبر , وربما الإصرار على عقيدتها , إذن فخروجها من سبأ ذليلة علاج لها , وخير لقومها حيث تذل بكفرها وسجودها للشمس من دون الله . ثم يكون بعد ذلك عزة لها بالإسلام إن هى أسلمت , أو عزة لقومها أن هى نُحّيت عنهم فدُعوا إلى الإسلام فأعزهم الله به , أو لم يستجيبوا لداعى الله وظلوا على كفرهم , ولكن حُكموا به وساد فيهم الإسلام بعدله , بعيدا عن تملُّكها لهم , وفى جميع الأحوال لا إكراه فى الدين , كما سيظهر من بقية القصة
قرار رقم “5” خلع رداء الغرور من قلب الملكة لتقريبها من الحق , وتجريدها من الإصرار والاستكبار:
قال ” .. وهم صاغرون” , والصاغر مقهور على فعل شىء على غير رغبته , فينكسر كبرياؤه وينهزم غروره , ويكون مؤهلا لتلقى دعوة الحق وليس فيه بقية كبرياء .
وكل هذه القرارت منبعها الدعوة إلى سبيل الله , التى فى اتباعها صالح البلاد والعباد, والعزة التى جعلها الله للمؤمنين , كما أنها لا تعنى قهرا على دعوة , فلا إكراه فى الدين, وإنما هى إتاحة الفرصة للتجرد والوقوف لحظة صدق , والتفكير السليم بعيدا عن الإصرار والاستكبار. ثم بعد استعراض الدعوة فى هذا الجو الصحى دون مؤثرات سلبية , فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.