كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل
وكما كانت سورة الإسراء أو سورة بني إسرائيل مقدمة لمنهاج الحكمة, فإن سورة الزمر مقدمة لبناء منهاج فصل الخطاب وتلخيصا له, وهو الفصل اللازم لكي لا تظل المسائل معلّقة دون فصل, سواء كان فصلا قانونيا, أو حسما لقضايا فرعية تحتاج إلى قرارات وبتّ وحسم.
وكأنه عليه الصلاة والسلام يراجع موجز المناهج التي كلفه الله بوضعها لإقامة قواعد الحضارة وأساسها. والمراجعة الدائمة للقرآن وإعادة القراءة مرارا لسوره وآياته, يظهر الله بها أسراره لمن يشاء من عباده. وهذه خاصية في كتاب الله. وفي بعض الأحيان يظل المرء يقرأ السورة الواحدة عشرات المرات, وربما المئات وفي كل قراءة تتكشف بعض الأسرار, وتختلف المعاني وتتنوع باختلاف الظروف المحيطة بالقارئ, والأحوال العامة والشخصية, وربما يوضع الإنسان في ظروف تساعده على الفهم والإدراك, وصدق الله العظيم (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33))
ولا يمكن أن يبلغ نهاية المدى فيها, فليس للقرآن نهاية وليس لمعانيه وأسراره سقف, ومخطئ من يظن أنه قد أتى بتفسير القرآن, وإنما هي فتوحات يفتحها الله على من يشاء من عباده, كالغيث يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. اللهم علمنا منه ما جهلنا.
وسورة الزمر, تمثل ملخص منهاج فصل الخطاب, وهو الفصل اللازم حتى لا تبقى مسائل معلّقة, وقد نزّله الله العزيز فلا يقهر, الحكيم يحكم بالحق:
(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
والسورة تتركز على إفراد الله حكما بين عباده, وعدم التحاكم إلى الطاغوت, أيا كان, وذلك أساس الفصل وأساس الحكم. فالاتفاق على الحَكَم يكون قبل القوانين وقبل إصدار الأحكام. وفي أي تعاقد يتفق الطرفان على الحكَم بينهما عند الاختلاف, وتوضع مادة مخصوصة منفردة في العقود تنصّ على الحكم المختار عند حدوث خلاف, كأن يكتب في نهايات العقد: {أي نزاع ينشأ في تفسير مادة من مواد هذا العقد يرجع فيه إلى المحاكم المختصة} وهكذا..
وتكرر في السورة كلمة الإخلاص أربع مرات بتراكيب متعددة كأكثر ما يكون في سورة واحدة من القرآن ,
وإخلاص الدين لله يعني عدم خلط التسليم لله, بالتسليم لغيره, فالخالص هو الذي لا تشوبه شائبة تلوثه وتعكّر من صفوه, وهي صفة اختارها الله سبحانه للّبن, (لبنا خالصا سائغا للشاربين), فيقول سبحانه في فاتحة سورة الزمر: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ, وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فهي إذن سورة فاصلة في اختيار الحكَم عند الاختلاف.
ثم تنفي الآيات التالية كل احتمال لوجود حكَم غير الله, بدءا من عموم كلمة أولياء في الآية السابقة, ثم نفي اتخاذ الله للولد (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
وله الملك (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
وله المرجع (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
ويشعر الإنسان بهذا حين يمسه الضر, فلا يجد غير ربّه يدعوه, ثم ينسى بعد ذلك (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
والمؤمن (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الذي يطمئنه على مصيره إن أحسن (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
ويتكرر إخلاص الدين لله والتسليم له جلّ شأنه (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14))
ويتجنب التحاكم إلى الطاغوت وعبادته (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17))
والتسليم للواحد الأحد يحكم كما يشاء, هو منطق العقل والعلم والإدارة. فلو أن رجلا في مكان عمل يأخذ أوامره من شركاء متشاكسين, فإنه لا يستطيع أن يعمل: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)) وسيحدث هذا الموقف يوم القيامة بين يدي الله لا محالة,
وبالتالي فالعاقل من سلّم بهذا في الدنيا وأسلم فصل الخطاب والحكم لله في أي خصومة (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31))
والله سبحانه كاف عبده (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.. (36))
والإنسان يستسلم لله كل ليلة في منامه حيث يتوفّى الله الأنفس بالموت وبالمنام, فالأولى به أن يسلم لله يحكم له وعليه دون شفعاء لا يملكون شيئا ولا يعقلون (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44))
ويشير الله إلى الحكم بين العباد بموجب كونه فاطر السماوات والأرض بدأها وبدعها بكل ما فيها, عالم الغيب والشهادة, أحاط بكل شيء, حاضرا كان أو غائبا, وبناء عليه, فهو يحكم بين عباده: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
والإنسان حين يسلم إلى الله, فهو بين يدي رحمته حتى إن أسرف على نفسه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ..)
وهو سبحانه (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(63)
ولكن الناس ما قدروه حق قدره (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وهنا يبين الله الهيئة التي ستكون عليها السماوات والأرض عند الحساب, حيث تستكمل هيئة المحكمة…
• فيُجمع الناس للحساب: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
• ويأتي نور الله فتشرق الأرض به (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ..)
• وتوضع القواعد والقوانين والشريعة التي سيكون بها الحكم (وَوُضِعَ الْكِتَابُ .. )
• ويُحضَر الشهداء, فالنبيّون يشهدون بأنه بلّغوا آيات الله المسطورة المنزّلة, والشهداء يشهدون بأنهم بينوا للناس آيات الله الكونية (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ..)
• ويقضي الله بالحق بين الناس (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
• وتوفّى كل نفس ما عملت (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
• ثم تنفّذ الأحكام؛ للمذنبين المجرمين (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا..(71)
• وللمتقين الصالحين (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا… (73)
• وتكتمل الصورة بالملائكة وهم محدقون من حول العرش المجيد يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ..)
• وقد فصل القضية وقضى الأمر وحكم بالعدل وقضي بين الخلائق بالحق, (.. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ…)
• ونطق الكون أجمعه لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75))
وهذه هي الصورة المثلى لفصل الخطاب, والتي ينبغي أن يمتثل بها القضاة والحكّام والفاصلون في المواقف والقضايا وكل من يتعرض للتحكيم بين الناس, فكمالها الأعلى يوم الحساب, وهذا ما ينبغي أن يدفع الناس للتسليم بحكم الله الذي يُردّ له الأمر في المنام وفي الموت وفي الآخرة, بدلا من أن يكون فيهم شركاء متشاكسون, أو أن يتحاكموا إلى الطاغوت.
والله أعلم, والحمد لله رب العالمين