والآن, جاء دور الحكم وفصل الخطاب, بعد الاتفاق على الحكم, والمرافعات, والأدلة والقرائن…
ما هي الصورة التي ينبغي أن تكون عليها منصّة الحكم, للفصل في المنازعات, وفصل الخطاب في المسائل المختلف عليها؟
إن المنصّة ينبغي أن يكون فيها الادعاء بالحق, له قوة, يتمكّن بها من المذنبين ويوقفهم لحين البت في القضية. كما ينبغي أن تكون له حكمة يستطيع بها أن يفصّل القرائن والأدلة, و يصل بها إلى كبد الحقيقة, التي تمنع الخطأ, وتمنع الظلم, وتنفي الجهالة, وتبين الحق من الباطل.
والمنصّة ينبغي أن يكون فيها الدفاع الذي ينظر في كل ما يمكن أن يخفف به عن المتهم ليس بالحق وحده, ولكن بالمغفرة له إن هو استغفر وتاب, وبالرأفة والرحمة.
والذي يحكم في النهاية بين كل الأطراف, وبعد كل الآراء واستعراض الأسباب, لابد أن يكون مترفعا عظيما بعيدا عن كل تأثر بهؤلاء أو هؤلاء, يفصل في الخلاف فيكون حكمه واضحا جليّا لا لبس فيه, فيخرج المتخاصمون من عنده, ويعلم كل منهم موقفه بوضوح, ويعطي كل ذي حق حقه.
إن هذه المهام الثلاثة هي مهام هيئة التحكيم, ومنصّة الحكم. ولا يضاف إليها ولا يُنقص.
تفتتح سورة الشورى بحروف خمسة في آيتين منفصلتين, فريدة في القرآن.. ولها دراسة منفصلة بإذن الله.. (حم (1) عسق (2))
تمثل أسماء الله الحسنى صفات المنصّة:
● فالله العزيز الحكيم, يقيم الادعاء بالحق, وهو قادر على الغلبة بالعزّة, وفي نفس الوقت يصل إلى كبد الحقيقة بالحكمة بعد استعراض التفاصيل والقرائن والأقوال المختلفة: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
● والله العلي العظيم, يحكم من مقامه الأعلى والأعظم (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
● والله الغفور الرحيم, يستجيب لمن يستغفره, ويرحم من يسترحمه, ويسمح بالشفاعة بإذنه, وبرأفته وبرحمته: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
وهو يفصل الفصل النهائي يوم يجمع الناس جميعا للحساب, فيكون كل فريق في المكان والجزاء الذي يستحقه: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
وهو يحكم فيما اختلف فيه الناس (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ(10)
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
وهو سبحانه يحكم بموجب شريعة واحدة وصّى بها نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى, وأوحى بها إلى رسوله محمد صلوات الله عليهم وسلامه, وأمر الجميع أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ…(13)
ولم يقض هو بينهم في الدنيا, ولكنه أجّل قضاءه بينهم ليوم الحساب, وترك للناس الاقتداء بالمثل الأعلى فيما بينهم: (… وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ..)
وأمر بالدعوة لشريعته والاستقامة عليها, وعدم اتباع الأهواء, وبالإيمان بكل ما أنزل الله من كتاب, وإقامة العدل بين الناس: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
وقد أنزل سبحانه الكتاب الذي جاء بالحق وأنزل الميزان الذي به يفصل الناس في الأمور بالحق (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21))
ولكي يحكم الناس به, فعليهم أن يجتنبوا ما يبعدهم عنه, وعليهم أن يلتزموا بما يقربهم منه. ويبعدهم عنه ارتكاب كبائر الإثم والفواحش, والتأثر بالغضب الذي يدفع إلى الخروج عن الموضوعية والعدل والاعتدال: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
ويقربهم من الحق والميزان أن يستجيبوا لربهم ويقيموا الصلاة ويتشاوروا بينهم, ويخرجون بالإنفاق في سبيل الله من دائرة حب المال الذي يُطغي, وبالتالي لا يغريهم مال ورشوة به: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38))
وتكون لديهم القدرة على ردّ البغي والانتصار عند تعرضهم للظلم (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)) دون تجاوز: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا..)
مع العفو عند المقدرة, والإصلاح خوفا من الظلم والتجاوز عند الانتصار على البغي: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
فإن قرروا الانتصار بعد الظلم فلا حرج: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
وحين يحكم الله سبحانه, فمن منطلق أن له ملك السماوات والأرض: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ..) وأن إليه تصير الأمور:(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)