في سورة الزمر تم الاتفاق على الحكَم عند وجود خلاف, هو الله العزيز الحكيم
وتبدأ الحاجة إلى الحكَم بأن يدّعي أحد الناس شيئا على آخر, وينفي الطرف الآخر الادعاء, ويبدأ كل طرف في طرح حجته, ومحاولة إثباتها, ويأتي بالحجج والبراهين.
فتتناول سورة غافر أول مراحل التقاضي, وهي الادعاء.
وكلّ من المدّعين إما أن يدّعي وهو يعلم الحق من الباطل وأنه على الباطل, أو أنه يظن أن له الحق..
فتبدأ السورة بالإعلان بأن الله قادر على الانتصار والغلبة, وبالتالي الوصول إلى كبد الحقيقة, وعليم لا يستطيع أحد أن يخفي عليه حقيقة ولا أن يطمس عنده حقا: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)) وبالتالي فإن هذا يصفّي جزءا من القضايا حين يراجع الإنسان نفسه ويعود إلى الحق, إجلالا للعزيز العليم, دون حاجة لادعاء بالباطل وهو يعلم.
والمذنب الذي يعلم أن ليس له حق, أمامه طريق الاستغفار والتوبة طمعا في مغفرة الله دون حاجة إلى الدفاع عن نفسه بالباطل والتمادي في الذنب والاستكبار على الاعتراف به, وسيجد الله سبحانه: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) وإلا وخوفا من بطشه الشديد, فسيجد الله (شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) ولا يمكنه اللجوء إلى أحد غير الله (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3))
أما في حالة أن يكون الحق غير ظاهر, ويظن كل طرف فعلا أنه صاحب حق, فإن الله يضع القاعدة لفصل الخطاب حين تتّضح البيّنة وتأتي آيات الله المكتوبة بالشريعة والبينات, أو تأتي آيات الله الكونية بالكيل والميزان والمعايير والمقاييس والحجج والبراهين والشهود. فإن ظهرت حجة وبيّنة فلا ينبغي أن يجادل أحد فيها, وإلا يكون من الذين كفروا المصرّين على إنكار وجود الله وكونه حكما, وعزيزا وعليما: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4))
وأمام المجادل بعد ذلك مثال على أكثر الأقوام جدالا في التاريخ, قوم نوح الذين قالوا له: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) فيجادل بالباطل ليدحض به الحق, فيكون مصيره كمصيرهم: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)). وهؤلاء تحق عليهم كلمة ربّك (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6))
“من أعان باطلا ليدحض به حقا فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم”
وعلى الجانب الآخر, يكون الذين آمنوا وتابوا واتبعوا سبيل الله, يجدون حملة العرش يستشفعون لهم عند ربهم: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
ويبين الله سبحانه أن له الحكم: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)).
وهو سبحانه يردع المجادلين بالباطل بتذكيرهم بالموقف بين يديه يوم التلاق, وهو اليوم الذي يتلاقى فيه الناس أمام الله للحساب: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15), حيث لا يخفى على الله منهم شيء (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16), فيجازي كل نفس بما كسبت: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
ولا ينفع حميم ولا شفيع يطاع: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) ويتّضح كل شيء حيث أن الله (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
ويأتي القصص القرآني بتفصيل أكبر مرافعة في التاريخ, ويبين الله فيها آداب الادعاء وأصوله وقواعده.
والخصمان هما الحاكم الظالم المستبد المفسد فرعون, ونبيّ الله موسى عليه السلام, فيدّعي فرعون أن موسى مصدر خطر على دين الناس وعلى دنياهم بإظهار الفساد في الأرض, فيلجأ إلى الناس ليأخذ حكما منهم ليقتل موسى, وهو شك دون الاتهام, حيث يقول (إني أخاف): (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
ويلجأ المشكوك فيه إلى الله فيعوذ به من كل متكبر لا يراعي أنه سيقف للحساب بين يدي الله: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
فيبرز رجل مؤمن من آل فرعون ليترافع عن سيدنا موسى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ..)
حتى إن فرعون ليبدأ في الشك فيما كان يدّعيه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)
وبعد أن يؤدي دوره على أكمل وجه, يختتم المرافعة بتفويض الأمر لله: (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44))
وتفاصيل وأصول الدفاع, مما يطول الكلام فيها على مدى إحدى وعشرين آية من سورة غافر, ثم تعقيب الله عليها. ولها دراسة منفصلة بإذن الله. وتبرز فيها النقاط التالية:
• المجادلة مع وجود آيات بينة (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4))
• المجادلة بالباطل لدحض الحق:(وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)
• المجادلة بغير سلطان: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا)
• المجادلة بالكبر: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)
• بعد كل ما سبق, فإن مصير المجادلين المصرّين يكون: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
وتختتم السورة بالتذكير بأمر الله وقضائه بالحق, وخسارة المبطلين الذين يحاولون إبطال منهاج الله وحكمه وفصله للخطاب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
وخسارة الكافرين الذين يريدون أن يحجبوا منهاج الله تماما, مهما بلغوا من القوة الشديدة والآثار في الأرض.. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
روي عن رسول الله أنه نصح المسلمين عند الغزوات فقال: (إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون)
لا يُنصر الذي يجادل بالباطل, والذي يدّعي بالباطل
فإذا قاتل المسلمون لتكون كلمة الله هي العليا, تحت راية (لا إله إلا الله, محمد رسول الله), فلا يكون لهم غرض غير ذلك, ولا يشركون في نيتهم أحدا مع الله, كما أنهم يتبعون هدي الله ورسوله في القتال, فيلتزمون بمنهاج الله سبحانه, فإن أي مقاتل لهم يكون مدّعيا بالباطل, ولا ينصره الله.