في منظومة بناء الحكمة عند من تنقصهم الحكمة, تناولت سورة الحجر الذين كفروا, وأخذت بيدهم بالعقل المجرّد وبالفطرة السليمة, إلى الله الخلّاق العليم, وأنه يدبّر الأمر وأن له الطاعة
وتناولت سورة الأنعام المشركين, وحركت عقولهم للإيمان بالله والتسليم له, والتعرف على ما حرم الله وما أحل.
ولكن الناس يختلفون في تلقّيهم لدعوة الحق. فمنهم من استجاب لدعوة سورة الحجر, و منهم من استجاب لدعوة سورة الأنعام, والمتوقع أن البعض مازال خارج حدود العقل والفكر السليم والفطرة النقية, ومازالت تأخذه العزّة بالإثم ويستولي عليه الاستكبار, ولم يفلح معهم شواهد عقلية, واستعراض لآيات قرآنية, فهو يحتاج إذا إلى من يصفّه للمحاسبة ويزجره ويمنعه عن تجاوز الحدود بشدّة وقوّة, ثم يتلو عليه ذكرا بعقوبات المستكبرين, الذين أوقفوا عقولهم عن التفكير, وأبصارهم عن النظر, وآذانهم عن السمع.
وقد يكون الإصرار والاستكبار مبعثه اتباع الآباء والأهل, أو الحرج منهم كما حدث من أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم.
وكل ذلك يحتاج إلى معالجات خاصة, فبعد النصيحة واستعراض المنطق والعقل والتدبُّر, دون جدوى, يحتاج المستكبر إلى أن يصفّ, فيُزجر, ويتلى عليه أحوال أمثاله في الدنيا وفي الآخرة ليكون له ذكرا.
وفيما رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ملوك حضر موت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئاً مما أنزل الله قرأ “والصافات صفا” حتى بلغ “رب المشارق والمغارب”” وذلك يتناسب مع ملوك قد يحجبهم وضعهم وسط قومهم إلى الاستكبار عن التسليم لله, وعن طاعته فيما يأمر, وقد يمنعهم أنهم كبراء في قومهم ووسط أهليهم, فيتناسب معهم منهاج سورة الصافات في الزجر واستعراض أحوال أمثالهم.
الزاجرات” الفاعلات للزجر من الملائكة، وهي الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح. والزاجرات العلماء، لأنهم الذين يزجرون أهل المعاصي. وكل ذلك من الزاجرات, فمن لم يزدجر من القرآن, زجره العلماء, وإلا فستزجره الملائكة يوم القيامة والناس يحاسبون.
ومن هنا, فإن سورة الصافات تأتيهم بأسلوب مختلف للتنبيه للإيمان بالله, والتسليم له, ففيها صفّ, وزجر, وذكر, (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)) تؤدي كلها إلى التصديق بحقيقة: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5))
ويبدأ المنهاج بالتذكير بقدرات الله التي تدلّ على وجوده وعلى تدبيره للأمر وحفظه لخلقه: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)) ويبدأ الزجر بتذكير المستكبرين بأصل خلقتهم من طين لازب, ضعيف أمام شدّة خلق الله للسماء والكواكب. (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)) ويزجرهم على سخريتهم (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19))
ثم يستعرض الموقف يوم القيامة حيث يحشر الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون, من دون الله ويساقون إلى صراط الجحيم حيث يوقفون للسؤال والزجر على أنهم كانوا يتناصرون في الدنيا, ولكنهم لا يستطيعون ذلك في الموقف بين يدي الله حيث يستسلمون: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26))
وتوقع الآيات بين المتناصرين بالباطل في الدنيا, حيث يتبرأ كل واحد من الآخر ويتبادلون الاتهامات, ويشتركون في العذاب, فإن علموا أن هذا سيكون مصيرهم يوم القيامة, تركوا تجمعهم على الباطل في الدنيا وعادوا إلى عقولهم ورشدهم وإلى الحكمة المجموعة في (ألا تعبدوا إلا الله)
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61))
ثم تأتي الزاجرات من الآيات بالذكر لمصير الظالمين ونصيبهم من شجرة الزقّوم التي تخرج في أصل الجحيم, مرهبة في اسمها وأصل خروجها, وطلعها. ولا يكتفى بكل ذلك, وإنما: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68))
وكل ذلك بسبب الاتباع الأعمى للآباء, وعدم استعمال العقل في الوصول إلى الله بالإيمان, والتسليم له بالطاعة (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
ويستعرض القصص القرآني موقف العلاقات بين الأهل التي منها ما ييسّر الوصول إلى الله, وطاعته, ومنها ما ييسر الكفر والشرك والظلم:
فنوح وأهله وذريته ينجيهم الله, ويترك عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين, ويغرق الله الآخرين.
وإبراهيم حين يستعمل عقله يهديه الله به, فيخرج على مألوف آبائه الأقدمين في الكفر وعبادة الأصنام فيزجرهم (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96))
وحين يصل إلى الله بالإيمان والقناعة العقلية والقلبية, فإنه يطيعه حتى حين يأمره في المنام, وحتى لو كان الأمر بذبح ابنه, ويطيع ابنه وييسر عليه الأمر: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)) ويمنّ الله عليه بإسحاق نبيا من الصالحين.
ويمن الله على موسى وهارون (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)
ويزجر إلياس قومه الذين اتخذوا صنما ربّّا (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
ويزجر الله بأحوال قوم لوط (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
ويشاء الله سبحانه لقوم يونس أن يفلح معهم ما أنذرهم به من العذاب, فيتداركون قبيل وقوعه, وحتى بعد أن يتركهم يونس فلا يصبر عليهم (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148))
وتأتي الزاجرات من آيات الذكر الحكيم يتلوها الله في صيغة استفتاء وسؤال يشهد به عقول الظالمين, فإن كانت العلاقات العائلية تؤثر سلبا وإيجابا في عقيدة الإنسان وعمله, فإن هذا لا يمكن أن ينسب إلى الله, فلا يمكن أن يكون له البنات ولكم البنون, ولا أن يكون له ولد, ولا أن يكون بينه وبين الجِنّة نسب: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158))
وفي النهاية يثبت الله عباده المرسلين, وجنده الغالبين (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
وينزّه الله سبحانه عما يصفون.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182))
صدق الله العظيم
وهكذا تكون سورة الصافات خطوة في منهاج الحكمة, وزراعتها بالزجر لمن لم يسعفه عقله في الوصول إلى الله وطاعته, ولمن تؤثّر علاقاته العائلية والشخصية على عقيدته وسلوكه.