ألر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
فاتحة السورة, تجعلني أتأهب للاستماع إلى آيات الكتاب الحكيم, ملخصة في ألف لام را
وآيات الكتاب الحكيم, كأنها آيات المرجعية في الحكمة وقواعدها وأمورها. حيث ذكرت في كتاب الله: الحكمة والأمر الحكيم, وآيات الكتاب الحكيم.
إن بناء الحكمة يؤسس في سورة يونس على ثلاثة محاور:
المحور الأول: بناء سلطان الله ربّ العالمين في العقول والقلوب:
يعرّف الله الإنسان بنفسه جل وعلا, فهو الذي خلق السماوات والأرض. ثم لم يكتف بالخلق , ولكنه استوى على العرش يدبر الأمر, كما أنه لا يسمح بوجود شفيع أو شريك يشفع لأحد إلا من بعد إذن الله سبحانه وتعالى. إليه مرجعكم جميعا, إنه يبدأ الخلق ثم يعيده, يجزي بالقسط, ويعذب الذين كفروا يوم القيامة, هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل, ليعلم الناس عدد السنين والحساب, يفصل الآيات لقوم يعلمون. وينبههم لاختلاف الليل والنهار ولما خلق في السماوات والأرض. عنده النار وعنده جنات النعيم يوم لقائه. يبتلي سبحانه بالضر, وبكشفه. ويرغّب فيما عنده من الثواب, ويرهب بالعقاب, ويرسل رسله بالوحي ينذر الناس ويبشرهم. وهو سبحانه يرزق الناس من السماء والأرض, يحيي ويميت ويدبر الأمر ويبدأ الخلق ثم يعيده, ويهدي للحق. فإن قورنت قدرات الله سبحانه بقدرات ما يشركون به, فإن الشرك والشركاء يكونون هباء وهراءً وظنا وضلالا وافتراء.
وبناء على كل ذلك, فإنه سبحانه هو وحده لا شريك له, الذي له الحق وله الإذن في تقرير وتشريع الحرام والحلال. فكما أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض فلا نرى اصطداما بين الشمس والقمر, ولا نرى نهارا يتأخر عن موعده, ولا نرى فوضى في ملكه, فإنه جلّ وعلا يدبّر الأمر لعباده, فمن سار على هديه ومنهاجه, فإنه تنتظم حياته ويسير على الصراط المستقيم.
وهذا المحور بدأت بها السورة, وإلى ما قبل الآية (واتل عليهم نبأ نوح…)
فإذا قام في النفس ونشأ في الوجدان معرفة الله رب العالمين وإدراك ربوبيته وقيوميته وهيمنته, وتقدير صفاته وقدراته, فإن ذلك يمنع في الإنسان الجهل, ويمنع الظلم ويمنع الكفر ويمنع سوء الخلق, فيعمل الناس لله حسابا, فيتقونه فلا يظلمون, ويخشونه فلا يأثمون, ويتعرفون إليه فلا يشركون به شيئا.
هذا السلطان الذي يُنشئه الله في قلوب عباده وعقولهم, هو الذي يجعل المؤمن ينفر من الذنب, ويكره الكفر والفسوق والعصيان, وأن امتدت يده لكأس من مشروب, ثم علم أنه خمر, فإنه يبعده, وإن أدخل في جوفه طعاما فعلم أن فيه ما حرّم الله, فإنه يلفظه ولو خرجت نفسه معه.
والمحور الثاني من المحاور التي تؤسس عليها الحكمة:
هي أن الله سبحانه يضرب للناس الأمثال بالقصص, الذي يبين فيه قصصا حدثت في التاريخ لمن سار على هديه ومن كذّب وسار في ضلال مبين, ويبين التدرج الذي سارت الرسل عليه, فأخذوا الناس به في تاريخ الإنسانية:
وهذا المحور يبدأ مع ذكر نوح, ثم تفاصيل خاصة من قصة موسى, وإلى أن يذكر الله قصة قوم يونس, عليهم وعلى رسولنا الصلاة والسلام.
فمن ناحية الدعاة إلى الله, فإن وسائلهم تشمل النصيحة والبينات والآيات, ولا تصل إلى الإكراه أبدا, فلا إكراه في الدين:
¤ فنوح وهبه الله طول مقام, وصبرا طويلا, يعمل فيه بالنصيحة والتذكير بآيات الله, (مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ) فلم تنصلح حالهم, ولم تكف النصيحة لهم, وما آمن معه إلا قليل.
¤ وبين نوح وموسى بعث الله رسلا بالبينات (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) فلم يصدقوهم, (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74))
¤ ثم بعث الله موسى وهارون بآياته (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)) فكانت رسالة موسى بالنصيحة والبينات ودعمها بالآيات التي يجريها الله في كونه فتبين للناس قدرات الله وأفعاله التي لا يملكون أمامها شيئا. وذلك مثل الابتلاء بالسنين ونقص من الثمرات, وإرسال الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم, ومثل الزلازل والبراكين والأعاصير, فلم تكف أيضا كل هذه الأساليب: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ).
ومن ناحية الناس, فإن استجابتهم لدعوة الحق لا تقبل منهم حين تتأخر إلى أن يأتي أمر الله وعذابه, ولكن إن أدركوا أنفسهم قبيل العذاب, قُبِل منهم الإيمان:
¤ فلما ضرب موسى بعصاه البحر فانفلق, وأتبعهم فرعون وجنوده, (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)) لم يقبل منه إيمان وهو مكره, وقال له الله سبحانه: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)), ونجاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية على أنه لا إكراه في الدين, وعلى أن الفرص مفتوحة للعقل والقلب لكي يصل إلى الحكمة من غير ضغط ولا إكراه, إلى أن يأتي عذاب الله وحتى تبلغ الروح الحلقوم. فإذا جاء العذاب فلا يقبل الله إيمانا تحت التهديد والإكراه. ويجعل الله الرجس على الذين لا يعقلون.
¤ وقوم يونس لما آمنوا قبيل أن يأتيهم العذاب, قبل الله منهم إيمانهم وكشف عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا, الذي أنذرهم به نبيهم إن هم استمروا على كفرهم وعنادهم, ولكنه لم يكن قد وقع عليهم بعد (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98))
وأما المحور الثالث للحكمة فهو أنه لا إكراه في الدين:
وهذا المحور يبدأ من (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)) وإلى أن يحدد الله سبحانه لرسوله وللدعاة من بعده, أن دورهم في بناء العقيدة لا يتجاوز النصيحة وضرب الأمثال والاستعانة بآيات الله الكونية, (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109))
وتلخيصا: فإن الحكمة تُبنى قواعدها في القلوب والعقول :
● بمعرفة الله وربوبيته وقدراته على الناس وحاجتهم له, وبالتالي حقه في أن يشرّع لهم وحده لا شريك له.
● ثم بضرب الأمثال بالقصص المبيّن لمنهاج الله الذي أرسل به أنبياءه, ومصائر الأمم التي اتبعت الحكمة فنجت, أو التي لم تتبعها فهلكت, وإلى متى يمهل الله الناس للاستجابة حتى قبيل نزول العذاب, فإن نزل فلا قبول لإيمان ولا لإسلام (فرعون تخطّى الحاجز فأدرك الحكمة بُعيِْد فوات الأوان, وقوم يونس أدركوا الحكمة قبيل فوات الأوان). فالإيمان ينفع طالما كانت هناك فرصة للاختيار الحر, ولا ينفع إن فاتت هذه الفرصة, وأصبح الإنسان لا حرّية له, مقهورا على قبول الحكمة.
● ثم ببيان الله للدعاة وللناس بمراد الله منهم في الحكمة للوصول إلى الإيمان بالله دون إكراه, والاستعداد لطاعته فيما ينزل من أمر ونهي, دون أدنى مسئولية على الداعية.
تلك هي أسس وقواعد الحكمة, وهذا هو طريق بنائها في النفوس وفي القلوب وفي العقول, ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا.
بهذه القواعد الأساسية والمبدئية, فإن المجتمع والأمم تتأهل لطاعة سلطان الله, قبل أن يكون هناك قانون أو ثواب أو عقاب, وبذلك تسهل مسألة التشريع واتباعه وانتظام الناس تحت قانون واحد, محترم منهم يقبلونه ولا يعصيه إلا من يضعف, وإلا المجرمون, الذين يشمل التشريع التعامل معهم وردعهم وإعادتهم إلى سلطة التشريع.
وبدون هذا السلطان للحكمة في النفوس, فإن المجتمعات تعيش في فوضى, ولا بناء لحضارة في ظل الفوضى.