لا تقتصر الحكمة على فكرة ذهنية, أو فلسفة لحكيم يجلس في برج عاجي ويظل يفكر ويفكر ويتأمل في الحياة, ولكن الحكمة منهاج حركي يأخذ ما يستقر عليه الحكماء والعقول السوية, ويخرج بها إلى الناس وإلى الحياة, عاملا بها ومعمرا الأرض, ونافعا الناس, تلك هي الحكمة. أما أن يحبس الحكمة في عقله, أو يمنع استثمار نعم الله, أو لا يشكره عليها, فإن ذلك معاكس للحكمة.
ففي نفس الوقت الذي يسبح فيه داوود وتسبح الجبال معه والطير, فإن الله ألان له الحديد, وأمره بالعمل الصالح والصناعة (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
ومع تسخير الريح لسليمان, أسال الله له عين القطر, وسخر الجن يعمل بين يديه صناعة للمحاريب والتماثيل والجفان والقدور شكرا لله: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فتكون الحكمة في المعرفة والعلم الذي يتبعه العمل الصالح استثمارا لنعمة الله, وشكرا له عليها.
وعلى العكس, فإن النعمة التي يكفرها الناس, ولا يشكرون الله عليها بالقول والفعل, يغيرها الله ويبدلها..
فبعد أن حبا الله سبأ ببلدة طيبة, وربّ غفور, أعرضوا عن طاعة الله وشكره, فأبدلهم, حيث وهبهم الله تقدما ورزقا واسعا, جنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها الكتل، فيمتلئ من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها. وقيل إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة ولا ذباباً ولا برغوثاً ولا قملة ولا عقرباً ولا حية ولا غير ذلك من الهوام,
أي أنه حين يتوافر رزق حسن وبيئة نظيفة, وثمار طيبة, ولكن مع إعراض عن العمل طاعة لله, وشكرا له, ينتج عنه دمار لمظاهر المدنية والحضارة: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17))
وبعد أن مهّد الله لهم الطرق, لم يقدّروا تلك النعمة (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)) , فأزال الله النعمة عنهم حين لم تتحول الحكمة فيهم إلى عمل صالح واستثمار لنعمة الله.
وتكون علاقة الأمم والحضارات بالله, حافظة لها ومانعة من انهيارها بالكفر والإعراض, في حين لا تنفع العلاقات والدعم من غير الله, حيث ينجم عن دمار وسقوط (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22))
ولا ينبغي الاعتماد على معونة أو رزق يأتي للأمم مصحوبا بما يبعد عن طريق الله ومنهاجه: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) , ولا مصحوبا بإشراك أحد مع الله واتباع مناهج أخرى مع منهاج الله, ولا بديلا عنه, فإن هذا لا يحقق عزّة, ولا حكمة: (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
ويوم القيامة يتبادل الطرفان الاتهامات, التابعون والمتبوعون: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
وعندئذ لا ينفع تقدّم ولا ثروات وقوة: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)
التقيّد بمنهاج الله وما أنزل من كتب, وما أرسل من رسل: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44))
ثم لا يصل الناس إلى ما يريدون وما يشتهون إن هم لم يتبعوا منهاج الله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)