الدين هو الانقياد والذل والطاعة, والمدينة هي التي يطاع فيها ذوو الأمر, ويوم الدين يوم الحكم, و(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) أي في طاعته وحكمه, والدَّيّانُ: من أَسماء الله عز وجل، معناه الـحكَم القاضي يقالُ: كما تَدِينُ تُدانُ، أَي كما تُجازِي تُجازَى بفِعْلِك وبحسَبِ ما عَمِلْتَ. وقوْلُه تعالى: {إنَّا لمَدِينُون}، أَي مَجْزِيُّون.
ويكون الدين كله لله, أي تكون الطاعة والخضوع والذل كله لله, لشريعة الله ولحكمها, وهذا هو الهدف الرئيس, لكي يدين الناس أي يُحكمون في حياتهم وأحوالهم ومجتمعاتهم ومعاملاتهم ودولهم لله وحده لا شريك له, وبعد ذلك, فكل إنسان حر في عقيدته الخاصة, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, وإنما يُحكم الجميع لدين الله, ويكون الدين كله لله. يستوي في ذلك الحكام والمحكومون, فلا يدعي أحد من الحكام أنه الحاكم بأمر الله, إلا أن تكون شريعة الله هي الحاكمة, ولا يخالفها قانون أو نظام, يحتكم إليها الجميع, الحكام قبل المحكومين كما في هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)
يقول القرطبي في تفسير سورة البقرة: قوله تعالى: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوْا فلا عُدْوَٰنَ إِلا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ}.) والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كُفْر وفتنة.(انتهى)
وأفهم أن من يقاتَلون هم الدول الكافرة المعادية, التي لا تقيم لله دينا, أي حكما وطاعة في قوانينها, وفي نفس الوقت تبدأ بقتال الدول المسلمة. ولا يعني أن يقاتَل الأفراد الكافرون المسالمون بسبب عدم إسلامهم, فلا إكراه في الدين لهم؛ وإلا فكيف يكون مواطن كافر في دولة مؤمنة؛ حرا في اختيار دينه, ثم هو يهدَّد بالمقاتلة على كفره وهو مسالم؟ إنما الدولة الكافرة التي تقيم حكما غير حكم الله, وتتربص بالعداء للدولة المسلمة وتبدأ بقتالها, فهي التي يجب قتالها على كفرها وعدائها, وهي التي تكون بها الفتنة. ولمثل تلك الأحوال أُمر صلّى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, أي يعترفوا بأن الحكم والخضوع والطاعة في قوانين دولهم لله, على الأقل في هذه الأمور الثلاثة (حتى يقيموا صلاتنا, ويستقبلوا قبلتنا ويذبحوا ذبيحتنا), أي حتى يسمحوا بإقامة الصلاة واستقبال القبلة والذبائح طبقا الشريعة, أي حتى يسمحوا بحرية ممارسة الشعائر الدينية للمسلمين, فإن فعلوا ذلك عصموا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله, والله أعلم.
(ومثال دولة ملوك الكاثوليك في إسبانيا واضح في منع المسلمين من ممارسة شعائرهم, والتفتيش عليهم للتأكد من ذلك, حتى فيما يخص ختان الذكور من أبناء المسلمين كما هو ثابت في تاريخهم). ويؤيد ذلك – والله أعلم – ما جاء بآخر سورة الأنفال من أنه لا يجب نصرة الذين آمنوا ولم يهاجروا من دولة كافرة إن كان بيننا وبين تلك الدولة ميثاق (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق), ووجود الميثاق بين دولة مسلمة ودولة كافرة يمنع الاعتداء, ويكون بذلك سبب مقاتلة الناس هو اعتداؤهم علينا. أما لو كان بيننا وبينهم ميثاق فلا يعتدون ولا نعتدي, فلا مقاتلة لهم حتى لو استنصرنا في الدين الذين آمنوا من المقيمين في تلك الدولة.
والأمر بالمقاتلة (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله), لا أفهم منه أنه أمر بمقاتلة أفراد مشركين أو كافرين في مجتمع مسلم, ولا في مجتمع غير مسلم, ولكنه مقاتلة لدولة محكومة بغير دين الله, وهي في نفس الوقت معادية للمسلمين أفرادا وحكومات, هنا تكون مقاتلتها موضوعية بل فريضة على دولة المسلمين بعد بناء قوتها العظمى, وذلك لردع الدولة المعتدية وإنهاء اعتداءاتها, وبعد ذلك فلا إكراه في الدين للأفراد, ويكون الدين كله أي الحكم في الدولة كله لله, أي لشريعة الله, ولأمر الله, أيا كان الحاكم حينئذ, والله أعلم.
وفي سورة البقرة سبق ذكر (ويكون الدين لله) وهنا في الأنفال (ويكون الدين كله لله).
ومن دراسة سورة البقرة, (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونهم ولا تعتدوا, إنه لا يحب المعتدين* واقتلوهم حيث ثقفتموهم, وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) فهو قتال دفاعا عن النفس, ضد من يقاتلوننا وأخرجونا من ديارنا, حتى يكون الدين في ديارنا وبلادنا لله.
أما في سورة الأنفال, فإن القتال هنا, ليحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين, وفيها الدعوة للولايات المتحدة الإيمانية, (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وهنا يكون الدين كله, في العالم كله, لله. أي أنها دعوة لإقامة دين الله في كل الدول كشريعة حاكمة يخضع لها الجميع في كل الدول, ولا تقتصر على دولة المسلمين. يحدث هذا بعد بناء القوة الذاتية الإسلامية في دول الإسلام, وتجمعهم على الحق في ولاية تقابل ولاية الذين كفروا, فينقسم العالم إلى فئة تقاتل في سبيل الله, وأخرى كافرة, ثم تكون هناك دول بيننا وبينهم ميثاق, لا تمنع رعاياها من المسلمين من إقامة صلاتهم واستقبال قبلتهم, وذبح ذبيحتهم. والله أعلم.
الله يوزّع الغنائم:
فيما سبق من آيات من أول السورة تحكّم الله في سلوك الذين آمنوا ورباهم على الطاعة وأخلص نياتهم وتوجهاتهم وأهداف قتالهم, وجعلهم في طاعتهم له جلّ وعلا وقّافين عند حكمه سبحانه, فإن تحققت أنفال فإن الله ينفلها لهم, أي يعطيها لهم من غير أن تكون حقا واجبا لهم, فتكون لهم غنائم. ولا تكون الغنائم هدفا للقتال, وإنما هي ثمرة من ثماره, لا يستهدفها الذين آمنوا, حيث إنه لو تحققت هداية الذين كفروا فانتهوا عن عداوتهم, وصدهم عن سبيل الله قبل أن يتمكن منهم الذين آمنوا ويقدرون عليهم, فإن الذين آمنوا لا يسعون لنزع الغنائم منهم. لذا؛ فإن الله يعلن للذين آمنوا أن الغنائم لله يقضي فيها ما يشاء, ويوزعها على من يشاء, وينفذ ذلك رسول الله حاضرا في حياته, وحاضرا بسنته بعد وفاته بأبي هو وأمي صلّى الله عليه وسلم, ويتولى إمام المسلمين التنفيذ طبقا لشريعة الله وسنة رسوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
فإذا وزع القائد جزءا من الأنفال التي هي عطية غير واجبة, وهي لله وللرسول, فإن ما ينال الواحد من المقاتلين هو غنيمة له, وكان أبو عبيد يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكة عَنْوَةً ومنّ على أهلها فردّها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها عليهم فَيْئاً. ورأى بعض الناس أن هذا جائز للأئمة بعده.(القرطبي)
وقيل: المراد بها أنفال السرايا أي غنائمها، إن شاء خمّسها الإمام، وإن شاء نفّلها كلها.
يؤكد الله ويذكّر بفضله ومنته على المؤمنين فهو وحده الذي رتب وقدّر كل الظروف الطبيعية والنفسية لكل الأطراف المتقاتلة, والمواعيد ليحقق مراده جلّ وعلا: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)