بعد تأسيس الحكومة التنفيذية في سورة البقرة, وتأهيل المسئولين العموميين على كل المستويات, للتعرض للعمل العام بإخلاص, واستعداد كل منهم للتضحية يريدون وجه لله, مهما حدث لهم من إصابات حتى القتل في سبيل الله, أو الابتلاء بشيء من الخوف والجوع, وبعد ضبط العلاقات الاجتماعية ومراعاة الفئات الأوْلى بالرعاية في المجتمع, والعلاقات الاقتصادية والمعاملات المالية, والعلاقات الدولية, بالدعوة للدخول في السلم كافة, ووضع قواعد القتال في سبيل الله, للدفاع عن النفس والأرض ثم ليكون الدين لله, بعد كل تلك الخطوات, فإنه من المتوقع أن تحقق الأمة انتصارات ونجاحات عظيمة, لذا كانت آخر كلمات سورة البقرة (فانصرنا على القوم الكافرين).
.. وبعد النجاح المحلي أو الداخلي في الدولة, والانتصار على القوم الكافرين بالنظام وبالكتاب الذي جعله الله دستورا للدولة, فإن هناك احتمالات للتغيير, إما لتحقيق مزيد من الانتصارات والنجاح والارتفاع, وإما لخلافات وشقاق وانهيار وهزيمة. والمحافظة على الانتصار أصعب من تحقيقه, وأصعب منهما تحقيق المزيد من الانتصارات. وتأتي سورة الأنفال, لتحافظ على الانتصار, وتزيل الأسباب الداخلية للهزيمة (..فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ…)(1) ولتستثمر الانتصار والنجاح؛ فتبني تحالفات وولايات بين الدول التي يحكمها شريعة الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73))
تبدأ سورة الأنفال بمعالجة أسباب الفشل أولا, حيث أن كل نجاح يحمل معه بذور الفشل والانهيار؛ بما ينشأ من أسباب الشقاق في الجبهة الداخلية للمجتمع, حيث يحاول كل طرف أن ينسب النجاح لنفسه, ويعظّم من دوره ويقلل من الأدوار الأخرى؛ كما يحاول كل طرف أن يستفيد لنفسه من نتائج النجاح والانتصار؛ فيتدخل الشيطان وأعوانه الذين لا يسعدهم انتصار المؤمنين, فيعملون على إفساد ذات البين في الجبهة الداخلية للأمة, وزرع بذور الشقاق والفرقة, والاختلاف على توزيع نتائج الانتصار, فيتم توزيعها حسب من بيده القوة والسلطة عندئذ, ولا يكون بالحق, سواء كانت هذه الغنائم مادية أو سياسية أو دعائية, أو غير ذلك من الغنائم المتحققة مع الانتصار.
كما أنه لابد من وجود أخطاء قد حدثت؛ والانتصار يُنسي الناس تلك الأخطاء, فلا يبحثون فيها بعد أن تحقق النصر. يظهر ذلك بجلاء, خاصة في الانتصارات العسكرية على أعداء خارجيين, كما يظهر عند تحقيق نجاحات اقتصادية أو سياسية حتى في المؤسسات والشركات, وكسب القضايا, وعند توزيع ميراث بين ورثة, بل قل عند كل نجاح, فستجد من يدّعي أنه السبب في تحقيقه, حتى من دعا الله لك بالنجاح, فإن حدثت هزيمة؛ فإن كل طرف يلقي باللائمة على غيره. وهذا السلوك يؤدي إلى طمس الحقائق, وعدم تقييم الموقف موضوعيا, وعدم بحث الأسباب الحقيقية للنصر أو للهزيمة, فإذا تم تلافي أسباب الانهيار, وأمكن استثمار الانتصارات والنجاحات في تحقيق المزيد منها, فإن النصر سيزيد وشأن الأمة سيرتفع.
وتبدأ سورة الأنفال في تحديد من هو المسبب للنصر, هل هو الجندي الذي أطلق النار فأصاب الهدف, أم سائق الطائرة أو الدبابة أو الشاحنة؟ أم هو القائد العسكري الذي خطط للمعركة, أم هو المسئول عن إطعام الجنود وإقامتهم وعلاجهم؟ أم الذي جهز الأموال اللازمة للحرب, أم الذي اشترى السلاح والذخيرة؟ أم الأمهات اللاتي ربّت أبناءها على الإيمان والإقدام والجهاد والتضحية لله؟ أم الواعظ الذي ألقى في قلوب الناس حب الجهاد والقتال والشهادة في سبيل الله؟ أم السياسي الذي جمع للمعركة التأييد اللازم؟
أم أن هناك أدوارا أخرى لا نراها؟
.. فمن الذي وفر الماء الذي يشربه المحاربون؟ ومن الذي وفّر الهواء النقي الذي يهلك الناس بمنعه؟ ومن الذي هيأ الطبيعة من الشمس والقمر واتجاه الريح والضباب لتناصر المنتصرين؟ ومن الذي يؤثر في نفسية العدو فتهتز يده ويرتعد جنوده وتفشل قيادته؟
من الذي حقق النصر في النهاية؟
.. إنه الله وحده لا شريك له..
وبناء على ذلك, فإن ما يتخلف بعد الانتصار مما تركه العدو من مال وعتاد هو لله جلّ وعلا الذي يستحوذ عليها ويسميها الأنفال أي العطية غير الواجبة, فلا يجعلها هدفا للقتال, ولا يدع فيها مجالا للفُرقة والخلاف, (.. قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ..).
ولمزيد من القوة والعلو بالحق, تصل سورة الأنفال في نهايتها إلى وضع أسس التحالفات الاستراتيجية بين الأمم المؤمنة؛ والموالاة بينها لإنشاء الولايات المتحدة الإيمانية, (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)), وذلك أمام تحالف الذين كفروا الذي يزدادون به قوة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) فإن لم يتحالف الذين آمنوا كما تحالف الذين كفروا, تكن فتنة في الأرض وفساد كبير..
ويضع الله أهداف القتال في سبيله, فهي ليست للسيطرة والنهب لمقدرات وثروات الذين كفروا, وإنما القتال لكسر شوكة وقوة الشر المحارب المتربص للحق, لإحقاق الحق وإبطال الباطل: (.. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
والهدف الأسمى هو معاونة الذين كفروا على الوصول إلى طريق الحق, وترك طريق الباطل, فإن لم يتحقق هذا الهدف, فليكفوا أيديهم عن المؤمنين فلا يقاتلوهم. فإن لم يكفّوا, فالقتال إلى نصر الله. وفي كل مرحلة من مراحل الصراع يعرض الله على الذين كفروا التراجع عن العداوة, (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) ويأمر الذين آمنوا بعدم الاستمرار في القتال عند أول بادرة من تراجع الذين كفروا, (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) … حتى لو كان تراجعا ظاهرا يحتمل المخادعة والمكيدة والخيانة. (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ..) وحتى بعد انتهاء المعركة وتحقيق النصر, وأسر بعض من جنود الذين كفروا, فإن الفرصة أمامهم مازالت قائمة للتراجع: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71))
وفي حالة الانتهاء عن العداوة والانصراف عن الاعتداء, تحفظ للكافرين حقوقهم كمواطنين. فالكفر وحده ليس سببا لمقاتلتهم, ولكن إن تحول الكفر من عقيدة في قلوب الكافرين تمنعهم عن الاستجابة لدعوة الحق, إلى دولة ظالمة, واعتداء واستيلاء وتحكم في خلق الله وصد عن سبيله, فإن الله يأمر الذين آمنوا بالتصدي له, وردعه.
………. وإلى تفاصيل السورة…