وبعد تأكيدات الله بتدخله سبحانه في المعركة وترتيباتها ومواعيدها, فليس هناك للذين آمنوا من حجة في الفرار أو التخاذل, وكل المطلوب هو تنفيذ أوامر الله:
- الثبات عند اللقاء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا..) ومن الدعاء في القرآن: (ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)
- الذكر: (.. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)) وهذا سلاح في يد المؤمن, ولا يكون إلا للمؤمن, كما قال الله (ولا تهنوا في ابتغاء القوم, إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون, وترجون من الله ما لا يرجون)
- الطاعة (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ…) وإن كانت الطاعة واجبة في كل وقت وحين, وفي كل الظروف, فربما يتناسى المقاتلون طاعة الله, فيتجاوزون ويطغون, ولكن المؤمن مقيد بطاعة الله ورسوله, فهو يقاتل طاعة, ويسالم طاعة, كما يأكل طاعة ويصوم طاعة, وينام طاعة ويقوم طاعة, ولا مجال لهوى النفس عند المؤمن, منذ أن أسلم نفسه لله, فإنه يدع الله يقوده. المؤمن متّبع, كل ما عليه أنه يبحث في كتاب الله وسنة رسوله ماذا يفعل الآن في هذا الظرف أو ذاك, ولابد أنه واجد في كتاب الله وسنة رسوله مثلا لكل شيء (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) ويمتثل بذلك علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه حين ينازل كافرا فيتمكن منه ثم يتراجع فجأة عن قتله, فيسأل لماذا لم يقتله فيقول: (بصق في وجهي فخشيت ألا تكون في سبيل الله) فإن لم يتأكد تماما أن القتلة في سبيل الله, فلا يقتل, ولئن يدع عدوه يفلت من بين يديه أهون عليه من أن يعمل عملا ليس خالصا لوجه الله.
- عدم التنازع: قد تختلف وجهات النظر حتى في الطاعة مثل الاختلاف على الأولويات والرؤى, ولو بلغ الأمر حد التنازع, فإنه يكون مدخلا خطيرا للفشل وذهاب القوة وبالتالي الانهزام؛ فيحذّر الله من ذلك(وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..).
- الصبر:فقد تطول المعركة, وتتغير مساراتها بين كرّ وفرّ, وقد ينفذ صبر البعض, فيكون ذلك سببا في الانهزام أيضا, فيحذّر الله منه(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46).
- صدق النية لله: وقد تختلف النوايا في الخروج للقتال, مثل تحقيق المجد الشخصي للقائد, أو الاستيلاء على ثروات ومقدرات الشعوب, أو الاستعراض بالقوة, أو الصدّ عن سبيل الله, فيحذّر الله المؤمنين من ذلك, فالأعمال بالنيات, ولكل امرئ ما نوى, ولابد للمؤمنين من إخلاص النية لله, والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
فإن صدقت نوايا الذين آمنوا, وخلصت توجهاتهم, وأطاعوا الله ورسوله, وثبتوا وصبروا وحققوا كل ما أمر الله به مما سبق, فإنهم يكونون بمثابة جند الله الغالبين, وقدَر الله الذي يحقق سبحانه بهم إرادته أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين, وقدر الله الذي يتم به نوره ولو كره الكافرون, ويحقق إرادته التي من أجلها أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون, ويحقق سبحانه بهم أمره حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله, والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن هذا هو ما حدث للمسلمين منذ بداية العهد المدني, لقد تحولوا بكتاب الله إلى قوة عظمى في العالم, بعد أن كانوا قبائل متناحرة لا ذكر لها في التاريخ, وهزموا جيوش الباطل من الفرس والروم, واستمروا في تحقيق مراد الله ليكون الدين والولاء والحكم كله لله في كل الأرض المعمورة وقتئذ, وانتشروا بدين الله حتى بعد وفاة رسوله صلّى الله عليه وسلم. ولم ينهزموا إلا بعد وقوعهم فيما نهى الله عنه (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم), ومنهم من خالف ذلك وخرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معالجة أخرى للمقاتلين من الكافرين والمنافقين:
في المرحلة الأولى من المواجهة قبل المسلحة, يتدرج القرآن من (وإذا تتلى عليهم آياتنا), حتى يصل إلى المقاتلة, وفي كل مرحلة يفسح مجالا للذين كفروا للانتهاء من عدوانهم, يقابله مغفرة من الذين آمنوا.
فإذا ما وقعت المعارك فيلاحظ اختلاف الأسلوب إلى الإنذار والوعيد للذين كفروا, وبيان دوافعهم؛ فالمقاتلون من الكافرين زين لهم الشيطان أعمالهم, ووعدهم بالمناصرة والغلبة, ثم نكص على عقبيه: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
أما المنافقون وضعفاء القلوب والنفوس, فلهم دور أخر من التيئيس وبث روح الانهزام في المؤمنين, ولكن التوكل على الله يحمي من شرورهم(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
وحين تأتي آيات الله الكبرى, فلا يتعظ بها بعض الناس, بل يكذب بها, فيأخذهم الله بذنوبهم, كدأب آل فرعون والذين من قبلهم (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
إن آل فرعون يمثلون قمة الطغيان والكفر والتكذيب في التاريخ, فقد كفر فرعون وعلا في الأرض وجعل أهلها شيعا, يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم, بل لقد ادعى الإلوهية وقال للناس أنه ربهم الأعلى. كما كان هو وآله قمة التكذيب بآيات ربهم, حيث جاءتهم تسع آيات على يد موسى عليه السلام, حتى طلبوا منه أن يدعو لهم ربه ليكشف عنهم الرجز, ثم كذبوا فأغرقهم الله في اليم, وكل كافر بآيات الله, وكل مكذب بها, يكون مصيره كدأب آل فرعون, والذين من قبلهم.
لقد كان فرعون وآله يمثلون دولة كاملة من الكفر والتكذيب, ففرعون رأس الدولة, وملؤه وآله هم المصيطرون على الدولة سلطانا ودينا وعلما, وعلى رأسهم هامان وقارون, فلم يسمح في حياته لأية حريات دينية, وتوعد بالتقتيل والتعذيب لكل من خالفه, فغير الله النعمة التي كانوا فيها من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم, بعد ما غيروا ما بأنفسهم, فأهلكهم الله بذنوبهم.
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)) ولو زاد الذين كفروا على كفرهم نقض العهد في كل مرة, وعدم التقوى, فإن على المؤمنين أن يواجهوهم بغاية الشدة التي تجعلهم عبرة لمن خلفهم (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
- وقد لا يحدث شيء ظاهر من الكافرين, ولكن يستشعر المؤمنون ببوادر خيانة منهم, أو يخافون من احتمال حدوثها, عندئذ وجب على المؤمنين أن ينبذوا إليهم عهدهم على سواء (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58))
- وفي كل الأحوال فإن الله يأمر المؤمنين بإعداد ما استطاعوا من قوة لترهيب أعدائهم وينفقوا في سبيل الله لتحقيق ذلك(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
- وعند أول بادرة للسلم تبدر من العدو المقاتل, فإن المؤمنين يستجيبون, حقنا للدماء وإتاحة الفرصة للتفاهم والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
- حتى لو كانت هناك احتمالات للخداع (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ..) والتاريخ يذكّر بذلك, وقد كان من المستحيل على القبائل المتناحرة على أتفه الأسباب أن تتآلف قلوبها إلا بإذن الله (..هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
- وفي هذه الحالة من خداع العدو, فإن الله كافيك وكاف من اتبعك من المؤمنين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
- ورغم أن النصر من عند الله, فإنه سبحانه يأمرنا بأداء ما نستطيع, وهو يجبر ما بنا من ضعف, فالمؤمنون هم من قدر الله الذي ينصر به دينه, ويؤدب به المعتدين, ويعينهم على ما كلفهم به (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
- أثناء العمليات لا يحرص جيش المسلمين على زيادة أعداد الأسري, ولكن يثخن في الأرض القتل (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
- ثم تكون الغنيمة بعد ذلك حلالا طيبا, مصحوبة بتقوى الله ومغفرته (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
معاملة الأسرى:
التعامل مع الأسرى أساسه هدايتهم ودعوتهم للخير, وقبول استعدادهم له, حتى ولو كانت فيه خدعة, وتفهيمهم أن ما هم فيه من الأسر هو بسبب خيانتهم لله من قبل, فلو خانوا المسلمين فسوف يعرضون أنفسهم للمزيد من عقاب الله, وعلى الجانب الآخر, فإننا نبلغهم قول الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)