الولاء والبراء في العلاقات الدولية
على أسس القرآن المكي, قامت دولة الإسلام في المدينة المنورة.
فكانت سورة البقرة ممثلة للحكومة التنفيذية؛ مشروعيتها ومسئولياتها وأولوياتها, وتشريعاتها, وأمنها الداخلي, ليكون الدين لله, وكانت سورة الأنفال أساسا للولايات المتحدة الإيمانية وتحالف المؤمنين والمؤمنات حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله, وكانت سورة آل عمران استعدادا ليوم يحكم دين الله العالمين على يد نبي الله عيسى عليه السلام, وخطة العمل للتقريب بين كل طوائف الناس على كلمة سواء. وفي سورة الأحزاب يؤهل الله المؤمنين ليكون دين قلوبهم لله, لا تتنازعها رغبات شخصية ولا عصبيات قبلية, ولا تتزلزل بحوادث الدنيا, وما تزيدها إلا إيمانا وتسليما.
وهنا في سورة الممتحنة, يهدي الله دولة المسلمين وأفرادها لكي تتقيد معاملاتها الدولية بدينها, فلا تتخذ عدو الله وعدوها أولياء, ولا تلقي إليهم بالمودة, ظاهرا وباطنا, فيكون الله ورسوله وجهاد في سبيله أحب إليها من علاقات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية, ومن علاقات عائلية أو قبلية, أو مصالح مادية, مع قمة العدالة حيث حكم الله يحكم بين المؤمنين وبين أعداء الله حفاظا على حقوق كل فريق.
وبذلك تكتمل منظومة دين الله الذي يتحكم في قلوب عباده ودولتهم ومصالحهم ويضرب الله بهم المثل في أن يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما, على المستوى الشخصي لكل فرد, وعلى مستوى العلاقات الدولية أيضا, ليكون الدين والولاء كله لله.
في سورة الأحزاب, يربي الله قلوب عباده المؤمنين على التسليم التام له سبحانه, بحيث يكون دين القلوب لله, يتحكم فيها كيف يشاء, ويتنازل المؤمن عن هوى قلبه ورغباته في علاقاته مع أبنائه وأزواجه, وفي ثبات قلبه عند زلزلة الأحداث الجسام, وأمام رغباته في النساء, وأمام غضبه وانفعالاته, فلا ينفلت قلب المؤمن وسلوكه أمام كل ذلك, بل هو محكوم لله, وكما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)
.. وقد يكون للمؤمن أقارب وأرحام من الذين كفروا, فتتنازعه رغبات نفسه, وميل قلبه, وقد تختلط في قلبه العواطف بين عقيدته وبين قلبه, من عصبيات الجاهلية, مثل التعصب للبيت, أو للعشيرة , أو للقوم, أو للجنس, أو للأرض ، كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب, من الحرص والشح وحب الخير للذات, والمصالح المادية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية, ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور, فيسقط الله بالولاء له وحده لا شريك له كل فوارق النسب واللون والوطن، فلا يكون أساس الولاء والبراء إلا الإسلام, وتذوب عصبيات الجاهلية كلها , فيبرأ منها المؤمنون ويحسم الله أمرهم فينهاهم عن أن يتخذوا عدوه وعدوهم أولياء, مهما كانت المودة معهم, ويحذرنا من أن نفعل هذا ظاهرا أو باطنا, فنضل سواء السبيل, فلا تنفعنا أرحامنا ولا أولادنا يوم القيامة, وبهذا نزلت سورة الممتحنة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
والباء في (بالمودّة) لا تلقون إليهم بأسرار المسلمين بسبب المودّة التي بينكم وبينهم
والسورة أصلٌ في النَّهْيِ عن مولاة الكفار
ومناسبة نزول هذه السورة أنه لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، أمر النبي صلى الله عليه وسلّم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال «اللهم عم عليهم خبرنا» فعمد حاطب بن أبي بلتعة من الصحابة, وممن شهدوا بدرا, فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يداً فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه، فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها، واعترف حاطب بذنبه وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصداقيته وتوبته ورجعته ومنع عمر بن الخطاب والناس من أن يقولوا له شيئا أو يعاقبوه حيث اطلع الله على من شهد بدرا فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم, كما روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاءت عداوة الله أولا ثم عداوة المؤمنين, لأن عداوة الله يستتبعها عداوة المؤمنين بالضرورة, حتى لو لم تظهر في البداية, ومن جهتهم, فإن المؤمنين عليهم أن يتخذوا عدو الله عدوا لهم بالضرورة. وفي الناحية الأخرى, فإن عداوة المؤمنين لا تستوجب عداوة الله بالضرورة, فربما تحدث معاداة بين المؤمنين بعضهم البعض.
إن الذين يخرجون الرسول ويخرجون المؤمنين من ديارهم هم أعداء خارجيون, هم دولة أخرى, حيث لا سلطان لأحد في أن يخرج أحدا من داره إلا أن يكون سلطان دولة في الوقت الراهن, حتى لو حدث وأخرج أحد أحدا من داره في نفس الدولة, فإن هذا يكون خاضعا للقانون.
إن المسألة تنطبق على العلاقات الشخصية, كما تنطبق على العلاقات الدولية.
وبصفة عامة, فإن من ثبتت عداوته لله وللمؤمنين, فلا ولاء له ولا مودة, مهما كانت له علاقات وصلات من قرابة ورحم ونسب ومودّة, ومهما كانت معه من روابط مادية أو معنوية.
فعدو الله وعدونا كفروا بما جاءنا من الحق, ولو تمكنوا منا فستظهر عداوتهم ويبسطون إلينا أيديهم وألسنتهم بالسوء, وودوا لو تكفرون.
ولو بدا للمؤمنين منفعة دنيوية من ولاية ومودة عدو الله, فإن هذا لن ينفع يوم القيامة, حيث يفصل بيننا الله البصير بما نعمل.
إن الله يضع هنا قواعد الولاية والمودة, والأسس التي يجب أن تبنى عليها, والعلاقات التي لا ينبغي أن تؤثر فيها. فالمحبة القلبية, والود في المعاملات, والقرابة بالأرحام والنسب, والعلاقات النفعية, لا ينبغي أن يكون أساسا للمودة والولاية إن كانت مع أعداء الله, فكل ذلك محكوم بإسلام المؤمنين لربهم الأعلى الواحد الأحد.
إن محبة الله وطاعته مبدّاة عن أية علاقات أو مصالح. والمسلم حين يسلم وجهه لله, فهو يسلم قلبه ويده وكل جوارحه لله, وبالتالي تصدر كل أفعاله وأقواله وسلوكياته لله رب العالمين.
وفي آية ثانية: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)(المجادلة 2) وفي آية ثالثة (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وإزواجكم وعشيرتكم, وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة 24)
وعدو الله هنا له صفة, أنه يتآمر على الذين آمنوا, ويسعى لضررهم, والسوء لهم, بيده ولسانه, ولكنه ينتظر لحظة الانقضاض والتمكن حتى ينفذ عداوته وخططه.
ينطبق هذا على العلاقات الشخصية مع من يعادي الله والذين آمنوا, كما ينطبق على العلاقات مع الدول التي تمثل عداوة لله وللذين آمنوا, فتسعى لإخراج الذين آمنوا من ديارهم, والتمكن منهم بالسوء- كما في دولة إسرائيل- بسبب إيمانهم بالله وخروجهم في سبيله وابتغاء مرضاته.
كما ينطبق على دولة تخرج الذين آمنوا بسبب دينهم, وتعاديهم, حتى لو لم تعادي المؤمن شخصيا, فمعاداتها للذين آمنوا بسبب دينهم, فيها معاداة لكل شخص من المؤمنين, معاداة للإيمان نفسه, وهو ما يستوجب عدم الولاء لها, وعدم إقامة المودة معها.
إن في ذلك دعوة لاتخاذ موقف عدائي مع أعداء الله وأعداء الذين آمنوا.
ويحذر الله من شرورهم, بأنهم يخططون للسوء, وودوا لو تكفرون, ومن يواليهم من المؤمنين فقد ضل سواء السبيل.
إن الله ينهانا عن المودة الظاهرة, وعن المودة السرية, (تلقون إليهم بالمودة) , (تسرون إليهم بالمودة) في آية واحدة, وهذه مسألة لا يطلع عليها إلا الله رب العالمين, وهو ما يتحسب له المؤمن بالله الأعلم بما أخفينا وما أعلنا.
(أن تؤمنوا بالله ربكم) أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين (ابن كثير)
ولو أن العداوة مع الذين آمنوا, كلهم أو بعضهم ليست بسبب الإيمان نفسه, كأن تكون بسبب تصرفات أو سلوكيات بعض الذين آمنوا أو معاملات مما لا يدخل في معاداة دين الله فلا ينطبق عليها هذا (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي..) فهي ليست عصبية قبلية, ولكنها ولاء لله ولدينه وللجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته.
ولعل المثال الواضح في الوقت الراهن يكون في العلاقات مع دولة إسرائيل أو مع الإسرائيليين الموافقين على تصرفاتها, فقد نجد بعض الناس في دولنا الإسلامية يتعاملون مع شركات إسرائيلية, أو بضائع واردة من إسرائيل, أو يتزوجون من إسرائيليات, أو يتعاملون بشكل أو بآخر مع دولة إسرائيل, في الوقت الذي تعادي فيه إسرائيل الفلسطينيين, المسلمين أو المسيحيين, وتقاتلهم وتخرجهم من ديارهم, بسبب أنهم ليسوا يهودا, فهي معاداة بسبب العقيدة, حيث لا تفعل إسرائيل ذلك مع مواطن يهودي, أو مع كافر أو مشرك.
ومن يتزوج من إسرائيليات بسبب مودة أو حب أو مصالح مرجوة, فليحذر من المستقبل (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) و من يفعل ذلك فقد ضل سواء السبيل. ويثقفوكم بمعنى يتمكنوا منكم أو يدركوكم ويظفروا بكم.
إن المؤمن حين يسلم وجهه لله, فهو يسلم قلبه ووده ومشاعره ومصالحه وعلاقات رحمه ونسبه بل وأولاده وأزواجه لله رب العالمين, ويوكل الله في كل ذلك, فلا يفعل شيئا دون أن يكون مرضيا لله موافقا لأوامره, متجنبا نواهيه.
كما أن الدولة المؤمنة أيضا تبني علاقاتها على هدى من الله ورسوله وكتابه ودينه وشريعته, ولا تبنيها على ما قد يتراءى من مصالح في الدنيا, فلن تنفعها يوم القيامة حيث يفصل الله بيننا, والله بما تعملون بصير.
إن المؤمن يبني ولاءه لبعض الناس وبراءته من بعضهم على أساس من هدي الله ودينه وكتابه وأوامره, وليس على أساس توجه قلبه وهواه ومودته ورحمه ونسبه ومنافعه الظاهرة في الدنيا, وليس على أساس الضغوط الدولية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية, فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله , مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله , وهو عدو الله وعدو رسول الله !
لقد أدرك هذا المعنى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنجد أبا بكر, حين يقول له ابنه أنه أثناء القتال – (قبل إسلامه) – كان يمكنه أن يقتله, ولكنه امتنع عن ذلك, فيقول له أبو بكر رضي الله عنه: (ولو تمكنت منك لقتلتك), كما نجد عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يتوعد أباه رأس النفاق بمنعه من دخول المدينة, حين قال أبوه (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) يقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
ولنا في إبراهيم عليه السلام والذين معه, أسوة حسنة في الموقف المشابه, حيث تبرأوا من قومهم لما وجدوا منهم عداوة لله.
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر,
فالتأسي هنا في ثلاثة أمور: أولاً: التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله, ثانياً: الكفر بهم. ثالثاً: إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبداً إلى الغاية المذكورة حتى يؤمنوا بالله وحده، وهذا غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبداً، والسبب في ذلك هو الكفر، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم
ويجعل الله لنا أملا لاحتمال أن يجعل بيننا وبين الذين عادينا منهم مودة في المستقبل, بدخول هؤلاء في الإيمان بالله, وتركهم لعداوته, فيتركون عداوة المؤمنين, ويترك المؤمنون عداوتهم لهم: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
وعسى من الله تعالى واجبة الوقوع (البحر المحيط)
وفي التذييل بأن الله قدير، يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده.(النسفي)
وهناك من الكافرين من لا يتخذون مواقف عدائية من المؤمنين, فلا يقاتلوننا في الدين, ولا يخرجوننا من ديارنا. هؤلاء لا ينهانا الله عنهم, بل نبرهم ونقسط إليهم. (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
وذكر القرطبي في تفسيره: قال القاضي أبو بكر في كتاب الأحكام له: «استدل به بعض مَن تُعقد عليه الخناصر على وجوب نفقة الإبن المسلم على أبيه الكافر. وهذه وهلة عظيمة، إذ الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوبه، وإنما يعطيك الإباحة خاصّةً. وقد بيّنا أن إسماعيل بن إسحاق القاضي دخل عليه ذِمِّي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك؛ فتلا هذه الآية عليهم».
{لا يَنْهَـﯩـٰكُمُ ٱللَّهُ} وقيل: فيمن لم يقاتل، ولا أخرج ولا أظهر سوأ من كفار قريش, ومنهم مثلا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم النساء والصبيان من الكفرة. والمستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة. (النسفي)
وقيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّها نفيلة بنت عبد العزى، وهي مشركة، بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول، فنزلت الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تدخلها منزلها وتقبل منها وتكفيها وتحسن إليها.
أما أولئك الذين يقاتلوننا في الدين ويظهرون عداوة ويظاهرون على إخراجنا من ديارنا, فإن الله ينهانا عنهم, ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون. (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
وفي شأن الذين يحتمل تحولهم ضدنا, فإن من يسر إليهم بالمودة قال الله (فقد ضل سواء السبيل), أما في شأن الذين يقاتلوننا في الدين, فقد قال(ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
إن الله لا يضره هؤلاء الأعداء, وهو القاهر فوق عباده, فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلكهم ومن في الأرض جميعا, وإنما الضرر يقع علينا نحن المؤمنين إن لم نطع الله في ذلك.
أما بخصوص المؤمنات المهاجرات فرارا بدينهن وأنفسهن من أزواجهن الكفار, فإن على الذين آمنوا أن يمتحنوهن للتعرف على أسباب هجرتهن, وصدق إيمانهن, فإن ثبت ذلك, فلا يرجعوهن إلى الكفار, مع رد ما أنفقوا إليهم, وتنتهي العلاقة الزوجية بين امرأة مؤمنة وبين زوج كافر.
كذلك لو أن مؤمنا استمرت زوجته على الكفر, أو عادت إليه بعد إيمان, فإنه لا يمسك بعصمتها, مع مطالبتها بما أنفق, ورد ما أنفقت أو أهلها إليها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
والعصم جمع عصمة، وهي سبب البقاء في الزوجية
وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـٰتٍ} فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً (ابن كثير)
وكان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم، فجاءت أم كلثوم، وهي بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد، فقالا: يا محمد أوف لنا بشرطنا، فقالت: يا رسول الله حال النساء إلى الضعف، كما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنقض الله العهد في النساء، وأنزل فيهن الآية، وحكم بحكم رضوه كلهم (البحر المحيط)
وفي امتحان المؤمنات المهاجرات, قال ابن عباس: {كان يمتحنهن: بالله ما خرجت من بغض زوج , وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض , وبالله ما خرجت التماس دنيا , وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله} . وقال عكرمة: {يقال لها: ما جاء بك إلا حب الله ورسوله , وما جاء بك عشق رجل منا , ولا فرارا من زوجك}.
وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله , ولا سبيل للبشر إليها: (الله أعلم بإيمانهن) . فإذا ما أقررن هكذا (فلا ترجعوهن إلى الكفار, لا هُنّ حل لهم ولا هم يحلون لهُنّ)..
إن هذا الامتحان سوف يترتب على نتيجته, معاملة هؤلاء المؤمنات المهاجرات, ومعاملة أزواجهن السابقين, وردّ الأموال التي أنفقوها عليهن, حفاظا على حقوق الكافرين المعادين, وعدم استحلال لها بغير حق, ذلكم حكم الله يحكم بينكم, والله عليم حكيم, وحتى لا تضيع على الزوج الكافر زوجته ونفقته عليها, فيكون في ذلك ظلم له, وقد يكون أيضا نوعا من الإكراه له على الإسلام نفاقا وبحثا عن الحفاظ على مصالحه المادية, ولا إكراه في الدين.
إن كلمة (أنفقوا) ومرادفاتها تكررت في الآيتين أربع مرات, وتلاها (ذلكم حكم الله يحكم بينكم, والله عليم حكيم) وأساسها الحفاظ على أموال الأزواج الكافرين, ثم المطالبة بحقوق ونفقة المؤمنين على أزواجهم الكوافر, حتى لو لم تؤده إليه, أو لو لم يؤده المجتمع والدولة الكافرة التي تلجأ إليها الأزواج الكوافر, ولكنه يظل يطالب بحقوقه في مقابل الحفاظ على حقوق الزوج الكافر.
ولو وصلت الدولة متمثلة في أجهزتها واتصالاتها ومعاهداتها مع الدول الأخرى في عقد اتفاقات تنظم تلك العلاقات المتبادلة للحفاظ على حقوق الأزواج الذين يدخل طرف منهم في الإيمان, أو يخرج طرف منهم إلى الكفر, فإن ذلك يكفل العدالة للجميع, ويبعد قضية الاختيار وحرية العقيدة عن التأثر بالقضايا المادية.
وفي ذلك إنصاف لمبدأ العدالة نفسه, والبعد عن الظلم, حتى ولو وقع على الكافر, وفيه إبعاد لاحتمالات أن تغنم امرأة مهاجرة مالا أنفقه عليها زوجها الكافر فتفتح بذلك أبوابا للجدل والخلاف البعيد عن قضية الإيمان.
كما أن فيه ضرب للمثل أمام الكافرين بأن حب الله والإيمان به, وطاعته سبحانه مُبَدّى على العاطفة وعلى العلاقات الزوجية وحب المال والمصالح الدنيوية كلها.
وفيه أيضا ضرب للمثل للكافرين أن حقوقهم المادية محفوظة بحكم الله وشرعه ودينه, وأن المسألة موضوعية في المحافظة على اختيار المرأة المؤمنة لعقيدتها بحرية, دون ضغوط من زوج, ودون استفادة من مال ونفقة.
كما أن في ذلك كفالة المجتمع المؤمن متمثلا في الدولة وفي جماعة المؤمنين لحقوق مادية لزوج كافر, وأداء لحقه في ذمة زوجته التي آمنت فتركته, وقد تكون تصرفت فيما أنفق عليها من مال, أو تود الاحتفاظ به في شكل حلي أو زينة, فلا يطالبها بها المجتمع المؤمن ودولته, بل يؤديها عنها لزوجها الكافر.
إن حكم الله هذا, وهو يحكم بيننا, يدل على أنه صادر من إله لا يكره عباده على الدخول في الإيمان به, بل يكفل حرية العقيدة للجميع, دون إغراء بدنيا, ولا تهديد لها, وكلمة (يحكم بينكم) تعني يحكم بين المؤمنين والكافرين, فإن كان حقا للكافرين أعطاه لهم, وإن كان حقا للمؤمنين أعطاه لهم, وهو سبحانه الواحد الأحد ربّ الجميع وربّ العالمين العليم الحكيم, والحكم العدل جلّ جلاله, سبحانه وتعالى
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
إن الله بهذا, يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم , فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان . فأما حين ينتفي العداء والعدوان فهو البر لمن يستحق البر , وهو القسط في المعاملة والعدل
إن الإسلام دين سلام , وعقيدة حب , ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله , وأن يقيم فيه منهجه , وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين . وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله . فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك ! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة , انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع . ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس , فتتجه هذا الاتجاه المستقيم (الظلال)
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية , بل نظرته الكلية لهذا الوجود , الصادر عن إله واحد , المتجه إلى إله واحد , المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي , من وراء كل اختلاف وتنويع .
وهي أساس شريعته الدولية , التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة , لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده , أو خوف الخيانة بعد المعاهدة , وهي تهديد بالاعتداء ; أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد . وهو كذلك اعتداء . وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ; ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها . فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد , وتحقيق منهج الله في الأرض , وإعلاء كلمة الله .