سورة البقرة ومسئوليات الدولة
تمثّل سورة البقرة الحكومة التنفيذية, بكل خصائصها, بدءا بدستورها, وهو القرآن, وتصنيف مواطنيها طبقا لموقفهم من الدستور, ومشروعية وجودها وتوليها السلطة والمسئولية, وخصائص القائمين عليها ومسئولياتهم, وتربطهم بحبل الله وميثاقه, كما تبين المهام الرئيسة للحكومة التنفيذية من الدفاع والأمن القومي, والخارجية, والحكم المحلي, والأحوال الشخصية, والأحوال المالية والاقتصادية.
والحكومة التنفيذية لها دور بالغ الأهمية في الحياة, لا غنى عنه في سياسة الناس ورعاية مصالحهم, فهي تمثل العمل العام, الذي يتعدى حدود مصلحة صاحبه, إلى مصالح الناس, وتتعدى اهتمامات صاحبه الخاصة, إلى الهم العام للناس, وتظل اهتماماته تتسع لتشمل في النهاية كل الناس في كل مكان وفي كل زمان, بل وتشمل كل المخلوقات على الأرض التي جعل الله آدم وبنيه فيها خلفاء. وتلك مسئولية رسول الله, الذي أرسله الله للناس كافة ورحمة للعالمين, وكل مسلم يشهد ألا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, يتحمل جزءا من تلك المسئولية إلى يوم القيامة.
وإن كانت الحكومات التنفيذية في الدول تمثل قمة العمل العام, إلا أنه أيضا يشمل رؤساء المؤسسات, والمنظمات الأهلية, وإمام المسجد, وواعظ الكنيسة, ورئيس الحي, وضابط الشرطة, والجندي في الجيش, والصحفي, والإعلامي, ورعاة حقوق الإنسان, وحقوق الحيوان والمهتمين بالبيئة, والمجاهدين لحريات بلادهم, والمدافعين عن المبادئ والأخلاقيات وحقوق الضعفاء والأقليات, وكل العاملين بالسياسة والعمل الحزبي والمجالس النيابية.
ويشمل العمل العام الحفاظ على النظام العام, وسن القوانين وتنفيذها, والمحافظة عليها, وتخطيط المستقبل, والعلاقات الخارجية للدول, والقضاء بين الناس. والتعليم والصحة والبيئة, والدفاع والأمن القومي, كما يشمل فروض الكفايات التي لا يقوم بها إلا بعض الناس.
وأمر خطير مثل العمل العام لا يمكن أن يغفله القرآن الكريم.
روى القرطبي في تفسير سورة البقرة (بَعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بَعْثاً وهم ذوو عدد وقدّم عليهم أحدثَهم سِنَّا لحفظه سورة البقرة، وقال له: «اذهب فأنت أميرهم») , وهذا الحديث يؤكد أن سورة البقرة هي قواعد الحكومة التنفيذية, وهي ميثاق العمل العام, ومن يتعلمها فهو أمير الناس. وقد تعلّمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة. فتحولت الدولة الإسلامية على عهده إلى دولة حديثة لم يشهد التاريخ مثلها من قبل, وتحول بها عمر رضي الله عنه إلى رجل دولة من الطراز الأول, بعد أن كان في الجاهلية يصنع صنما من العجوة فإذا جاع أكله… اللهم اهدنا كما هديته.
كما روى عنه أنه قال: «إن لكل شيء سَناماً وإن سَنام القرآن سورة البقرة» والسنام هو قمة الجمل, وهو مخزن الغذاء, وهو موضع حمل الراكب, والأحمال التي يحملها, وكذلك المسئول العام والحكومة التنفيذية فهي سنام الدول وسنام الأمم, وهي التي تحمل هم المواطنين ومسئولية تدبير المعيشة لهم وحملهم إلى حاجاتهم وأهدافهم.
وروي أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة».
وروي عنه أنه قال : يأتي القرآن وأهله الذين يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران”( ) والقائد يقدم قومه. وسورة البقرة تؤهل المسئولين العموميين, وقادة الأمة الإسلامية, ليكون الدين لله في كل دولة, وسورة آل عمران تؤهل وتبني القيادة العالمية للناس أجمعين, ليكون الدين كله لله في كل الأرض, ومزيد من التفاصيل في دراسة سورة آل عمران.
وقمة العمل التنفيذي تتمثل في الجالس على كرسي الحكم في أية دولة.
والمثل الأعلى في كل شيء هو لله سبحانه وتعالى العلي العظيم, ولله المثل الأعلى في المسئولية عن الكون كله, وفي تدبير شئون السماوات والأرض, فتأتي آية الكرسي في سورة البقرة, وهي سيدة آي القرآن, لتبين ذلك: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255))
والعمل التنفيذي يحتاج إلى سلطان, ثم إلى أمثلة عملية تمثل الخبرات اللازمة للعمل, ثم إلى خطوات ومنهاج لتنفيذ المهمات اللازمة, وملخص تلك الخطوات في فاتحة السورة (ألم) فيقيم الله سلطان الكتاب في القلوب (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) ويقيم سلطان الخلافة في الأرض, بدءا من سلطان آدم على الملائكة والجن والأرض كلها, إلى سلطان بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين برسالاته ومسئوليات نقلها إلى الناس, ثم سلطان رسول الله رحمة للعالمين, ثم سلطان المسلمين (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا), وضرب الله الأمثلة لمن ولاهم الخلافة فقصّروا فيها وما رعوها حق رعايتها, وخالفوا وكيف كان مصيرهم, ثم في الخطوة الثالثة, أنزل الله أوامره وبين المهام التي يكلف بها المسئولين الجدد عن الناس.
وكلما بدأ الله بتكليف بدأه بإعلاء سلطانه في القلوب والعقول, ثم بضرب الأمثلة عن ذلك التكليف, ثم ببيان التكليف نفسه. ففي التكليف باتباع ما أنزل الله, بدأ (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) ثم بضرب أمثلة عمن يتخذون من دون الله آلهة, ومن يتبعون خطوات الشيطان, ومن يتبعون آباءهم, ثم أمر بعد ذلك باتباع ما أنزل الله. وفي التكليف بالإنفاق والمعاملات المالية التي قد تعز على الناس قبل أبنائهم وأنفسهم, بدأ الله بآية الكرسي, لإعلاء سلطان الله في القلوب ومسئوليته عن السماوات والأرض (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ثم ضرب الأمثلة بالذي حاج إبراهيم في ربه, وبالذي مر على قرية, وبإبراهيم حين سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى, ثم أمر بعد ذلك بالمهمات الخاصة بالمعاملات المالية. ولمزيد من الإيضاح عن الحروف يمكن مراجعة الموضوع في باب (الحروف النورانية) أو الحروف الفواتح..
ومع سورة البقرة والحكومة التنفيذية, والمسئولية العامة نقرأ باسم الله الرحمان الرحيم..
سورة البقرة ومسئوليات الدولة
المقال السابق