إمام الدولة ودستورها:
والإمام في دولة الإسلام هو (ذلك الكتاب), كتاب الله, تدور به شئون الدولة كلها. وهو أيضا إمام المؤمن الذي يتخذه منهاج حياة, ولا يكتفي بالتبرك بتلاوته دون فهم أو دون تطبيق. وأسوته الحسنة في الحياة بكتاب الله والحركة به, هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم, بما أمره الله سبحانه (لتبين للناس ما نُزِّل إليهم)
بنى الله سبحانه عظمة كتابه في قلوب المؤمنين, حيث سيؤمهم به إلى يوم القيامة, ويستعملهم على تبليغ رسالته للعالمين. إذن لابد أن يكون الكتاب لا ريب فيه, حتى يكون هدى للمتقين، وهذا ما أكدته فاتحة سورة البقرة (ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)
ومن يتتبع آيات الله في السور المكية, خاصة الأخيرة منها, يصل بعقله قبل قلبه, إلى أن (ذلك الكتاب لا ريب فيه), فكل ما أنبأ به ثابت وتراه العين المجردة, في الآيات الكونية, وفي أحوال العباد والأمم, كما يصل إلى الرهبة من الله والخوف منه ومن حسابه يوم القيامة, فيكون من المتقين, ويصل بعقله قبل قلبه إلى أن يكون من (الذين يؤمنون بالغيب), وهذه هي أسس الاهتداء بالكتاب, والاستفادة منه فيكون هدى ورحمة لمن آمن به بلا ريب, وبهذا فُتحت سورة البقرة.
…… ….. ……
الحياة بالقرآن لا تكون إلا بعد إزالة كل ريب فيه
(ألم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ … هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
إن المسئول العام لابد أن يقرّ بثقته في الدستور دون أدنى ريب فيه, ويقسم على ذلك قبل أن يتولى مسئولياته العامة. ويشهد قارئ سورة البقرة من اللحظة الأولى بأن (ذلك الكتاب لا ريب فيه) فإن لم يشهد, فلن ينتفع به, ولن يصلح كشخصية عامة متبعة لذلك الكتاب.
والحكومة التنفيذية التي دستورها وإمامها القرآن, قبل أن تؤدي دورها في سياسة أحوال الناس, لابد أن تصدّق بالدستور, وتعلن ثقتها فيه, وإيمانها به دون ريب في أي جزء منه, سواء في صدق نسبته إلى الله, أو في أمانة الوحي الذي جاء به, أوفي صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي بلّغه للناس, أو في الثقة في كل حرف فيه وكل كلمة وكل معنى وكل حكم, وكل أمر وكل نهي, بأنها كلها من الله سبحانه لا ريب.
رغم أن القرآن هدى للناس, فهو يهدي الضال, ويعلم الجاهل, ويدل الحيران, ويبين آيات الله الكونية, وتاريخ الأمم السابقة, وينير الطريق إلى المستقبل والسبيل إلى الهداية, رغم كل ذلك, فإن أحكامه وقوانينه وشريعته لا يحدث النفع منها إلا بعد إزالة كل ريب في الكتاب, ثم لا يحدث النفع منها إلا للمتقين.
والذي يرتاب في أي شيء من ذلك الكتاب, لا يمكنه الاهتداء بما جاء به, وبالتالي فإنه قد لا يتبع الشريعة والأحكام التي نزلت فيه, ولكن يطلب منه أن يعود فيراجع موقفه من الكتاب, حتى يزيل الريب, بأن يحاول أن يأتي بسورة من مثله, ويدعو شهداءه من دون الله, فإن ثبت لديه أن ذلك الكتاب يستحيل أن يأتي إلا من عند الله, ولا يمكن أن ينزّله إلا الذي يعلم السر في السماوات والأرض, فإنه يثق فيه, ويهتدي به, ويخشى على نفسه من مخالفته, سواء كان يخشى من عدم توفيق الله له في حياته إن خالف أوامره ونواهيه وهديه, أو يخشى من محاسبة الله له يوم القيامة على تركه لما أنزل الله وتفريطه فيه, أو تعطيله لأحكامه. أي أنه يكون من المتقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس), وقال: (دَعْ ما يُريبُك إِلـى ما لا يُرِيبُكَ)
عندئذ, وعندئذ فقط, يصبح الكتاب هدى له, على أن يكون من المتقين, الذين يتقون غضب الله, ويتقون معصية الله, ويتقون سوء الحساب أمام الله يوم القيامة, فيكون الكتاب هدى لمثل هؤلاء, ولا يكون هدى لغيرهم من المرتابين فيه, ولا من الفجار الذين لا يراعون الله في تصرفاتهم, ولا حتى من المؤمنين الذين يكتفون بالإيمان والقناعة بأن هذا الكتاب من عند الله, ولكنهم لا يخشون حساب الله لهم, فيتركون العمل بذلك الكتاب.
………………..
تصنيف المجتمع على أساس العقيدة:
ثم تصنّف الآيات التالية (من 2 إلى 28) من سورة البقرة طوائف المجتمع, ففي مجتمع إمامه ودستوره القرآن, يتم تصنيف طوائفه طبقا لموقفهم من الدستور, مؤيدون مؤمنون به, أو معاكسون متربصون له كافرون به, أو منافقون يؤيدون في الظاهر ويخالفون في الباطن, أو عموم الناس الذين لا يؤيدون ولا يعارضون الدستور, فيتم عرضه عليهم للتصديق والثقة للانضمام للطائفة الأولى, ثم يحذر من نقض عهد الله من بعد ميثاقه, وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض, وذلك فعل الفاسقين الخاسرين..
. فتبدأ بالمتقين, (…هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) الذين آمنوا بالكتاب ولم يرتابوا فيه, فصار هدى لهم, والدولة التي توافقت على تحكيم الله سبحانه في أمورها, تمكّن للذين آمنوا وعملوا الصالحات, ولا تمكّن للمفسدين في الأرض, كما تمكّن للمتقين ولا تمكّن للفُجّار, وذلك كما جاء في سورة ص؛ سورة القيادة (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؟ أم نجعل المتقين كالفُجّار؟). وبالتالي, فإن المسئول عن تدبير الأمور بالقرآن هم المتقون الذين استقروا على الإيمان في قلوبهم, ولم يرتابوا في كتابهم, ويعملون به في كل أمور حياتهم حبا لله, واتقاء لغضبه, وبعدا عن الخطايا الناجمة عن معصيته جلّ وعلا.
ثم تصنّف طائفة الذين كفروا, أي الذين استقر حالهم على الكفر من بعد ما تبين لهم الحق, وأخذوا موقفا بغير رجعة, من الله ومن القرآن, وبالتالي فلا فائدة من دعوتهم بعد أن تبين الرشد من الغي, وتبينت آيات الله الكونية والتاريخية والمستقبلية وهذه حالة نهائية وليست ابتدائية, أي أن الله سبحانه لم يصم الذين كفروا بأنهم لا فائدة فيهم من أول يوم عرض عليهم الإسلام فيه, وإنما بعد مرور ثلاثة عشر عاما بكل ما عرض الله فيها من آيات وحكمة وإثباتات وشواهد عقلية ومنطقية, فمن لم يصدّق بعد كل ذلك, فلا فائدة فيه, , فهم يكفرون, بل ويعادون ويتربصون (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون, ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم, وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم).
ونظرا لتملك الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمتقين زمام الأمور في دولة الإسلام أو مؤسساته, فإن فئة أخرى غير مؤمنة بالله وكتابه, سوف تسعى لإظهار الإيمان اقترابا من السلطة, وهي بذلك أخطر فئة وأخبث جماعة, والله يبين أمرها المختفي لأخذ الحذر منها. وهم المنافقون (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) … (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا, وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون),
ثم يتوجه القرآن بعد ذلك بالدعوة إلى عامة الناس باللحاق بجماعة المتقين ليكون القرآن هدى لهم (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون). كما دعاهم إن كانوا في ريب, أن يعملوا على إزالة هذا الريب أولا, قبل أن يأمرهم بالعبادة (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين)
وتأخذ التقوى بيد أصحابها إلى العمل الصالح كما يرضاه الله, فتنشأ فئة يبشرها الله: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)
صفات المتقين الممارسين للعمل العام:
وللمتقين صفات كثيرة, ولكن الصفات التي تختص بتحقيق الهدى من ذلك الكتاب هي:
.. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
- الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: لابد من توافر هذا الشرط في المتقين. فالله غيب, وجبريل أمين الوحي غيب, وما قصّ الكتاب عن السابقين من أمم غيب, وما أنبأ مما هو آت إلى يوم القيامة غيب, والبعث بعد الموت غيب, والحساب والجنة والنار غيب. ومن لم يؤمن بالغيب, فإن الكتاب لن يكون هدى له, وعليه أن يراجع نفسه حتى يصل إلى الإيمان بالغيب أولا, ثم بعد ذلك يقرأ ويتعلم ويتبع. والإيمان بالغيب هو ثمرة العقل الواعي الراشد الذي يقرأ القرآن الذي أنزله الله قبل نزول سورة البقرة, فجعله تمهيدا للصراط المستقيم وتهيئة للقلوب والعقول لتلقي هدي الله وأوامره ونواهيه تفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة.
- وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ: تدرج أمر الله للناس بالصلاة, من الالتزام بها, وعدم السهو عنها في سورة الماعون, إلى الخشوع فيها كما في سورة المؤمنون, إلى القيام بها في سورة السجدة (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون, تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا, ومما رزقناهم ينفقون), ثم للتحلي بصفات المصلين في سورة المعارج (إلا المصلين, الذين هم على صلاتهم دائمون, والذين هم ….) ثم بلغ بها القمة حين أمر في سورة العنكبوت (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) فأصبحت الصلاة أداة لتنقية المجتمع من الفحشاء والمنكر, وهي الوسيلة التي هدى الله خليله إبراهيم عليه السلام إليها لتجميع الناس من حول المصلين, وتكوين الجماعة المتكافلة المتناصحة المتواصية, (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم, ربنا ليقيموا الصلاة, فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وهي أيضا ما أوحى الله لموسى عليه السلام حين بدأ في الصمود أمام فرعون (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة). فتكون بذلك إقامة الصلاة هي أول آلية لإقرار شريعة الله في الأرض, وللتمكين للمتقين, ولدعوة بقية الناس للانضمام لركب الحضارة والتعاون على النهوض بالدولة وبالأمة.
- وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ: الجناح المالي في الدعوة أمر أساس, فالله سبحانه جعل الفقراء في عنق الأغنياء, وجعل في أموال المصلين حقا معلوما للسائل والمحروم. والضغوط المادية على الناس تجعلهم يهتمون بتحصيلها أولا وقبل التفكير في أمور المجتمع وإقامة نهضته وحضارته. ولهذا فإن المتقين لابد أن ينفقوا مما رزقهم الله سبحانه, فيكفلون فقراءهم ومحتاجيهم, ويقيمون العلاقة الأفقية بين أفراد وطبقات وطوائف المجتمع, بالإنفاق مما رزقهم الله. إنهم يدخلون في دين الله, ويشاركون في بناء الحضارة, وهم يتحملون من أرزاقهم وممتلكاتهم, يشعرون ويؤمنون أنها مما رزقهم الله, فينفقون لوجه الله, إنهم لا يسعون لتحقيق منفعة مادية من المشروع الحضاري, بقدر ما يحقق المجتمع منهم منفعة مادية, إن عقيدتهم تكلفهم أداء جزء مما رزقهم الله. وغيرهم يدخل في المشروع الحضاري لتحقيق منافع شخصية فلا يهتدون بهداية ذلك الكتاب.
- وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: وتلك صفة أساسية للمتقين المسئولين عن إقامة الحضارة وإدارة الدولة, فهم يعترفون بالآخرين ويؤمنون بما أنزل من قبل القرآن, في إطار توحيد الجهود للبناء في مجتمع يستمتع بحرية العقيدة, ولإظهار العلاقة الطيبة الإيجابية مع الذين يؤمنون بما أنزل من قبل القرآن, ولضرب الأسوة الحسنة في التواصل والتفاهم, فإن آمن أهل الكتاب بما أنزل إليهم, وما أنزل من بعد, فسيصلون إلى كلمة سواء مع الذين جاءوا من بعدهم, حتى ولو ظلوا على شرعتهم وكتبهم, ولا إكراه في الدين.
- وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ: اليقين بالآخرة أساس لتطبيق أوامر الله والانتهاء عن نواهيه. فالموقن بالآخرة يراجع كل تصرفاته وأقواله وأفعاله اتقاء الحرج بين يدي الله في الآخرة حيث يحاسب الناس على أساس ما أنزل إليهم. كما أن فقدان اليقين بالآخرة, يؤدي إلى ما نراه من ظلم وبغي وطغيان وفساد وفجور, خاصة في بعض القائمين على النظم السياسية في العالم, وفي بعض القائمين على مصالح الناس, بل قل في كل سلوكيات الناس إلا من رحم الله وهدى.
- أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: والذين يتصفون بتلك الصفات, يكونون على طريق هدى من ربهم, وأولئك هم المفلحون. لم يصلوا بعد لكامل الهدى, ولكنهم مؤهلون لتلقي هدى من ربهم فيتبعونه.
ما سبق مقدمة أساسية في مشروع إصلاح المجتمع. فنتيجة لتحقيق هذه الخصائص في عقيدة وسلوكيات المسئولين عن الحكومة وهيئاتها, وفي المسئولين عن مصالح الناس في المؤسسات والمصانع والمستشفيات والأعمال, نتيجة لذلك, فإننا نجد ناسا مؤهلين للتلقي من الله بآيات كتابه الكريم, وبالتنفيذ دون تردد أو ريب, وبالتسليم التام لما أنزل الله في كتابه. عندئذ فإن هؤلاء الناس يأتمون بكتاب الله, فيقودهم الله بهديه إلى الحياة بالقرآن.
إن المشروع الحضاري, إن لم يُبن على تقوى الله والاستعداد للحساب بين يديه, والإخلاص لله, والتضحية والبذل من القائمين عليه قبل غيرهم, فإنه سيتحول إلى بناء مدنية جوفاء, لها مظاهرها المادية, وليس لها قلب, ينتج عنها مفسدون في الأرض, وينتج عنها فُجّار, فلا تحصل من ورائهم منافع حقيقية للناس, بل هم أنفسهم يستفيدون استفادة شخصية على حساب الناس.