تأصيل شرعية الخلافة الإنسانية على الأرض:
ثم تؤصل السورة أساس الخلافة في الأرض, ومصدر شرعيتها:
إن فطرة الله وقوانينه تسير بها الدنيا كلها, فلا نرى في خلق الرحمان من تفاوت, ولا نرى اصطداما بين خلقه, لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر, ولا الليل سابق النهار, وكل في فلك يسبحون.
وشاءت حكمته سبحانه, أن يسيِّر حياة الناس على الأرض بقوانينه, فجعل الله الإنسان في الأرض خليفة بعد أن هيأ له الأرض والسماء وترك له حرية الاختيار, فإما أن يلتزم هدي الله, وإما أن يسير على هواه.
إن الله جهز لنا الأرض والسماء قبل أن يستقدمنا إلى هذه الدنيا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وقد تطورت خلافة الإنسان في الأرض في مراحل خمسة:
● اختار الله آدم للخلافة في الأرض, ليطورها ويستثمر نعم الله فيها, وترك له صلاحية التصرف إن هو تصرف بحكمة, ولم يعص أمر ربه.
● ثم لما عصى آدم ربه وخالف أول نهي له, بأكله من الشجرة المحرّمة, اختار الله أنبياءه ورسله يرسلهم بالهدى إلى بني آدم ليرشدهم في سلوكهم ومعاملاتهم, فمن تبع هداه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, والذين كفروا وكذبوا بآيات ربهم, لهم عذاب النار هم فيها خالدون. وكان كل نبي يبعث لقومه خاصة.
● ثم بدأ العالم في التواصل, فاستخلف الله قوما ليسوا بأنبياء ولا برسل, وكلفهم بأداء مهمة الأنبياء والرسل في منطقة من العالم, وهم بنو إسرائيل, وأنزل لهم الكتاب والفرقان, وفضلهم على العالمين.
● ثم لما لم يفلحوا في مهمتهم, عمم الله الاستخلاف على كل عباده الذين يختارون ذلك, بأن ختم رسالاته بمحمد صلّى الله عليه وسلم رسولا للناس كافة, ورحمة للعالمين, وأنزل معه القرآن هدى للناس, كل الناس.
● ثم أورث الله الكتاب للذين اصطفى من عباده, فكلف الأمة المتبعة للرسول الخاتم صلّى الله عليه وسلم بالسعي للتمكُّن في الأرض ليملكوا الأسباب التي تيسر لهم مهمة بلاغ رسالة الله للناس, وحكمهم بها منعا لظلم بعضهم لبعض, إن هم حكموا بما أنزل الله, وأحسنوا اتباع ما أنزل إليهم من ربهم, ولم يتبعوا من دونه أولياء.
وفيما يلي بيان ذلك…
المرحلة الأولى: اختيار آدم للخلافة في الأرض:
لقد جعل الله آدم في الأرض خليفة دون الملائكة والجن وسائر المخلوقات, بعد إقامة الحجة عليهم, وتأهيل آدم وتعليمه وإبراز خصائصه التي تميز بها هو وبنوه على سائر المخلوقات. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ..) ورغم أن الله سبحانه لا يُسأل عما يفعل, وهو القاهر فوق عباده, ورغم أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم, ويفعلون ما يؤمرون, إلا أن الله جلّ وعلا أتاح للملائكة أن يُبدوا رأيهم في الخليفة الذي جعله الله في الأرض. كان من وجهة نظر الملائكة أن الخليفة في الأرض لا بد أن يكون ممن يسبحون بحمد الله ويقدسون له, وألا يكون ممن لديهم القدرة على الإفساد وسفك الدماء (.. قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..) ولكن لله حكمة في ذلك (.. قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
إن أهم خاصية يؤهل الله بها آدم للخلافة في الأرض, هي القدرة على التعلُّم, والتعلُم إزالة للجهل, وبناء للقدرات التي بها يكون استثمار النعم التي خلقها الله, والقدرة على التصرف غير التقليدي فيها, وبالتالي القدرة على إحداث تغيير في الكون, من حالته التي فطره الله عليها, إلى حالته قبل قيام الساعة حيث (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها), رغم أن تلك القدرات قد تؤدي أحيانا إلى الإفساد في الأرض وسفك الدماء, إلا أنها في نفس الوقت لازمة لعمارة الأرض واستثمار نعم الله فيها.
(وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ …)
لمن كانت تلك الأسماء؟ لجمادات أم لعاقلين؟ لمنتجات أم لمنتجين؟ لاختراعات أم لمخترعين؟
إن الضمير (هم) في قول الله (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم, فلما أنبأهم بأسمائهم..) يبين أن الأسماء لعاقلين, ولو كانت لجمادات أو منتجات أو اختراعات لقال سبحانه: يا آدم أنبئهم بأسمائها, أو أنبئهم بها. فمن هؤلاء أصحاب تلك الأسماء؟
إنني أعتقد ـ والله أعلم ـ أن الأسماء لكل ابن من بني آدم أضاف شيئا للكون, حوّل شيئا من مخلوقات الله إلى حالة مختلفة عن حالته التي فطره الله عليها؛ فاتخذ من الشجر الثمار طعاما, وجعل الله به من الشجر الأخضر نارا, فطهى طعامه ونوّع فيه, واستأنس الحيوان, فأخذ منه اللبن واللحم والصوف والشعر والوبر, وجعل منه بيوتا وملابس وأثاثا, واستخرج من الجبال الحديد والنحاس والرصاص ومواد البناء, فأنشأ منها المساكن والقدور والأوعية, ثم السيارات والطائرات والأجهزة, وعلّّم الله نبيه نوحا عليه السلام بناء السفن من الألواح والدسر, فجاب بنو آدم بها البحر وحولوه من عائق للحركة, إلى وسيلة للانتقال ونقل البضائع, وأكلوا منه لحما طريا, واستخرجوا حلية يلبسونها من اللؤلؤ والمرجان, وعلمهم الله من الطيور الطيران, فحاكوها بصناعة الطائرات, وجابوا بها الفضاء واستعملوها في الانتقال والحركة بين أقطار الأرض, بل وأوحى إلى بني آدم بإدارة وقيادة لينتظموا في جماعات وليكونوا منتجين يغيرون في الكون.
إن هذه القدرات لم يمكن الله منها جنسا من خلقه سوى بني آدم, فأدّى في كون الله ما لم يؤده ملَك ولا جان ولا طير ولا حيوان, ولا جماد ولا نبات, بل سخرها الله كلها لبني آدم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (الإسراء)؛ فكانت مؤهلا كافيا لأن يجعله الله في الأرض خليفة, (.. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)) إن الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض, جعل آدم وبنيه خلفاء في الأرض ومكنهم فيها, ليستخرجوا من ذلك الغيب وليحولوا الأرض من حالتها التي فطرها الله عليها (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام) إلى حالتها التي تقوم الساعة عليها بين تطور الأرض وما عليها(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ..) , وبين تطور أهل الأرض فنيا وإداريا (وظن أهلها أنهم قادرون عليها)(يونس) حينئذ تقوم الساعة, حيث لا داعي لوجود الإنسان على الأرض, فلن يضيف إليها شيئا جديدا. إذن فوجود الإنسان واستمرار الحياة مرهون بالتطور الذي يحدثه فيها, فإن توقف انتهى مبرر وجوده وقامت الساعة.
ولعلم الله بما تبدي الملائكة وما تكتم, فإنه لم يفاجئها بجعل الإنسان في الأرض خليفة, بل أنبأها بمشيئته, وسمح لها بإبداء الرأي, فلما تحفظت أبان لها حكمته من ذلك, بحيث تساهم بحماس في مساندة بني آدم في مهمتهم التي أوكلها الله لهم.
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
والسجود إدامة النظر, والتطامن والانقياد والطاعة والخشوع والخضوع. وسجود الملائكة لآدم هو سجود لله طاعة لأمره, وهو سجود تسخير وعون لآدم وبنيه.
إن الملائكة موكلة بمعاونة بني آدم في مهمتهم, وبعد أن بين لهم حكمة اختياره لآدم خليفة, أمرهم بالسجود له, إعلانا عن معاونته, فسجدوا إلا إبليس, كان من الجن ففسق عن أمر ربه, حيث كان الأمر لكل الحضور, من الملائكة ومن الجن. أي أن الله الذي سخر لبني آدم مخلوقاته (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) (الجاثية) سخر لهم أيضا الملائكة ليعينهم الله بها.
اتخذ إبليس خطا مغايرا, وبدأ بالمعصية, وكان أول من عصى الله في كونه, وتربص ببني آدم, ليستكمل الله بذلك عناصر الابتلاء لبني آدم, فإما أن يتبعوا هداية ربهم, وإما أن يتبعوا الشيطان المتربص بهم, فيضلون عن سبيل الله. وبين الطاعة والمعصية, يتحرك بنو آدم لأداء مهتمهم التي أوكل الله لهم بخلافة الأرض (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض, فمن كفر فعليه كفره) (فاطر)
اختبر الله آدم وزوجه في طاعته في أمر بسيط, فبعد أن أتاح لهما كل فرص الطاعة والاتباع, وسمح لهما بالأكل حيث شاءا, حرم عليهما الاقتراب والأكل من شجرة واحدة, فيكونا من الظالمين: (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
إلا أنهما وقعا في براثن الشيطان, فأزلهما عنها، فأكلا منها..
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ .. وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
ثم اعتذرا لله, فقبل وتاب عليهما, غير أنه جلّ وعلا, أهبطهم وبنيهم جميعا مما كانا فيه….
فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
المرحلة الثانية: كل نبي يبعث لقومه خاصة:
ولم يترك الله آدم وبنيه دون هداية مبينة من عنده, فبعث الأنبياء والرسل برسالاته إلى الناس, لكل قرية نذير, ولكل قوم نبي أو رسول, فيتبعه بعضهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, ويكفر به بعضهم, فيكون من أصحاب النار هم فيها خالدون.
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)).
وتنتهي المرحلة بنصر الله لرسله وتدمير القرى الظالمة, ثم يتوفى الله الرسل (.. وما كانوا خالدين* ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين)
المرحلة الثالثة: رسالات الله يحملها بنو إسرائيل:
ثم كلف سبحانه بني إسرائيل بمسئولية حمل دعوته للعالمين.
إن بني إسرائيل هم أبناء يعقوب عليه السلام, وكانوا هم أول جماعة يكلفها الله بمسئولية نشر دينه, وحمل رسالته إلى الناس, في منطقة جغرافية أوسع, وفي زمان أطول, وهم ليسوا برسل ولا بأنبياء. ولكي يؤهلهم لهذه المهمة أنزل الله فيهم أنبياءه ليهدوهم إلى الطريق, بدءا من موسى وانتهاء بعيسى عليهما السلام. ويرسل إليهم كتابا وفرقانا, ليؤهلهم لهذه المهمة.
وكان الأحرى بهم أن يراعوا الأمانة التي كلفهم الله بها, حين قال سبحانه: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا) وحثهم موسى عليه السلام على شكر نعمة الله عليهم بالعمل في دعوته والالتزام بمنهجه (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويُذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم, وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم, وإذ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم, ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) , غير أنهم توالت خطاياهم التي بينها الله في القرآن الكريم, من الجهل, والكفر والشرك والكبر والاعتداء ومخالفة شرائع الله وأوامره, والاحتيال عليها, والسلبية, وتبديل قول غير الذي قيل لهم, ونسوا حظا مما ذكروا به, حتى استبدل الله بهم كل إنسان يلتزم بمنهج الله, أيا كان نسبه أو جنسه.
لم يفلح بنو إسرائيل في مهمتهم التي كلفهم الله بها, فبدلوا القول, وقتلوا النبيين بغير حق, وخالفوا أمر الله, ولم يراعوا الأمانة حق رعايتها, وأمهلهم الله أمدا بعيدا, إلى أن حاولوا قتل المسيح عيسى ابن مريم, فرفعه الله إليه, وشبّه لهم أنهم قتلوه, واتهموا أمه مريم الصديقة بالزنى وبرأها الله في قرآنه.
عدد الله إخفاقات بني إسرائيل في مهماتهم التي كلفهم الله بها, تلك الإخفاقات التي كانت مبررا لنقل المسئولية ليبدأها محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم, حفيد إسماعيل, وهو الفرع الأول لإبراهيم عليهم جميعا الصلاة السلام, ثم يتبعه أي إنسان مهما كانت هويته أو نسبه أو جنسيته أو لونه, فقط يؤمن بالله وكتبه ورسله, ويعمل بما أنزل الله فيها.
المرحلة الرابعة: خاتم النبيين, مرحلة نزول القرآن:
أنشأ الله سبحانه نظاما جديدا لنقل دعوته إلى الناس عامة, فختم كل الرسالات والأنبياء برسالة الإسلام, وبنبيه ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم, وأنزل عليه القرآن الكريم, آخر رسالاته إلى خلقه, مصدقا لما بين يديه, وتكفل بحفظه من التحريف, بوسائل عديدة, وجمع فيه أحسن ما أنزل على رسله, ونسخ كل ما سبقه فأتى بخير منه أو مثله, بحيث لا يحتاج الناس إلى الرجوع إلى كتب سابقة عليه, وأنزل فيه كل ما يريد سبحانه من عباده, وقال لرسوله الخاتم: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه, إن الله بعباده لخبير بصير) وجعله يحيا به ويمارس ما فيه من هدى وأقام به دولة تمارس كل مسئوليات الدولة من إمامة للناس وقيادة وإدارة وإدارة الأزمات, والحكمة والتشريع, والقضاء وفصل الخطاب, ومناهج العمل وقوانينه, والانتشار بالدعوة في الأرض, وأقام ما تتطلبه الدولة من نظم قانونية واجتماعية وسياسية واقتصادية ودفاعية, وثقافية.
المرحلة الخامسة: ورثة الكتاب:
ثم أورث الله هذه المسئوليات للذين اتبعوا الرسول النبي الأمّي صلّى الله عليه وسلم, وقال (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) وألزمهم بتبليغه لسائر الناس, في كل مكان وفي كل زمان, ويديرون به حياتهم في كل مناحيها. فيكون بذلك الحكم لله, عن طريق كتابه الهادي, وعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين يلتزمون كتابه وحكمه, ويلتمسون الهدى فيه. وهي دعوة مفتوحة لكل من يؤمن بها ويعمل بها, ولا تقتصر على قبيلة أو عشيرة أو قرابة ورحم, أو جنس أو مكان أو زمان واحد, فكل من يتبعون الرسول النبي الأمي ويعزرونه وينصرونه ويتبعون النور الذي أنزل معه يشتركون في الدعوة إليه, والحياة به وعمل الصالحات التي يدعو إليها.
بهذا النظام, فإن الله وفر الكتاب الخاتم الجامع لكل الرسالات السابقة ولكل ما يطلبه الناس لحياتهم إلى يوم القيامة, وتكفل بحفظه, وعاش به خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم وأسس به دولة متكاملة الجوانب, وأورثه إلى كل إنسان يقرر أن ينضم إليه, فيؤمن به ويعمل به, وكلفهم بمسئولية نشره بين الناس وتبليغ رسالات الله إليهم, ولم تعد تلك المهمة مقصورة على الأنبياء والرسل, بل لم يعد للناس حاجة لأنبياء جدد أو رسل ورسالات أخرى ولا إلى كتب سماوية أخرى.
وأصبح كل إنسان يشهد ألا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, ولا يفرق بين أحد من رسل الله, أصبح رسولا لرسول الله إلى الناس, وقائما بأعماله صلّى الله عليه وسلم, ليتم الله نوره ويبلغ رسالاته للناس, ولتتم بذلك مهمة رسول الله كرسول للناس عامة ورحمة للعالمين, وهي مهمة متجددة متواصلة تمتد في الزمان ما خلق الله خلقا, وفي المكان ما مد الله في عمر الدنيا, إلى يوم تقوم الساعة.
كما ضمّن الله سبحانه في كتابه ورسالته الخاتمة, القوة الذاتية للاجتهاد والتغيير الذي يحتاجه المجتمع الإنساني الدائم التغيير, فأنزل في القرآن القواعد الأساسية للحضارة, وجمع فيه خبرات الأمم السابقة بأحسن القصص, وأمر الناس باتباع هدايته, والتقيد بها, مع التحرك داخل حدودها بالاجتهاد في أمور دنياهم, التي هم أعلم بها ـ كما علمهم رسول الله ـ فيطورون ويحدّثون في حياتهم كما يشاءون.
وكلما التزم الناس بقواعد كتاب الله الخاتم, وما بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه في حديثه وسنته, كلما عاشوا في رخاء وهدى ورحمة, وكلما بعدوا عنه .. كلما شقوا وعانوا وعاشوا في ضنك (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى)
وحيث أن الإنسان عموما لا يحب أن يراقبه أو يحاسبه أحد, بل يريد أن يُترك سُدى, هملا بغير تكليف ولا حساب ولا جزاء؛ فقد أنشأ الله في وجدان الناس عقيدة الآخرة حيث يقوم الناس لرب العالمين للحساب, وينتهي بهم المطاف إما إلى جنة, وإما إلى نار, بحيث تكون تلك العقيدة حافزا للناس على الالتزام بما أنزل الله إليهم, والرهبة والخوف من عاقبة الإساءة والسوء والظلم والإجرام والفساد والإفساد.
من خلال هذا النظام, يعمل الناس على تغيير شكل الحياة على الأرض, واستثمار نعم الله فيها, فتتحول من حياة بسيطة كما فطرها الله في بدء الخلق (.. إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام..) إلى حالة قصوى من التطور والتحديث والتغيير لكل شيء فيها (.. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ..) كما يصل الناس إلى الحالة القصوى من التقدم والتحكم في كل شيء على الأرض (.. وظن أهلها أنهم قادرون عليها..) عندئذ, لا يكون لوجود الإنسان على الأرض معنى, فلن يكون في الأرض شبر واحد لم يتطور, ولا عنصر واحد من عناصر القدرة عليها لم يملكه الإنسان, فلماذا يحيا الإنسان لحظة بعد ذلك؟ عندئذ, تقوم الساعة (.. أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس..كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)
وبتعريف الله للناس بهذا النظام, فإنه سبحانه يدعوهم إلى دار السلام, ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
وهنا تنتهي كل مراحل الفعل للإنسان, وتبدأ مرحلة القيامة والحساب ثم بتنفيذ حكم الله طبقا لذلك, (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا….) (.. وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا..)
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة, وأن يباعد بيننا وبين جهنم.. آمين.