إن معرفة الترتيب الزمني للأنبياء والرسل, تساعد على تدبر القرآن, ففي بعض السور يأتي ترتيب الأنبياء غير موافق للترتيب الزمني لهم, وبالتالي يبحث متدبر القرآن عن الحكمة في ترتيبهم عليهم صلوات الله وسلامه, وحين يصل إلى شيء منها, يتبين له معاني كثيرة, وفيوضات عظيمة إن شاء الله.
ففي سورة ص, تترتب قصص الأمم في الآيتين 12 و 13 يقول الله سبحانه: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ(12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ(13)
والترتيب التاريخي لهذه المجموعة من الأمم كالآتي: قوم نوح, وعاد, وثمود, وقوم لوط, وأصحاب الأيكة (أرسل لهم شعيب) ثم فرعون.
فما الحكمة من أن يأتي ذكر فرعون في الآية الأولى, متقدما على ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة؟ ولماذا تأتي صفة فرعون بأنه ذو الأوتاد؟
وبالبحث عن ذكر فرعون في القرآن بصفته ذي الأوتاد, نجد الله قد ذكره في سورة الفجر, (وفرعون ذي الأوتاد, الذين طغوا في البلاد, فأكثروا فيها الفساد) وفي سورة القصص (إنه كان من المفسدين)
وبنسبة قوم نوح إلى الطغيان, نجد في سورة النجم: (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى)
وبنسبة عاد إلى الطغيان, نجد في سورة فصلت: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة)
إذن فجمع الأمم الثلاثة في آية واحدة, يجمع بين الطغاة والمفسدين والمستكبرين, وبترتيب طغيانهم واستكبارهم, فيأتي قوم نوح أولا باعتبار أن الله وصفهم بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى, ثم تأتي عاد حيث قال الله فيهم, (فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة) ثم يأتي فرعون (الذين طغوا)
وبالتالي يلتفت نظر المتدبر للقرآن إلى سبب جمع الأمم الثلاثة ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة في آية فيجد أن ثمود اعتدوا على ناقة الله وآيته لهم, وقوم لوط اعتدوا على حدود الله وفطرته بإتيان الذكران من العالمين, ويذرون ما خلق لهم الله من أزواجهم, وأصحاب الأيكة اعتدوا على حدود الله في الكيل والميزان, وهو أهون من قوم لوط ومن ثمود
ويستنتج المتدبر للقرآن أن المجموعة الأولى للطغاة والمفسدين في الأرض, وأن المجموعة الثانية للفجار والمعتدين على آيات الله وحدوده.
وتأتي الآية 28 من سورة ص, (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض, أم نجعل المتقين كالفجار) فيفهم المتدبر للقرآن أن الله يريد ألا يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض مثل قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد, ويفهم أن الله سبحانه يريد ألا يجعل المتقين كالفجار من أمثال ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة
ثم بالرجوع إلى موضوع سورة ص, وهي سورة القيادة العليا, يتبين أن المعاكس للقيادة والخارج عليها إما أن يكون بسبب طغيانه وإفساده, وإما أن يكون بسبب فجوره وخروجه على القانون تهربا منه وحيادا عنه
ثم بالنظر في ترتيب ورود قصص الأنبياء في السورة نجد أن داوود عليه السلام يأتي في البداية, ثم سليمان ثم أيوب ثم إبراهيم وإسحاق ويعقوب, ثم إسماعيل واليسع وذو الكفل, وهذا أيضا ليست ترتيبا تاريخيا, فما هو سر الترتيب؟
إن ميزة داوود عليه السلام عن كل أنبياء الله ورسله قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه كان جنديا فقائدا, فملكا ونبيا. أي أن الدين عند داوود كان موعظة وهداية, وكان حكما ودولة, ثم كان سليمان نبيا وملكا وابن نبي وملك, فأتى بعد داوود, ثم أيوب وكان من رجال المال والأعمال, يأتي بعد الملوك والحكام في الترتيب, ثم يأتي إبراهيم وإسحاق ويعقوب, فيصفهم الله في السورة بأنهم (أولي الأيدي والأبصار) ويمثلون أصحاب القوة والسلطة والبصيرة في المجتمع, ثم يأتي إسماعيل واليسع وذو الكفل, فيصفهم الله بأنهم (وكل من الأخيار) وكأني بهم يمثلون المواطنين الصالحين في المجتمع
إذن يكون ترتيب ذكر الأنبياء في السورة ليس ترتيبا تاريخيا, وإنما هو ترتيب على أساس مستويات القيادة, بدءا من القيادة العليا للدولة, ثم رجال المال والأعمال, ثم أولي الأيدي والأبصار, ثم الأخيار
واستكمالا للمعنى, يأتي ذكر المتقين بعد ذلك في الآيات 49 إلى 54 من سورة ص نفسها, وهم عموم المواطنين المتقين, وهم دون الصالحين في المجتمع, وكأنهم في حالهم. وهذا لا يمنع أن يكون الأخيار متقين أيضا, بل هم كذلك, ولكنهم يزيدون على عموم المتقين بأنهم من الأخيار, والله أعلم
والخلاصة أن هذا مثال لأهمية معرفة الترتيب الزمني للأنبياء, والذي من خلاله يلتفت النظر حين يأتي ذكر الأنبياء في بعض السور على خلاف ترتيبهم الزمني, ومنها يهدي الله سبحانه إن شاء لمعاني السورة ومدلولاتها
ومن أراد المزيد فليقرأ في باب (منهاج بناء الحضارة الإنسانية) قسم القيادة, سورة ص
وهناك أمثلة أخرى مثل سورة مريم, فاقرأها إن أردت المزيد من أسرار ورود قصص الأنبياء بترتيب مخالف للترتيب الزمني, والله تعالى أعلى وأعلم