إنني أتصور أن:
• دراسة ترتيب النزول تتناسب مع مرحلة بناء الأمة, وإعادة بنائها, ينطبق ذلك على أمة الإسلام في حال ضعفها والحاجة إلى إعادتها لقوتها, كما ينطبق على خطوات دعوة أمم أخرى إلى الإسلام.
• ودراسة ترتيب المصحف تتناسب مع إدارة الأمة بعد بنائها, وفي حالة قوتها.
أي أنه …. في حالة الحاجة إلى بناء أمة , أو إعادة بنائها , فإننا نرتب خطوات البناء بترتيب النزول, أي بدءا بسورة “اقرأ” , ثم القلم ,ثم المزمل ثم المدثر , وهي خطوات إعدادية للداعية ثم لمعالجة الضالين من الناس , والمكذبين منهم , مع تنمية واستثمار المؤمنين إلى الإخلاص والجهاد في سبيل الله , وهكذا إلى نصر الله والفتح وهي آخر ما نزل ,
وهذه الخطوات هي ما أجتهد فيه في هذه الرؤية.
أما عند استكمال البناء, واستقرار الأوضاع الإيمانية, حيث لا إكراه في الدين, وفي هذا التوقيت, فإن إدارة الأمة تكون بترتيب المصحف, أي بملخص المنهاج في الفاتحة, ثم بمواضيع الشريعة وممارسات الحياة من صلاة وصيام وزكاة وصدقات وحج ومعاملات مالية واجتماعية وميراث وقتال وجهاد, كما في سورة البقرة فآل عمران , فالنساء, وهكذا, إلى (قل أعوذ برب الناس), وتشمل أداء واجبات الأمة في دعوة أمم أخرى إلى سبيل الله.
وهذه دراسة أخرى للمقارنة بين الترتيبين ,نسأل الله أن يعيننا- أو أحدا من المؤمنين – عليها في بحث لاحق إن شاء الله
وفي جميع الأحوال , فكتاب الله بكل كلمة فيه, هو هدى للناس, وهدى للمتقين , وعلينا أن نستنبط منه ما نستعين بالله به على رفع حالة الضعف التي تحلّ الآن بالأمة الإسلامية , وملء الدنيا به عدلا بعد أن ملئت جورا, وإفشاء السلام بين الناس بعد أن ملأها الذين كفروا حربا ودمارا.
.. إنني أرى – والله أعلم – أنّ من أراد أن يعيد بناء الفرد والأمة , فليبحث في ترتيب نزول سور كتاب الله , وليستخرج منها تسلسل الخطوات, والمراحل . فكل عمل لا بد أن يسير في مراحل وخطوات متتالية مرتبة للوصول إلى الهدف المأمول منه.
ولله المثل الأعلى , فرغم أن أمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون, فإنه ينفذ الأمر بخطوات , تماما كما حدث في خلق السماوات والأرض في ستة أيام على عشر مراحل فصّلها سبحانه في سورة فصّلت.
وحين تقوى الأمة , وتصل إلى نصر الله والفتح , ونرى الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فلنرتب منهاج إدارة الأمة في قوتها, والحفاظ عليها من عوامل الضعف والاختلاف والوهن. ثم نشر منهاج رب العالمين .. بين العالمين.
ومن هنا , فإنني أتناول كتاب الله بالتدبّر من هذه الزاوية , بترتيب نزول سوره, كما ورد في المصاحف المعتمدة من الأزهر الشريف, فأتتبّع السور حسب ترتيب النزول آخذا كل آيات السورة الواحدة كوحدة موضوعية واحدة, حتى ما نزل منها متأخرا عن أوائل السورة وفواتحها, وأعتبرها مرحلة من مراحل البناء , وخطوة من خطوات المنهاج, والبرمجة التي يمكن تكرارها في كل وقت وحين بنفس الترتيب , لبناء الفرد والأمة , لبناء الإخلاص , وبناء القاعدة المعرفية عن الكون والخلق والحياة والمعاملات والموت وما بعده , وتفاصيل أحداث القيامة بتدرج نزولها… وهكذا في كل ما أراد الله سبحانه أن يقول للناس في آخر ما أنزل من وحيه.
ونأخذ عموم المواضيع التي تتناولها كل سورة , ومنها قد يفتح الله من كرمه ومن رحمته سبيلا لوضع المنهاج المطلوب لإعادة بناء الأمة خطوة خطوة, في محاولة للبحث عن …
منهاج بناء الفرد والأمة. …أو (خطوات البرمجة) .
ولكي نحيا سيرة النبي في كل زمان ومكان, فإننا سوف نتلمّس خطواته المنهجية والموضوعية في طريق الدعوة, من خلال ما حفظه الله في آيات كتابه بالترتيب في السور الذي بين أيدينا الآن, بصرف النظر عن الخطوات التاريخية, أو الأحداث اليومية.
وبمعنى آخر, نتصور أننا سوف نسير على منهاج الرسول صلّى الله عليه وسلم, وكأن أحدنا هو رسول رسول الله إلى الناس, أو المبلّغ عنه, وينبغي أن نكون كذلك, وإنما يكون ذلك في العصر الذي نعيش فيه, وليس في العصر الذي عاش فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والرؤية تشمل كل كتاب الله , بهدف استخراج … “منهاج بناء الفرد والأمة” و “السيرة النبوية من القرآن الكريم”
وإليك هذا المثل من لغة العصر…
في تطبيقات الحاسب الآلي, يتسلم مشتري الجهاز من الشركة المنتجة , قرصا مدمجا به البرمجة الرئيسية للجهاز طبقا لتعليمات المنتج, بحيث يمكن إعادة برمجته في حالة ما تحدث للجهاز اضطرابات في أدائه. فينصح صاحبه بوضع القرص المدمج في الجهاز وتشغيله , فيعاد برمجته طبقا لتعليمات الصانع الذي يعلم عن الجهاز أكثر مما يعلم غيره.
ولله المثل الأعلى
فدراسة القرآن بترتيب النزول هي بمثابة القرص المدمج الذي يحتوي على كل ما ينفع الناس في حالة عموم الفساد, وبعد الناس عن منهج الله, وما علينا إن رأينا شدة الاعوجاج في أداء المسلمين أفرادا أو أمة , إلا أن نعيد برمجتهم طبقا لتعليمات خالقهم جل شأنه, ثم بعد ذلك يدار الفرد وتدار الأمة فينضبط الأداء , وتنصلح الأحوال بإذن الله.
والذي يمكنه أن يقوم بهذه العملية من إعادة البرمجة هم ناس مدربون . هؤلاء في الأمة, هم من سماهم الله في سورة المزمّل (طائفة من الذين معك) , وهم في رأيي- والله أعلم- السابقون بالخيرات بإذن الله, في قول الله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)فاطر), وعلينا أن نتعرف على صفاتهم, وكيفية إعدادهم, ثم يعدّون إعدادا طبقا لكتاب خالقهم وأوامره, بترتيب خاص لخطوات الإعداد, ثم بهم يتم عمل البرمجة المطلوبة لسائر الأفراد والأمم.
والآن نتحرك من ذكر القصة التي حدثت في هذه الفترة من التاريخ, فنتمثل منهاج رسول الله وكأننا نسير على نفس الخطوات منهجيا وليس تاريخيا.
ولكي نتمثّل المنهاج الذي يمكن أن نعيش به اقتفاء واقتداء بسيرة النبي, فإننا نتصور أن أمة من الأمم الآن في أقاصي الأرض, لا تعرف طريق الله , وأننا نريد أن نتولّى مسئولياتنا تجاهها, بتبليغ دعوة الله لها. فإننا أولا سوف نبحث فيها عمّن يمكن أن يكون نقطة البداية في التبليغ, عن شخص طيب, على الفطرة في خلقه ومعاملاته, ليس بكذاب ولا بفاحش ولا بذيء. فإذا وجدناه فإننا نتوجه إليه بآيات الله الأولى في التنزيل, ونقول له: اقرأ باسم ربك الذي خلق. نفتح بذلك بابا بيننا وبينه لتلقّي هداية الله وأوامره ونواهيه وعلمه , لنبني في وجدانه وعقله قواعد الإيمان , وثقافة التوحيد, ثم هو سيتوجه إلى الناس بما يتعلمه عن منهاج الله.
ولنتصور أن هذا الشخص الذي سنبدأ به الدعوة إلى سبيل ربنا, هو واحد منا. وأنه سيبدأ في مجتمع ابتعد الناس فيه عن منهاج الله حتى ضعفوا وهانوا على أنفسهم وعلى أعدائهم, فكيف يبدأ؟
وبهذا التصوّر نستقرئ منهاج الله في الدعوة وسيرة النبي التي يمكن أن نعيشها ونكررها كل يوم وفي كل مكان, ومع الإنسان أينما كان ومتى وُجد. سواء كان من الذين كفروا يعادون ويكذّبون, أو كان كافرا لا يؤمن بوجود الله , أو ضالا لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان, أو مشركا يجعل مع الله إلها آخر, أو من أهل الكتاب ولديه بقية من دعوة موسى وعيسى عليهما وعلى رسولنا ورسل الله أفضل الصلاة والسلام , أو مؤمنا يريد أن يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات, أو كان طفلا نريد أن نبني عقيدته ووجدانه, أو شابا لا يدرك مدى حاجته لعقيدة التوحيد , ولطاعة الله. سواء كان فردا أو جماعة, أو أمة من الناس.
وكل هذه نوعيات من الناس , موجودة إلى يوم القيامة, فكيف نتعامل مع كل منها , فنبلغها رسالة الله, وندعوها إلى طريق الله ؟
وبعد هذه المقدمات والتمهيد , فإنني أترك المجال للرؤية ذاتها لتعبّر عما أريد أن أقوله… وهي مفصلة إن شاء الله في باب”منهاج بناء الحضارة الإنسانية”