جمع الله فيما سبق من سور القرآن طوائف الناس على اختلاف عقائدهم, فخاطب أهل الكتاب في سورة التين, وخاطب المشركين في سورة قريش, وخاطب الذين ينشغلون عن ذكر الله بجمع المال وعدّه, وهنا في المرسلات يتوجه القرآن إلى فئة المكذبين, وهؤلاء لا يبدأ بأمرهم بالمعاملات ولا بحسن الخلق ,وإنما يبدأ في بناء الأساس , العقيدة الصحيحة , من مبدئها , من إثبات البعث والحساب والجزاء.
هذه الفئة من الناس , تحتاج إلى إثباتات مادية على البعث وعلى الحساب. فيقسم الله لها بظواهر محيطة بها , تراها في الدنيا كل يوم , وهي تبرهن على البعث وعلى الحساب:
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا(4)فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا(5)عُذْرًا أَوْ نُذْرًا(6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ(7)
فالرياح المرسلات متتابعة تحمل السحاب والماء , فتعصف بالحب فتزيل عصفه أو قشوره الخفيفة , فتتأهل الحبوب للزراعة بسرعة يدل عليها العطف بالفاء. وتنشر الحب فتفتحه لينبت ويتشعّب , كما تنشره في الأرض , ونَشَرَهُم الله أَي بعثَهم. والرياح تأْتـي بالـمطر, فيبعث الله بها الزرع ويحيي الأرض بعد موتها. فيحدث تمييز في الحب فيفرق فرقا ,والفَرْق: الفصل بـين الشيئين, فيخرج منه الجذر إلى أسفل , الساق إلى أعلى حاملا الأوراق والزهر والحب لتدور الدورة وتتوالى .
إن هذه صور من البعث التي نشاهدها كل يوم : أرض ميتة , وحبة ساكنة قد تظل هكذا لسنين عددا , فتأتي رياح فيفعل الله بها كل ما وصف سبحانه في تلك الآيات, فيخرج نبات كل شيء, فيبعث فيها الحياة.
فالملقيات ذكرا , الملائكة تلقي ذكرا إلى رسل الله , وفيه ينبّىء الله الناس إلى البعث بعد الموت , وفي الذكر عذر للمؤمنين , أونذر للخاطئين.
بصور البعث المختلفة , وبالذكر تلقيه الملائكة إلى الرسل والأنبياء , عذرا أو نذرا , بهذا القسم , إن ما توعدون لواقع , إنكم توعدون بالبعث والحساب طبقا للذكر الملقى إليكم من الله. أنتم تشاهدون مظاهر البعث كل يوم , فلا مجال للتكذيب , وليس أمامكم سوى التصديق والعمل الذي ينقذكم الله به مما أنذركم به.
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ(8)وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ(9)وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ(10)وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ(11)لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ(12)لِيَوْمِ الْفَصْلِ(13)وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ(14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(15)
فإذا جاء يوم الفصل , فطمست النجوم , وفرجت السماء , ونسفت الجبال , حيث أقتت الرسل , وأجّلت لهذا اليوم, يوم الفصل, ويل يومئذ للمكذبين من أهوال هذا اليوم.
انظر -سبحان الله – إلى التدرج البنائي في منهاج رب العالمين
النجوم في سورة التكوير انكدرت, انطفأ ضوءها, ثم النجم إذا هوى, ثم هي في المرسلات طمست ,أي أنها حتى لم تعد عاكسة لما يسلط عليها من ضوء مثل القمر والكواكب , ولكنها لم تعد ذات معالم على الإطلاق , طمست .
وكذلك, فالسماء في التكوير كشطت, أى نزعت وجذبت ثم طويت, وهنا في المرسلات السماء فرجت أي شُقّت.
والجبال في سورة المزّمّل ترجف, ثم تكون كثيبا مهيلا, وفي سورة التكوير سيّرت, ثم في سورة القارعة تكون كالعهن المنفوش, ثم في المرسلات وإذا الجبال نسفت.
وهذه مراحل متسلسلة بتسلسل نزول سور القرآن. فلا تنسف قبل أن تكون كالعهن المنفوش, ولا تكون كذلك قبل أن تسيّر, ولا تسيّر قبل أن تكون كثيبا مهيلا, وقبل ذلك كله فهي ترجف.
وفي التكوير: علمت نفس ما أحضرت, علم فقط دون آثار مبنية عليه, أما في المرسلات : ليوم الفصل, وما أدراك ما يوم الفصل. إنه فصل في الموقف , وبناء عليه, ويل يومئذ للمكذبين.
وفي التكوير: وإذا النفوس زوجت , زوجت بالأجساد بعد الموت والقبر, أما في المرسلات , فالله أهلك الأولين , ولم يكتف بالإشارة إلى الموت , ولكن إهلاك , ثم أتبعهم الآخرين بالحياة ثم بالإهلاك أيضا , كذلك يفعل الله بالمجرمين, يهلكهم.
أَلَمْ نُهْلِكْ الْأَوَّلِينَ(16)ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الْآخِرِينَ(17)كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(18)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(19)
وفي عبس من قبل , يذكر الله بدء خلق الإنسان ,من أي شيء خلقه ؟ من نطفة خلقه فقدره , وهنا في المرسلات يخاطب المجرمين , فهو ينهرهم ويذكر لهم الماء المهين.
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(20)فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ(22)فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ(23)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(24)
مع أن الماء المهين هو الماء الدافق, ولكن عند مخاطبة المكذّبين المعاندين لابد من توجيه ألفاظ النهر والتبكيت والإهانة جزاء ما يفعلونه من إلغاء عقولهم وتكذيبهم للحق بعد ما تبين, وتكبرهم وغرورهم.
أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا(25)أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا(26)وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا(27)وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(28)َ
ثم يسوقهم انطلاقا إلى النار بظواهرها: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(29)انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ(30)لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ(31)إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ(32)كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ(33)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(34)
عندئذ , لا فرصة أخرى , انتهت كل الفرص للاعتذار والتصديق
هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ(35)وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ(36)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(37)
فيفصل بينهم , بعد أن يجمعهم والأولين: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ(38)
حيث لا قدرة على كيد كما كان لهم في الدنيا :فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ(39)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(40)
وعلى الجانب الآخر , يكون وضع المتقين في ظلال وعيون :
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ(41)وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ(42)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(43)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ(44)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(45)
أما المكذبون , فتكذيبهم يودي بهم إلى الوضع المهين:
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ(46)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(47)
ولا فرصة أخرى لهم :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ(48)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(49)
فماذا ينتظرون بعد كل هذا حتى يؤمنوا:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ(50)
والخلاصة: أن الله في حديثه مع المكذبين, يوجه لهم التهديدات والتوبيخ, فبعد كل ما سبق من مراحل تقديم الحجج والبراهين على صدق رسول الله , وعلى نهاية العالم, وعلى خلق الإنسان وبعثه وجمعه وحسابه, فلا مجال لعاقل أن يكذّب. وإنما هو العناد والإجرام والفجور. وعلى الداعية أن يتبع نفس الأسلوب مع المكذبين. فبعد توضيح وشرح وتقديم البراهين والأدلة , فإنه يوجه للمكذبين ما وجهه الله إليهم في كتابه, لعل الزجر والتوبيخ أن ينبههم ويوقظهم من غفلتهم ويخرجهم من عنادهم.
فائدة:
الدعاء عند هيجان الريح
عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عنْهَا قَالَتْ : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : ” اللهم ! إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به . وأعوذ بك من شرها ، وشرما فيها ، وشر ما أرسلت به ” . قالت : وإذا تخيلت السماء ، تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر . فإذا مطرت سري عنه . فعرفت ذلك في وجهه . قالت عائشة : فسألته . فقال : ” لعله ، ياعائشة ! كما قال قوم عاد : { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا } ” .
الراوي: عائشة – خلاصة الدرجة: صحيح – المحدث: مسلم – المصدر: المسند الصحيح – الصفحة أو الرقم: 899