ترتيب خطوات العمل للداعية, مسألة غاية في الأهمية في المنهج , فلا تأتي خطوة قبل خطوة, أو مرحلة قبل مرحلة. في المراحل السابقة , توجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم , إلى الناس دون تمييز, فآمن بعضهم بمجرد أن أعلمهم ببعض أحداث يوم قيام الساعة , وبأن الإنسان محاسب على أعماله.
ثم توجه القرآن إلى الفئة الثانية , الذين لم يؤمنوا بسبب جهلهم , وقلة علمهم , حيث قال الله فيهم : ذلك مبلغهم من العلم . فهم يحتاجون إلى مزيد من الحجج والإقناع والبراهين , فتوجهت إليهم موجة النجم , يبين الله فيها المزيد من الحقائق.
كما كذّب بعضهم وتولّى . وهؤلاء يمثلون الفئة الثالثة.
أمر الله رسوله بأن يذره والمكذبين ويمهلهم قليلا. ووجّه الله لهم قرآنا فيما نزل من السور في السنوات الأولى من الدعوة.
كان صلّى الله عليه وسلم حريصا على تنمية الدعوة وتقويتها , وفي سبيل ذلك اجتمع مع صناديد قريش: عتبة وشيبة ابني ربيعة , وأبي جهل عمرو بن هشام , وأميّة بن خلف , والوليد بن المغيرة , ومعهم العباس بن عبد المطّلب. ورسول الله يدعوهم إلى الإسلام. وكان هؤلاء يقفون في سبيل الدعوة بمالهم وجاههم, ويصدون الناس عنه ويكيدون له, فهم من المكذّبين أولي النَّعمة.
وفي أثناء ذلك , جاءه عبد الله بن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير , يسأله أن يعلّمه أمور الدين. فعبس صلّى الله عليه وسلم في وجهه ما لم يلاحظه ابن أم مكتوم , حيث كان النبيّ حريصا على التركيز مع هؤلاء القوم من صناديد قريش لصالح الدعوة , كما قدّر ذلك صلّى الله عليه وسلم.
كان التوجّه إلى المكذبين المعاندين المكابرين بالمنطق والإقناع , ومحاولات التفاهم معهم بالحجة والبرهان في هذه المرحلة المبكّرة من الدعوة, خارجا عن نطاق المنهاج الذي أعده الله لعلاج الكفر والكبر فيهم. فالتعامل مع هذه الفئة له أسلوبه , وهو التهديد والوعيد بالعذاب , وكسر كبريائهم وغرورهم , بإشعارهم بالإهانة التي يوصلهم إليها غرورهم .
في رد للدكتور صلاح عز على الأستاذ أحمد بهجت في عموده الشهير- صندوق الدنيا – الأهرام 4 نوفمبر 2001, بشأن مخاطبة العقل الغربي لتوصيل صورة الإسلام الصحيحة , قال سيادته:
المحاضرات التي يلقيها علماء دين لا تحضرها غالبا سوي النخبة الاكاديمية في النخبة المثقفة في الغرب, ومعظم هؤلاء توجهاتهم محددة سلفا, بمعني انهم إما أن يتعاملوا مع الحقيقة بموضوعية ونزاهة.. وإما أنهم يجحدون بها ظلما وعلوا, وحضور الجاحدين مثل هذه المحاضرات ليس هدفه استكشاف الحقائق من مصدرها, وإنما تشويهها بأساليب ملتوية لا يعرف عالم الدين كيف يتعامل معها..
وعندما بدأ صلّى الله عليه وسلم في الجلوس مع أئمة الكفر ليدعوهم بالحجة والبرهان , أنزل الله سورة عبس , ليعاتب رسول صلى الله عليه وسلم :
عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8)وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(12)فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ(14)بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ(16)
وكان عتابا ولوما , بمثابة نقطة نظام , لعدم الاستعجال بخطوة قبل خطوة, أو بتغيير المنهاج الذي أعده الله لمعاملة , بل لمعالجة الذين كفروا.
وربما اشتهر بين المسلمين في تفسير هذه الحادثة, موضوع ابن أم مكتوم, والتفات الرسول عليه الصلاة والسلام عنه, متجها إلى من كان يجالسهم من الكافرين, إلا أن الجانب الآخر من الموقف لا يقل أهمية, بل إنه هو الأساس من وجهة نظري, حيث ينهى الله رسوله عن التصدّي بالاهتمام والشرح والبيان لمن استغنى. وإنما واجب الداعية أن يبدأ بالاهتمام والتركيز على من استجاب له ويريد أن يتعلم ويزداد اهتداء وإيمانا. فلا يلتفت عنه ويجهد نفسه مع الذين يناصبونه العداء ويحاربونه في دعوته. فهؤلاء يكتفي الداعية بتوجيه رسالة الله لهم وتهديده والقصص التي قصها سبحانه عن أمثال هؤلاء المكذبين من الأمم السابقة , وفعل الله فيهم. وفي ذلك تهديد ووعيد لمن يحذو حذو المكذبين المعاندين المحاربين للدعوة, ولن يجدي معهم نصح وإقناع وهم على هذه الحالة من التكبُّر والتجبُّر والغرور. فإنهم في هذه الحالة يجعل الله على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا, وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا. إلا أن الله سبحانه من كرمه ومنّه وجوده ورحمته, يوجّه لهم رسائل شديدة اللهجة, ويقص عليهم القصص المرهب لهم, حتى إن لانت قلوب بعضهم, وانكسر كبرياؤهم, وزال غرورهم, فإنهم بذلك يكونون مؤهلين لسماع الذكر ويتأثرون به. وهذا ما حدث من سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ, حيث أخرجها من ملكها وعرشها العظيم وجنودها إولي القوة وأولي البأس الشديد, وأراها قدراته التي وهبه الله, فكشفت عن ساقيها متخلية عن بقية كبريائها, وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين, ولم يكن ذلك ليحدث وهي على كبريائها وغرورها وسط جنودها وعرشها العظيم.
إذن المطلوب الاكتفاء في هذه المرحلة من الدعوة, بالاهتمام بالفئة الأولى من الذين أنعم الله عليهم, تلك الفئة الحريصة على خشية الله واستكمال إعلامهم وتعليمهم. ثم بالفئة الثانية من الضالّين, الذين يحتاجون إلى الهداية ويبحثون عنها, قبل الالتفات إلى الفئة الثالثة من المغضوب عليهم في هذه المرحلة , بل الاكتفاء بتوصيل تهديدات الله لهم مما نزل من القرآن.
استكمال بناء معرفة الإنسان ببدء خلقه وطعامه
في سورة العلق لخّص الله خلق الإنسان في جملة واحدة: (خلق الإنسان من علق)
ثم في الأعلى زاد فقال: (الذي خلق فسوّي, والذي قدّر فهدى),
ثم في النجم(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) تلخيصا لمرحلتي الخلق إنشاء من الأرض, وأجنّة في بطون الأمهات. ثم (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى. من نطفة إذا تُمنى)
ثم أكمل الله في سورة عبس توضيح بعض نعمه على الإنسان , متوجها إلى الفئة الثانية التي تحتاج إلى المزيد من التوضيح والبراهين قبل أن تؤمن , ولكنها غير مكذّبة وغير محاربة. وهي موجّهة أيضا إلى العقل الباحث المفكّر المنطقي , فقال سبحانه:
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)
إن الله يبين للإنسان ويذكّره بنعمه وآلائه , ويضع حياة الإنسان كلها بين قوسين , ويلومه على كفران نعم الله من الخلق والتقدير والهداية والموت والنشور , ويلومه على عدم الالتزام بقضاء ما أمره الله سبحانه. وهنا بدأ القرآن بالإشارة إلى أمر الله للإنسان, دون تفسير له, وإنما يبين سبحانه وتعالى للإنسان أنه يجب عليه أن يقضي ما أمره الله, أمام كل هذه القدرة , والنعم التي أنعم الله بها عليه.
وعن الطعام قال تلخيصا في الأعلى: (والذي أخرج المرعى, فجعله غثاء أحوى)
ثم يتوجه القرآن إلى الإنسان بالشرح والتفصيل لأمور الطعام وكيف يجهزه الله له , بدءا من صب الماء , وشق الأرض و إنبات الحب وغيره , متاعا لكم ولأنعامكم.
فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32)
الصاخّة حيث لا ملاذ إلا للّه:
ثم بعد هذا التوضيح , يصل القرآن إلى الهدف منه , وهو الإبلاغ باليوم الآخر :
فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ(33)
والإشارة إلي اليوم الآخر هنا فيها تنبيه وإسماع , يتناسب مع هذه الفئة التي تتوجه لها الدعوة في هذه المرحلة, فهم غافلون أو جاهلون أو ضالّون, ذلك مبلغهم من العلم , لهذا فالصاخّة , الصوت المصاحب لليوم الآخر مناسب للتنبيه.
ويجردهم الله من الظن بأن عزوتهم وعزتهم , هي في الإخوة والآباء والزوج والأبناء , فيوم الساعة , لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه, فلا ينقذ أحد أحدا , ولا ينفع لجوء أحد لأحد. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34)وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35)وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37))
يومئذ تبدو الوجوه حسب الأعمال التي قدمتها في الدنيا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ(38)ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ(39)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40)تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42) إذن الوجوه المسفرة, الضاحكة المستبشرة, هي وجوه المؤمنين المتقين, في مقابل وجوه الكفرة الفجرة التي عليها غبرة.
وخلاصة هذه الخطوة, أن الداعية عليه في المراحل الأولى من الدعوة:
- أن يتوجه فقط إلى من يستجيبون للدعوة , ثم إلى الضالين . وعليه أن يترك الذين كفروا, أي أخذوا موقفا عنيدا عنيفا من الدعوة , فلا يجالسهم ولا يحاول إقناعهم بنفسه في هذه المرحلة التي يبني فيها القاعدة الأولى من المؤمنين, ويكتفي مع الذين كفروا أو المعاندين, بأن يبلغهم كلام الله وتهديداته لهم دون مناقشة بعد ذلك, فسوف يأتي دورهم في الدعوة في مرحلة تالية.
- أما بالنسبة للضالين , فإنه يعمّق تعريفهم بالله, وبقدراته على الإنسان من خلقه إلى تيسيره للسبيل في الدنيا, إلى موته, إلى نشوره, وأنه مقابل ذلك عليه أن يقضي ما أمره. ويعمّق تعريفهم بقدرات الله في ما يوفره للإنسان من طعام, وقصّة ومراحل خلقه , بدءا من الماء, والأرض, والحب, والنبت بأنواعه للإنسان وللأنعام.
- ثم يعيد تذكيره باليوم الآخر, وتجريده من كل ما يظن أنه يمكنه الاستغناء به عن الله, حيث يفر المرء حتى من خاصّة أهله.
- وينتهي المصير إما إلى مصير المؤمنين بوجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة, أومصير الكفرة الفجرة, بوجوه عليها غبرة ترهقها قترة.
نسأل الله أن يجعلنا من أصحاب الوجوه المسفرة, الضاحكة المستبشرة, آمين