منذ البداية , ينشئ الله المؤمنين على الإخلاص, وعلى المفاهيم الصحيحة للدين, فلا يقفون عند مجرد التصديق والإيمان بالله وملائكته ورسله, ولكنهم ينفعلون بهذا الإيمان فيعملون بموجبه أعمالا لا يبتغى فيها إلا وجه الله. فكان التصديق بالحسنى علامته العطاء والتقوى, وإيتاء المال للتزكّي, ابتغاء وجه ربه الأعلى. وكان الذي يكذب بالدين هو ذلك الذي يدعّ اليتيم , ولا يحض على طعام المسكين.
وهنا في سورة الهمزة, يتوجه القرآن إلى فئة المؤمنين, ليزيدهم إيمانا, ويدربهم على البعد عن التمسك بمظاهر الدنيا, ليجعلها في أيديهم, ويخرجها من قلوبهم.
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ(1)الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ(2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3)كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ(5)نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6)الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ(7)إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ(8)فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ(9)
إن ذنب هذا الهمزة اللمزة , هو الغيبة والنميمة , وذكر عيوب الآخرين , والإيقاع بين المتحابين. ثم جمع المال وعدّه وكنزه وتنويعه, وإبعاده عن الدوران في المجتمع لصالح الناس, والانشغال بالمال أكثر من كونه أداه للحصول على المصالح والمنافع, وبالتالي يحسب أن ماله أخلده.
يهدد الله كل همزة لمزة بالهلاك , وبأن الله سبحانه سيلقيه منبوذا في الحطمة , التي تتحطم فيها كل الأشياء والممتلكات التي حرص على جمعها وكنزها , والحطمة نار الله الموقدة.
إن ذنب كل همزة لمزة , ليس في كفر بالله ورسوله, ولا قتل ولا زنا, ولا ترك صلاة ولا صيام, ولكن ذنبه هو شدة الحرص على المال, وسوء خلق في المعاملة.
إن هذا يدخل ضمن منهاج الله لتربية من آمن به واعتقد في البعث والحساب والجزاء. وهو ترشيد لخلقه حتى لا يأتى بصلاة وصيام وزكاة وصدقة وحج , ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وظلم هذا وسفك دم هذا. فتكون عاقبته هو عكس ما أراد وسعى له, فهو يحسب أن ماله أخلده, فينبذه الله في الحُطمة.
إن معاناة المسلمين من داخلهم ربما تزيد عن معاناتهم من أعدائهم. وإنما تأتي هذه المعاناة بسبب أن كثيرا من المسلمين قد ورثوا الدين عن آبائهم, دون أن تتأصل فيهم وتترسّخ العقيدة السليمة الصحيحة, وتملأ قلوبهم, وتظهر آثارها على تصرفاتهم في معاملاتهم وأموالهم, والتهائهم بالدنيا ومظاهرها, وبالتالي يجعلونها قبل كل شيء, فتراهم يخالفون مقاصد دعوة الله , ولا يطيعون الله ورسوله , ومظاهرهم الخارجية توحي بأنهم ملتزمون بالطاعة, فينخدع الناس بهم , ويكونون في النهاية كثيرا ولكنهم غثاء كغثاء السيل, وينزع الله من قلوب عدوهم المهابة منهم , ويقذف في قلوبهم الوهن, حب الدنيا وكراهية الموت.
إذن , فمن البداية , يؤسس الله المؤمنين على مصداقية الإيمان وسلامة العقيدة من المراءاة والنفاق وسوء الأخلاق , وينزع من قلوب المؤمنين حب الدنيا وكراهية الموت , وهو الوهن الذي نعاني منه اليوم ويودي بنا إلى الحالة المهينة التي عليها المسلمون , والتي تحسب على دينهم, ودينهم منها براء.
إن الله سبحانه, وقبل أن يأمر بالعبادات , يبني الفرد المؤمن من الداخل, ويربيه رب العالمين على الزهد في الدنيا, وأن تكون في يده لا في قلبه. فلا ينشغل عن عقيدته بجمع مال وعدّه وتعديده.
فإن اتبع المؤمنون منهاج ربهم , فإن معاملاتهم سوف تنضبط أولا فيما يخص البعد عن حب الدنيا والحرص عليها وعلى مظاهرها , ثم هم بعد ذلك يلتزمون بسهولة ويسر , بكل ما يأمرهم الله , وما ينهاهم عنه سبحانه. فيفوزون في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
والخلاصة: أن على الدعاة إلى الله , أن يدربوا من اتبعهم من المؤمنين على الزهد في الدنيا , وعدم الحرص عليها , وعلى حسن الخلق في المعاملات مع الناس ومع الله, كما يعودوهم على الصلاة وأكثرمما يعودوهم على حفظ آيات كتاب الله , وهم لا يفهمونها ولا يعملون بها ولا ينفعلون بمعانيها. و باختصار, أن يربّوهم على الإخلاص والصدق والزهد.