سورة النمل تبدأ بداية فريدة. يوجه الله فيها الحديث للمؤمنين, (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين* هدى وبشرى للمؤمنين)
وكانت قد سبقتها سورة طه وسورة الشعراء يتوجه فيهما الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى), و(طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)
وهي تقع ضمن مجموعة السور التي تبدأ بحرف طا. وكلها نزلت في فترة المقاطعة الكبرى, والصحيفة الظالمة, التي اتفقت فيها قريش على قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم, بعد إسلام الحمزة وعمر رضي الله عنهما, وبعد خروج المسلمين إلى الحبشة في الهجرة الأولى, ومناصرة ملكها لهم. وحين علم بالمؤامرة أبو طالب وبنو هاشم, عشيرة رسول الله الأقربين, اتفقوا- مؤمنهم وكافرهم- على حماية رسول الله في الشِّعب, ومنعهم من كفار قريش, الذين عادوا فاتفقوا على مقاطعة الشِّعب تماما, فلا بيع ولا شراء, ولا طعام ولا نكاح, حتى أكل الهاشميون أوراق الشجر والجلود, وتوقفت الدعوة عن الانتشار خارج الشعب.
أنزل الله سورة طه, لتثبيت رسول الله ووضع معايير الرضى والشقاء, حيث يحول الإيمان قمة الشقاء إلى الرضى بعد الإيمان بالله,
ثم سورة الواقعة التي أنذر الله بها الذين كفروا بالواقعة خافضة رافعة. وبأنهم آكلون من شجر من زقوم, فمالئون منها البطون.
ثم في سورة الشعراء, فتح الله لرسوله الأمل في أن ينتصر الإيمان على الكفر, كما نصر سبحانه سبعة من الأنبياء من قبل, مرتبة قصصهم حسب مستوى الصعوبات التي واجهوها.
ثم هنا في سورة النمل, يبين الله سبحانه أن لكل مؤمن دورا في الدعوة إلى سبيل ربه, بما وهبه الله من نعم وفضل. بدءا من تسع آيات مبهرات منحها لموسى عليه السلام, إلا أنهم لما جاءتهم آيات الله مبصرة قالوا هذا سحر مبين, وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا, فعاقبهم الله على فسادهم.
وبين سبحانه أن نصيحة نملة صالحة, ساهمت في إنقاذ أمتها من التحطيم تحت أقدام سليمان وجنوده وهم لا يشعرون,
كما أن الهدهد بقدرته على الطيران والسفر البعيد والاستطلاع, بعين المؤمن, كان سببا جعله الله لهداية أمة من الناس كانوا يسجدون للشمس من دون الله, وزين لهم الشيطان أعمالهم, فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
كما أن عفريتا من الجن يملك القوة والأمانة عرض المساهمة في هداية سبأ إلى الإسلام, وعرض الذي عنده علم من الكتاب استخدام ما وهبه الله في الدعوة إليه.
وعلى الجانب الآخر, فإن تسعة رهط من قوم صالح كانوا في المدينة يفسدون في الأرض ولا يصلحون, تآمروا على قتل صالح وأهله, ومكروا مكرا, كما فعل رهط قريش, ولكن الله عاقبهم على مكرهم, وأنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون,
كما انتقد لوط قومه لعصيانهم وهم يبصرون, وهم جاهلون,
ثم أثنى الله على عباده الذين اصطفى, وعدد الآيات الكونية التي كان ينبغي أن يهتدي بها الناس.
في السورة تكرار للإسلام كنتيجة لعرض آيات الله الكونية على الناس,
كما أن فيها تكرارا لاسم سليمان عليه السلام, الذي يشتق من الإسلام أيضا, وكانت رسالته للناس رسالة علم وإبهار بآيات الله الكونية, وآيات علمية تتمثل في تعلم منطق الطير, وتسخير الجن والإنس والطير فهم يوزعون, وبناء صرح ممرد من قوارير, والإتيان بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه, حتى أسلمت الملكة مع سليمان لله رب العالمين.
كما أن العلم بمرادفاته تكرر في السورة, ففيها أكثر تكرار في سور القرآن لجذر (علم) ومرادفات العلم,
والصعوبات التي قابلت الدعوة المذكورة في النمل هي صعوبات مقابل آيات علمية, وآيات كونية:
فآيات الله التي جاءت فرعون وقومه كانت أكثر الآيات الكونية والعلمية عددا التي أتى بها أنبياء الله إلى قومهم. وهي تسع آيات إلى فرعون وقومه, إنهم كانوا قوما فاسقين, وفي السورة أن فرعون وقومه جحدوا بآيات الله التي جاءتهم مبصرة, بعد أن استيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا.
تتلوها آياته سبحانه على يد سليمان, رغم تطورها العلمي الذي لم يصل إليه العلم حتى اليوم في مطالع القرن الحادي والعشرين, وكلها آيات علمية غالبة للعقل
إن ذكر الآيات الكونية والتنبيه إلى قدرات الله فيها, يؤدي إلى الإسلام , إلى التسليم لله بأنه هو الخالق البارئ المصور, وبأنه على كل شيء قدير.
لذا نجد أن مرادفات مسلم أكثر ما تكون في سور القرآن في سورة النمل, فيتكرر الجذر فيها 14 مرة, في حين أنها تتكرر في البقرة وفي آل عمران 13 مرة
ترادف العلم وآيات الله الكونية مع الإسلام في السورة من أولها إلى آخرها. [وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6)]
ترتيب القصص ليس على أساس تاريخي, وإنما على أساس تنازلي لعدد الآيات التي جاء بها الله على أيدي أنبيائه, فموسى أرسله الله في تسع آيات إلى فرعون وقومه, وسليمان أرسله الله بعلم منطق الطير, وتسخير الجن والإنس والطير فهم يوزعون, والإتيان بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه, ثم ببناء صرح ممرد من قوارير. حتى أسلمت.
وصالح كان إهلاك الكافرين من قومه آية لقوم يعلمون,
وانتقد لوط قومه لإتيانهم الفاحشة وهم يبصرون, واتهمهم بالجهل الذي كان سببا في أفعالهم المشينة,
ثم لفت الله انتباه الناس إلى قدراته في صورة مقارنة عقلية بينها وبين ما يشركون:
وسلام على عباده الذين اصطفى
قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(59)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(62)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(63)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(64)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(65)
بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِينَ(66)
والتفات إلى الآيات الكونية بأمر الناس أن (سيروا في الأرض فانظروا)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ(74)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(75)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(76)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(84)
وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(93)
آيات القرآن وكتاب مبين
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ(1)هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(3)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ(4)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْأَخْسَرُونَ(5)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6)
تتفق مع طه والشعراء والقصص في ط
ومع يس والشعراء والقصص والشورى في س
طس جزء من آية وليس آية منفصلة
تنقص عن الشعراء والقصص بحرف ميم
لا شك أن الله سبحانه كلف أمتنا أفرادا وجماعات وحكومات بمسئولية تبليغ دعوته إلى الناس, فقال:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) آل عمران
وكل فرد في هذه الأمة مسئول عن دين الله, وعن الدعوة إلى سبيل الله, والتبليغ عن رسول الله الذي أوصانا وأمرنا فقال: بلغوا عنّي ولو آية.
وتختلف وسائل الدعوة باختلاف الأحوال, من القتال في سبيل الله, حين يدعو داعي الجهاد, إلى الدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة في كل أحوال السلم, أو في زمن لا يستطيع فيه المؤمن قتالا في سبيل الله.
والعلم وسيلة من الوسائل الهامة في الدعوة, ولإصلاح المجتمع, والأمة, والتي يمكن أن يشارك بها المؤمنون لأداء واجبهم نحو ربهم, كل على قدر استطاعته.
الشباب الذين يتعلمون العلم ويتثقفون بثقافات متعددة, ماذا فعلوا بهذا العلم؟
ويختلف الناس في استعمال العلم, فمنهم من يستخدمه في طاعة الله والدعوة إلى سبيله, ومنهم من يستخدمه للصد عن سبيل الله والسير في طريق الشيطان.
ولو أخذنا مثالا لعلوم الحاسب الآلي وشبكة الاتصالات الدولية (الإنترنت) سنجد كثيرا من الشباب فور تعلمهم لفنون الاتصالات, يستخدمونها في ضياع الوقت, بل في المعصية, فيدخلون على المواقع الإباحية, ويتواصلون مع الجنس الآخر للتسلية والدخول في علاقات تضيع الوقت والعمر دون فائدة.
وسنجد الكثيرين من الشباب يأخذون هذه الوسيلة من علوم الاتصالات والحاسبات, فيستعملونها ليتم الله بهم نوره, فيؤدون حق الله عليهم في الدعوة إلى سبيله والتبليغ عن رسوله, وحمل جزء من مسئوليته التي أورثناها الله, الذي قال : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)
وكل فرد في هذه الأمة مسئول عن هذا الدين,
فكما أن علماء القرآن والتفسير والفقه والتوحيد لهم دور في بيان آيات الله القرآنية, فأنت أيضا لك دور في بيان آيات الله الكونية, بما تعلمته وتتعلمه منها في دراستك وفي ممارساتك لحياتك وأعمالك.
وكما أن القرآن فيه آيات يعلمها الفقهاء وعلماء التفسير, ففيه آيضا آيات أكثر يعلمها المتعلمون القارئون لآيات الله الكونية. وهذه مسئولية كل فرد منا, ولا تقتصر على مسئولية علماء الفقه والتفسير.
من مقالة للأستاذ عطية الشيخ في مجلة الرسالة القديمة, تعليق رجاء النقاش حديثا
علوم الإسلام هي الصناعة والزراعة والطب والهندسة وما يتصل بها,
أما علوم الكلام والفقه والأصول وما جاراها, فهي تخصصات لعلماء يستنبطون الأحكام والفقه.
إن القرآن الكريم وهو الأصل المتفق عليه للإسلام, والمصدر القطعي الثبوت والدلالة, لم يتعرض للبحوث التي سموها علوم الإسلام إلا بصورة محدودة, حتي أن الصلاة وهي عماد الدين لم تتبين فيه أوقاتها وطريقتها, لا استهانة بها, ولكن لأن أهم أركانها صفاء القلوب, وخشية المعبود, وأما أقوالها وأفعالها فهي يسيرة التناول علي الذكي والغبي,
وكذلك الزكاة والصيام والحج, وهي قواعد الإسلام, يشير إليها القرآن اشارات خفيفة تاركا كل تفصيل وتوضيح للروح لا للعقل, وللذمة والضمير, لا للحدود والقياسات.
أما البحث في النفوس وخلقتها, والأجنة ونموها, والأمم وتاريخها, والسماء وما بناها, والكون وما يصير إليه, والرزق وما يحصل به, والأمم وكيف تحيا ولماذا تموت, وحسبان الشمس والقمر, وما في الأرض والسماء من قوي وعبر, فهي كل القرآن, وهي موضوع العلم الحديث, ومن يتبحرون فيها هم علماء الدين الذين يخشون الله ويخدمون الأمة ويرفعون شأن الإسلام
إن الأمة أحوج إلي فهم علوم الدنيا من كيمياء وطبيعة ورياضة وطب وهندسة وغيرها من العلوم المشابهة, لأنها علوم تعين علي الحياة وكسب الرزق والقوة وفهم قدرة الله, وهو ما أمر به الدين, بل هذه العلوم مأمور بالبحث فيها بنص القرآن, وما من علم حديث إلا وله آيات تدل عليه, وما أكثر الآيات التي تحض وتأمر بالتعمق في العلوم الكونية.
أما ما يسمونه بالعلوم الدينية, بحسب الوضع الذي صارت إليه, فليس لها سلطان في كتاب الله العزيز, أو ماضي السلف الصالح, ولم يفد منها الإسلام إلا الضعف والتفرق والضياع,
فيا ليت الذين أهملوا مؤلفات ابن الهيثم, وقانون ابن سينا, ومسائل جبر الخوارزمي.. يا ليت الذين ضيعوا هذا المجد وحاربوه, وجروا وراء الفرق بين المعجزة والكرامة, والإجماع والقياس, والحيض والاستحاضة.. يا ليت هؤلاء يعلمون أن العلوم الأولي, أي الكيمياء والطبيعة والهندسة وغيرها, أقرب إلي الله من الثانية التي يسمونها بالعلوم الدينية. والعلوم الأولي هي أدخل في الإسلام من العلوم الثانية. ولو علموا ذلك لما أصبح المسلمون عبيدا للأوروبيين الذين وقعوا علي ذخائر العرب فانفسح أفقهم العقلي, ووصلوا إلي هذه المخترعات التي أثاروا بها الأرض وعمروها, وحددوا الكواكب وفحصوها, وحللوا العناصر وركبوها, فدانت لهم الأمم وخضعت لهم الشعوب.
والمزيد من سورة النمل في باب (أحسن القصص – سليمان عليه السلام)