إن السيرة النبوية, قد تناولها بالتأريخ والتسجيل والتدقيق بعض الصحابة والتابعين , متتبعين الأحاديث النبوية, وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم, والتي جمعها ومحّصها علماء الحديث, وركزوا جهودهم على الأقوال والأفعال , حتى وصلت إلينا محفوظة كسجلّ تاريخي.
وجاء علماء التفسير, وأشاروا إلى القرآن المكّي والقرآن المدنيّ, وأفادوا من ذلك في فهم وتدبّر القرآن.
ثم جاء علماء الفقه والعقيدة والسلوك, فاستنبطوا الأحكام والمبادئ والمعاني من السيرة المسجّلة, بالإضافة إلى القرآن والحديث, واهتم العلماء بترتيب نزول بعض الآيات ومناسباتها فيما يخص استنباط الأحكام الفقهية التي اقتضت ذلك, وفيما يخص الأحداث التاريخية.
وفي مطلع القرن الماضي, بدأ أصحاب المذهب الذاتي في دراسة السيرة , يقحمون رؤيتهم الذاتية واتجاهاتهم الفكرية والسياسية والدينية على تفسير أحداث السيرة, وحكموا عليها بمقاييس العلم التي وصلت إليهم, فقبلوا ورفضوا بعض ما صح نقله, ورأوا أن هذا من واجب المؤرخ , لا مجرد سرد ليوميات وتأريخ لأحداث.
ثم ركزت بعض الكتابات على فقه السيرة , لاتخاذ العبرة والدروس التطبيقية منها, بحيث يصل القارئ إلى ما ينفعه في حياته اقتداء بالأسوة الحسنة في رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا يتناولها كقصة وأحداث حدثت مرة في التاريخ.
وهذه كلها نظرات مختلفة الجوانب للسيرة النبوية الشريفة, تناولتها بالترتيب التاريخي والتسلسل الزمني لها, واستخرجت منها العبر, وكأن سيرة النبيّ هي قصة حياته بالتسلسل الزمني, أو كأنها يوميات حياة محمد صلّى الله عليه وسلم.
وقد تكون رؤيتي للسيرة من زاوية جديدة , تأخذها أساسا من كتاب الله , وتربطها به من الناحية المنهجية, فتخرجها من الحدث التاريخي , بأشخاصه وأماكنه وتواريخه , إلى المنهاج المرتّب الخطوات موضوعيا وليس تاريخيا, والذي يمكن تكراره في أي مكان وفي أي زمان, وفي كل مكان وزمان, وباعتبارها الخطوات التي يمكن اتباعها لبناء أو لإعادة بناء الفرد والأمة, والتي بها نتلمّس خطوات النبي منهجيا وموضوعيا, فنتوجه بها إلى الضالّين من الناس عسى الله أن يهديهم بنا.
كيف يكون ذلك؟
هل في السيرة النبوية الشريفة أحداث أهم من نزول آيات كتاب الله هدى للناس؟ … بالتأكيد فإن الجواب هو “لا”.
إن تناول كتاب الله بالدراسة بترتيب نزول سوره, التي جمع صلّى الله عليه وسلم آياتها المنزّلة في أزمنة مختلفة, بوحي من الله , هذا التناول يمثل السيرة النبوية, موصوفة بأهم وأخطر أحداثها, ألا وهو نزول آيات الكتاب الحكيم , ومجموعة بشكل موضوعي في سور الكتاب, وليس بشكل تاريخي بترتيب نزول الآيات… حيث يمثل ترتيب نزول السور, ما شاء الله أن يحفظه من أحداث حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلم , وبالشكل الذي أراده سبحانه وتعالى. كما حفظ في كتابه أهم أحداث سيرة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر أنبيائه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه. وكانت أيضا مرتبة منهجيا وموضوعيا, وليس تاريخيا.
ومن هنا أيضا , فإنني أتناول تدبّر كتاب الله بترتيب نزول سوره , من حيث أنه ترتيب منهجيّ للسيرة النبوية , يجمع أحداثها بشكل موضوعي وليس بشكل تاريخي , فتكون هذه الرؤية هي السيرة النبوية من القرآن الكريم, وفي نفس الوقت هي نفسها..
منهاج بناء الفرد والأمة
وبالتالي فإن قراءة السيرة بهذا الأسلوب , ستضعها في الشكل الذي يمكن تكراره والعيش به وبناء الفرد والأمة به.
وهذه زاوية من زوايا قراءة سيرة النبي, وكل زوايا قراءة سيرته صلّى الله عليه وسلم, هي زوايا جميلة وعطرة ومنيرة.
ولأضرب أمثلة لهذه الرؤية من خلال ممارسات الحياة, ثم أترك المجال لتأكيدها, من خلال الرؤية نفسها:
- حين نريد أن يسجل تاريخ حياة إنسان, فإننا يمكن أن نسجلها في شكل يوميات تؤرخ لأحداث حياته تاريخيا, دون ترتيب موضوعي. وهي مرحلة لابد منها للحفظ والتأريخ, ولكنها غير كافية..
أما حين نريد أن ننصح أحدا وننقل خبرات هذا الإنسان لغيره , فإننا نجمع من سيرته الذاتية الأحداث الموضوعية المرتبطة بالموضوع الذي نريد أن ننصح به, فنجمع عن عمله وخبراته فيه في موضع, و نجمع في موضع آخر عن تربيته لأولاده , وفي موضع ثالث عن خبرته في تزويج أبنائه, وهكذا, وبصرف النظر عن الترتيب التاريخي لحياته. - ومثال آخر: في الشركات والمؤسسات الاقتصادية أو الخدمية, تقوم الإدارة المالية بتسجيل الإيرادات والمصروفات بشكل ابتدائي في قيود اليومية الابتدائية, حسب الترتيب التاريخي لها دون تصنيف , لمجرد إثبات حركة الخزينة وحالتها, وهذه مرحلة هامة من التدقيق والضبط , إلا أنها غير كافية.
ثم يقوم المحاسبون بتصنيف الحسابات وعمل التقارير, بالشكل الذي يمكن للإدارة أن تستفيد به في الحكم على الأداء واتخاذ القرارات المناسبة في تطويره.
ولله المثل الأعلى , فإن الله سبحانه قد جمع سيرة النبي عليه الصلاة والسلام موضوعيا , بجمعه لآيات السورة الواحدة مهما اختلفت أزمنة نزولها.
وبتقديره سبحانه, أعلمنا بترتيب نزول السور الذي به نرتب الخطوات البنائية للفرد والأمة , أو (البرمجة ) التي يمكن إعادة تطبيقها وممارستها والعيش بها مرات ومرات كلما أردنا أن نبني فردا أو أمة, وأردنا التحوّل بمنهاج الله, من الكفر إلى الإيمان , أو من الضعف إلى القوة , أو من التخلف إلى التقدم , أو من الظلمات إلى النور.
إن التسلسل التاريخي في تسجيل السيرة يفيد في حفظها.
أما حين نريد الاستفادة بها وتكرار الحياة بها , فإن كتاب الله قد سجلها تسجيلا موضوعيا ومنهجيا في شكل ترتيب الآيات في السورة الواحدة الذي لم يعتمد التسلسل التاريخي دائما, وجعل التسجيل التاريخي مرتبطا بترتيب نزول السور كمنهاج بنائي , بالشكل الذي يمكن تكراره في كل وقت وحين وظروف.
وللترتيب التاريخي لسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم خصوصية لا تتكرر. أما الترتيب المنهجي والموضوعي , فإنه يمكن أن يتكرر دائما… فقد بدأ صلّى الله عليه وسلم دعوته وحيدا, ثم انضم إليه مجموعة من صحابته الأقربين, وظلت الدعوة سرية لفترة , ثم جهر بها. كما أنه لم يبدأ بفرض الصلاة والصيام والزكاة والحج, وتحريم للخمر والربا. وإنما تدرّج كل ذلك مع الزمن. أما نحن من بعده, فإننا لا داعي لأن نبدأ دعوة سرية, فالعالم مفتوح الآن لتبادل الآراء, ووسائل الحوار متنوعة وميسّرة. كما أننا لا يمكن أن نبدأ بغير الصلاة والصيام والزكاة, ولا يمكن أن يؤجل مسلم تحريم الخمر والربا لحظة واحدة .
ولم يبدأ صلّى الله عليه وسلم في التعامل مع المؤمنين والذين آمنوا والكافرين والذين كفروا والمنافقين وأهل الكتاب, والذين كفروا من أهل الكتاب من أول يوم, حيث كان الضلال يسود بين الناس. ولم تكن كل هذه الطوائف متواجدة منذ بداية الدعوة. ولكننا من بعده لابد أن نتعامل مع جميع الطوائف منذ البداية, فالجميع موجودون من اللحظة الأولى.
ولهذا سنجد في ترتيب نزول السور ما يعين على ذلك,
ولأضرب مثالا:
كانت كلمة: (اقرأ) هي أول ما أنزل الله على رسوله في سورة العلق في آيات خمسة آخرها (علّم الإنسان ما لم يعلم).
ثم بعد سنوات, وبعد الجهر بالدعوة, ظهر من ينهى عبدا إذا صلّى, فأنزل الله (أرأيت الذي ينهى . عبدا إذا صلّى) إلى آخر السورة, وأمر صلّى الله عليه وسلم بوضعها في موضعها من سورة العلق.
وبناء على المنهاج الذي أستنبطه في هذه الرؤية, فإن البداية المنهجية لبناء الفرد والأمة تكون بكلمة (اقرأ). وتشمل نفس الخطوة, لفت اهتمام الإنسان الضالّ الذي يطغى أن رآه استغنى, والذي يقابله الدعاة إلى الله من أول يوم , والتعامل مع عبد إذا صلّى, فيزيده الله هدى , ويكلفه بتكاليف الإيمان, والتعامل مع الذي ينهى عبدا إذا صلّى الذي سيواجهنا من اللحظة الأولى.
ومثال آخر, ثم أترك المجال للمزيد من خلال الصفحات التالية:
أنزل الله سورة المزّمّل في أوائل ما أنزل على رسوله , أما الآية الأخيرة فقد أنزلها في المدينة , وأمر صلّى الله عليه وسلم بوضعها في موضعها من سورة المزّمّل, إن هو إلا وحي يوحى, ولم يأمر بوضعها في سورة البقرة مثلا, وكلها آيات الله.
والآية الأخيرة تتحدث عن اشتراك طائفة من الذين مع رسول الله في قيام أجزاء من الليل فيقرأون ما تيسر من القرآن, ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. ولم يكن هذا ممكنا عند بداية دعوة رسول الله حيث لم يكن أعضاء تلك الطائفة من الذين معه موجودين من اللحظة الأولى, كما لم تكن الصلاة والزكاة قد فرضت بعد. وأما نحن من بعده , فلابد أن نبدأ من اليوم الأول كمجموعة , تقوم من الليل على قراءة ما تيسّر من القرآن , وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتستغفر الله. وبذلك فإن سورة المزّمّل كاملة- وهي الثالثة بترتيب النزول- تكون هي الخطوة الثالثة في الترتيب الزمنيّ , اللازم اتخاذها في تأهيل من يقومون بالدعوة بعد رسول الله.
إن أول طبيب لم يرتب دراسته كما هي مرتبة الآن في كليات الطب. وبعد أن استقر الناس على أساسيات علوم الطب, تم ترتيبها في منهاج دراسي يتكرر كلما أردنا لإنسان أن يصبح طبيبا, ولا يصح أن نبدأ كما بدأ أول طبيب ولا أن نرتب منهاج الدراسة بنفس الترتيب الذي سار عليه.
وللموضوع بقية في نفس الباب إن شاء الله