بين الله سبحانه في سورة القصص أن المؤمنين عليهم أن يكونوا على ثقة بالله وقدراته, فليؤد كل فرد دوره في مواجهة التحديات التي تهدد الحضارة بالهلاك والدمار, والله معهم ينصرهم حتى وإن لم يرق جهدهم وما استطاعوا للحد الذي يكفي لتحقيق النصر, وما النصر إلا من عند الله, وإن ينصركم الله فلا غالب لكم…
فضرب الله سبحانه المثل لذلك, حيث أخذ موسى عليه السلام رضيعا, وحرمه من حضن أمه, فألقاه في أحضان عدوّه, وحرم عليه المراضع, وحرمه من أمنه وبلده وأهله وسمعته حيث قال له المصري (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) ),
وانتشرت السمعة في المدينة حتى ائتمر الملأ به ليقتلوه, فخرج منها خائفا يترقب,
وتوجه تلقاء مدين حيث لا مأوى ولا بيت ولا أهل ولا عمل وبلدة, ولا سمعة, (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)) والظل يعني أنه بلا مأوى ولا سكن.
فرد الله له كل شيء:
الرزق (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)
والطمأنينة والنجاة بعد الخوف (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25),
والسمعة والشفاعة الحسنة (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
والزوجة والأهل والعمل والسكن والرزق: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ)
والرحمة والشفقة (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ)
والصحبة والمعاشرة الصالحة (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) ) ,
ونصره على أعتى عتاة التاريخ فرعون الذي ادعى الألوهية, وكان حاكما طاغية,
…. وبالتالي فأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء, ولله الأمر من قبل ومن بعد, وما النصر إلا من عند الله.
هنا تتكامل جهود القائد مع خبرات وأعمال الأفراد:
- فيساعدهم الله ويربط بين أعمالهم وبين عونه ودعمه, فيتكامل بناة الحضارة مع نعمة ربّهم وحفظه,
- ويواجهون المخاطر والصعوبات والتحديات التي تهدد حضارتهم ووجودهم, يواجهونها بثباتهم ويقينهم في ربهم, وأفعالهم بما استطاعوا من قوة,
- ثم في البداية وفي النهاية بقدرة الله وحفظه لمن يسير في طريقه وعلى صراطه المستقيم.
في حين أن قمة الثراء والكنوز والزينة لم تكف لحفظ قارون الكافر بنعمة الله, والباغي على مجتمعه والمانع ثروته من الدوران لمنفعة الأمة وبناء حضارتها, وعدم قبوله لنصيحة الناصحين واعتقاده أنه بما أن الله آتاه هذه الكنوز على علم عنده, أن يكون هذا مبررا لأن يتصرف في ماله دون مساءلة ودون مصلحة قومه, فينهي الله كل ثروته ومظاهر زينته, وينهي معها تمنيات الكسالى من قومه الذين يريدون الحياة الدنيا, وينسبون مظاهرها إلى الحظ لا إلى العمل الصالح والإيمان القوي, فيخسف الله به وبداره الأرض, فلا يترك ثروته لتزيد الكسالى كسلا, ولكن الله يرفع قيمة العمل ويحط من قيمة الثروة التي لا تنفع الناس (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81).
وفي النهاية فإن الله سبحانه يضع الدار الآخرة هدفا أسمى للناس كي يعملوا بإخلاص في عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية على قواعد الإخلاص والإيمان, لا على قواعد العلوّ في الأرض والفساد (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
ثم يضع سبحانه قواعد الحساب في الدنيا والآخرة: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
ويهوّن الله من شأن أعلى قوة سياسية وعسكرية لفرعون وأمثاله, ومن أكثر مظاهر الثراء والزينة لقارون وأمثاله, بأنه يهلك كل المفسدين وغير المخلصين, ولا يبقى إلا وجهه سبحانه وكل ما يرتبط مخلصا به: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)