لو أن الأمر كان قد اقتصر على النصيحة والإمامة والعقيدة, فدُعِي الناس لها, فاتبعها من اتبعها وخالفها من خالفها, فكان من خالفها يسير على هواه في سلوكه وتصرفاته, فلا يلتزم اجتماعيا بما يلتزم به المتبعون, فإن حدث ذلك فسوف نرى من يسرق, ومن يقتل, ومن يزني, ومن يروّع الناس بحجة أنه لا يقتنع بالعقيدة.
..ولكن حضارة القرآن ومنهاجه, في نفس الوقت الذي يقول الله فيه لرسوله ولمن يقود بأمر الله من بعده: (فذكّر إنما أنت مذكّر, لست عليهم بمسيطر) ويقول له: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟) فإنه يقول له: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) ويقول: (وأمرت لأعدل بينكم) ويقول: فاحكم بينهم بما أراك الله) فهو مسيطر على الناس كسلوك وتصرفات, وليس بمسيطر عليهم فيما يعتقدون. فمن يخالف شريعته يتعرض لعقوبته, مهما كانت عقيدته.
وإن كان لا إكراه في الدين, ولا يقبل الله دين منافق ولا يقهر سبحانه أحدا على دينه, فإنه في نفس الوقت, لا يترك الذين كفروا يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا, فلابد أن يمنع تأثيرهم السلبي على المجتمع وعلى من اختار الدين بعقله وقلبه دون إكراه.
وهنا لابد من قيادة قوية عادلة حكيمة, تمكن لحرية الاختيار, وتحميها بالقوة, كما تمنع من اختاروا الكفر أن يعيثوا في الأرض فسادا بقوتهم وسلطانهم, وتمنع الفجار من ممارسة فجورهم مهددين الآمنين من الناس في حياتهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم.
إن تحولا هاما في خطوات المنهاج ينبغي أن يحدث, حيث أن الاكتفاء بالنصيحة لا يبني حضارة وسط أهواء الناس ووساوس الشياطين, بل لابد من قيادة الناس مؤمنهم وكافرهم إلى العمل بشريعة الله والحياة في كنفها.
والقيادة لا تقتصر على قائد فقط, ولا على أمة قائدة فقط, ولكنها منظومة كاملة متكاملة, تشمل الحال والمستقبل, وتشمل العالمين, وتشمل المتبعين والمخالفين وكيفية التعامل مع كل منهم, هي قيادة لكل الطوائف والعقائد, ولكل الخلق المكلفين الذين يمكن أن يكون لهم تأثير على الإنسانية وحضارتها…
لهذا فإن منظومة القيادة تشمل الآتي:
قائد له مرجعية من المنهاج, يتمثل قمم القيادة في كل أشكالها, في الحاكم, وفي قيادات الدولة والمؤسسات, والقيادات الخاصة في الناس, ويتجنب قيادات الطغاة والأشرار والفجار..
وأمّة قائدة تتبع المنهاج البنائي للحضارة, ولا تتبع من دونه أولياء, وتتجنب أسباب انهيار الحضارات السابقة فلا جدوى لقائد منفرد دون أمة قائدة..
حيث أن المنهاج يشمل العالمين, فإنه لابد أن يبين للقيادة رؤيته في التعامل مع بقية الخلق المكلفين في العالمين, من الجن
وأن يكون للقيادة رؤية في التعامل مع الذين لا يقتنعون بالمنهاج حتى لا يقفوا حجر عثرة في سبيل تطبيقه لبناء الحضارة الإنسانية التي يسعى إليها, والتي هي في حاجة إلى جهد كل فرد فيها, والتي من أهدافها الإصلاح حتى لمخالفيها.
ولابد أن يكون للقيادة مرجعية, تلتزم بها, حيث أن الخطأ في مقام القائد غاية الخطورة على الأمة كلها, بل وعلى الناس أجمعين, فيحدد الله في سورة الفرقان مرجعية القيادة
وللملائكة في منظومة القيادة دور, فالقيادة لها بصيرة ونظرة للمستقبل, فلابد لها من رؤية وخيال وابتكار وتطوير وفكر استراتيجي, ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله يرسل به ملائكته, بإيعاد بالخير تصديق بالحق, أو بوسوسة من الشيطان يوحي زخرف القول غرورا بإيعاد بالشر, وتكذيب بالحق
ثم لا تكتمل منظومة القيادة, بغير نظام لتأهيل الذرية على القيادة وزراعتها فيهم منذ النية المنعقدة لوجودهم, إلى أن يصلوا إلى المكان العليّ في بنيان الأمة صاحبة الحضارة, وكيفية معالجة ما يهلكهم ويفسدهم, فنضمن بذلك تواصل الأجيال وتواصل القيادة والخلافة..
ومن هنا يبدأ القرآن بترتيب نزوله في بناء منظومة القيادة…