وهنا, يبدأ الله في بيان الوضع الحقيقي للمحاربين, وما كانت عليه حالتهم حين دعوا للخروج للقتال, فكان فريق منهم كارهين, كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
وحين وعدهم الله بتحقيق أحد أوجه الفوز, إما النصر في المواجهة, أو الفوز بالغنائم, ودوا لو أن غير ذات الشوكة تكون لهم. أي أنهم لم يرغبوا في الجهاد, وكانوا يؤثرون أن يفوزوا بالغنائم. والآن بعد تحقيق النصر وقطع دابر الكافرين, ينسب كل منهم الفضل في النصر لنفسه. إلا أن الله سبحانه هو الذي قضى بهذا النصر, ووفر كل أسبابه, ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
هناك عناصر وأسباب للنصر؛ عادة ما تكون غائبة عن المقاتلين, وحتى في السلم, هناك عناصر للفوز والنجاح تغيب عن الفائزين؛ فيعجب كل بنفسه, ويظن أنه وحده وبجهده قد حقق كل ذلك, هنا يبين الله العناصر الحقيقية للنصر….
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
إن الله يرسل مددا من الملائكة ليبشر المقاتلين في سبيله ويطمئن قلوبهم, إلا أن النصر لا يتحقق حتى بتدخل الملائكة, وإنما هو من عند الله وحده لا شريك له.
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
إن المقاتلين لو فرّ النوم من عيونهم, فإنهم لن يتقووا على القتال, بل ستهتز أيديهم, مهما كان معهم من سلاح وعتاد, إذن فلو غالبهم النعاس في تلك الظروف, فبإذن الله وأمنة منه ..
.. كما يمكن أن يحرمهم الماء. إن نزول الماء من السماء بكيفية معينة, يحقق مكاسب للمقاتلين من الطهارة وإذهاب رجز الشيطان عنهم, والربط على القلوب وتثبيت الأقدام, والماء وكل ما يحققه منّة من الله, وبيد الله أن يجعل الماء نعمة كما في هذه الحالة, أو أن يجعله نقمة كما في حالة قوم نوح.
.. وعند القتال في سبيل الله, فإن الله يتدخل تدخلا مباشرا في المعركة, بل هو جلّ وعلا يقود المعركة, فالملائكة يأخذون أوامرهم منه سبحانه, ليثبتوا الذين آمنوا (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا), ومن الذي يملك أن يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب إلا الله, وهي حالة نفسية لا يقدر على إحداثها أحد غيره (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ..) , ويأمر القوي العزيز ملائكته أن تضرب, ويحدد لها كيف وأين تضرب (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12))
إن الأسباب الحقيقية للمعركة, وللنصر فيها, هي أن الله يعاقب من شاقّوا الله ورسوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) إنه سبحانه وتعالى لديه عذاب النار في الآخرة ولا يملك ذلك إلا هو. وهو يرهب الكافرين من الغيب الذي ينتظرهم.(ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
ما هو دور المقاتلين؟
إن إدارة المعركة وتوجيه أسلحة الملائكة والمطر والريح كل ذلك بيد الله, وما المقاتلون إلا أدوات بين يديه يحقق بهم أو بغيرهم مشيئته.
من هنا فإنه يأمر الذين آمنوا بأوامر لصالحهم, ليحظوا بشرف القتال في سبيل الله, والدفاع عن دينه, وليكونوا قدر الله الذي يؤدب به الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله, والله غالب على أمره, بهم وبغيرهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
وبعد تأكيدات الله أنه وحده الذي يسبب الأسباب ويحرك الكون كله والملائكة نصرة لدينه ولعباده الصالحين, فإن التولي عن الزحف بعد ذلك يكون كبيرة عظمى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16))
بل إن ما يتحقق من قتل للذين كفروا, إنما يفعله الله وحده, حتى الرمية التي يرميها الواحد من المقاتلين في سبيل الله, إنما يرميها الله ويصيب بها هدفه ومراده (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)) وحين رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفنة من الحصى تجاه جيش الذين كفروا في غزوة بدر, أصيب كل واحد منهم, ولا يقدر على تحقيق تلك الإصابات إلا الله وحده.
وعلى الجانب الآخر, يمكن أن يستعد المقاتلون في سبيل الله, ويبلون بلاء حسنا في المعركة, إلا أن الطرف الآخر المقاتل لهم وهم الكافرون, لهم أيضا كيد وقوة, فمن يوهن كيدهم وقوتهم؟؟ إنه الله وحده لا شريك له (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
إن مالك الملك القوي العزيز بيده ملكوت كل شيء, حين يتوجه الكافرون له أن ينصرهم على أنهم أصحاب الحق والغلبة والقوة, فإن الله لا يحقق لهم ذلك, وإنما يجعل الفتح للمؤمنين
ثم يخاطب الذين كفروا (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) وفي كل لحظة, فإن طريق العودة مفتوح للكافرين, (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ..) ويكون الله مع المؤمنين حتى لو كثرت فئة الكافرين, (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) ومن يملك ذلك إلا الله؟؟؟
وكما هو واضح في كل مراحل الدعوة, وفي كل مراحل القتال, أن انتهاء الذين كفروا عن العداء والمواجهة لدين الله, ينهي المعركة ويحقن الدماء, واستمرارهم في العداوة يستوجب الاستمرار في المواجهة المسلحة حتى تنتهي لصالح المؤمنين بإذن الله.
طاعة الله أقوى سلاح:
أبعد كل هذه التدخلات من الله, والتي لا يقدر عليها غيره, هل يطيع الذين آمنوا أحدا غير الله؟؟
إنه يأمرهم بالطاعة, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ …) وهي السلاح البتّار الذي يجعل نصر الله معهم إن هم أطاعوه, على أن تكون طاعة حقيقية, بعد سمع, أي السمع والطاعة (.. وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)). إن هداية الله كلام يدخل أول ما يدخل للإنسان من سمعه, فإن تولى الإنسان فلم يترك لنفسه فرصة لسماع هدْي الله, فإنه لن يصل إلى الهدي. كما أنه لو تظاهر بالسمع ولكنه لم يسمع حقيقة, فإنه أيضا لا يصل إلى هدْي الله (.. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)), ويكون عندئذ شرّ الدوابّ: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)), فإن سمع الإنسان المؤمن فليستجب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)) فدعوة الله ودعوة الرسول فيها الحياة الحقيقية للقلب والعقل, بعد حياة البدن التي يستوي فيها الخلق جميعا.
والمجتمع المؤمن متكافل كالبنيان المرصوص, يشد بعضه بعضا, لا يصلح فيه استجابة البعض وعصيان البعض, فالفتنة العامة حين تصيب لا تختار من الناس الذين ظلموا خاصة, وإنما تصيب الجميع. إنها مسئولية تكافلية للجميع عن الجميع. فالهزيمة في الحرب, والعذاب الأدنى الذي يصيب الله به الناس في الدنيا, كالزلازل والبراكين والعواصف والأعاصير, والأوبئة والأمراض والحشرات الضارة وأحوال الطقس, والحاكم الظالم, كل ذلك يصيب الجميع بلا استثناء, لهذا يقول الله سبحانه (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)) كما يقول في سورة الأعراف (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه, والذي خبث لا يخرج إلا نكدا). ومن هذه الزاوية فإن نصيحة رسول الله صلّى الله عليه وسلم للأمة ألا تترك منكرا فيها دون تغيير (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان) ومن هنا أيضا, فإن الله سبحانه يقول: (لعن الذين كفروا من أهل الكتاب على لسان داوود وعيسى بن مريم, ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه, لبئس ما كانوا يفعلون). إنها مسئولية تكافلية تضم الجميع, وتركها يهدد الجميع.
ويذكّر الله عباده الذين آمنوا بمنّته عليهم ونعمته, (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) حيث آواهم من فرقة, وأيدهم بنصره من ضعف واستضعاف وآمنهم من خوف, ورزقهم من فقر وحاجة, كل ذلك يستوجب الشكر وأداء حق النعمة لله, كما قال موسى لقومه في سورة إبراهيم (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم, ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)
فإن سمع الذين آمنوا, فاستجابوا, وتكافلوا فلم يسمحوا لبعضهم بالمعصية, واتقوا الفتنة, ثم تذكروا نعمة الله عليهم فشكروه, فإن الخوف بعد ذلك يأتي من خيانة الله والرسول, وخيانة الأمانات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27))
ويكون السقوط في فتن الدنيا هو الباب للخيانة, فيحذّر الله (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
ولا يخلو الأمر من أخطاء بجهل, أو سيئات ترتكب, ويكون علاجها في التقوى, وتجنب ما يغضب الله في كل أمر وكل وقت, فإن اتقى الذين آمنوا, فإن الله يساعدهم في القضاء على تلك الأبواب من الجهل والسيئات: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29))
هنا يصل المجتمع المؤمن إلى الاستقرار الإيماني, وتتوافر له مفاتيح الإصلاح والصيانة لما يفسد, فهو مجتمع يسمع ويطيع ويعقل, ويستجيب لدعوة الإحياء, ويتكافل ويتكاتف في مواجهة أخطاء البعض منه, ثم هو لا يخون الله والرسول ولا يخون الأمانات, ويتجنب فتن الأموال والأولاد, ويتقي؛ فيجعل الله له فرقانا ويكفر عنه سيئاته ويغفر له, والله ذو الفضل العظيم.
وقد لخص عمر ابن عبد العزيز فهمه لهذه المعاني بوصيته لبعض قادته: (عليك بتقوى الله على كل حال تنزل بك، فإن تقوى الله أفضل العدة وأبلغ المكيدة وأفضل القوة, ولا تكن من شيء من عداوة عدوك أشد احتراسا لنفسك ومن معك من معاصي الله، فإن المعاصي أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوهم, وإنما نعادي عدونا ونستنصر عليهم بمعصيتهم، لأن عددنا ليس كعددهم وقوتنا ليست كقوتهم، وإلا ينصرنا الله بحقنا لا نغلبهم بقوتنا…واعلموا أن عليكم ملائكة لله، حفظة عليكم، يعلمون ما تفعلون في مسيركم وفى منازلكم، فاستحيوا منهم وأحسنوا صحبتهم، ولا تؤذوهم بمعاصي الله… وسلوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه العون على عدوكم..)