وبعد أن يثبت الله الذين آمنوا ويجعل لهم أسباب التماسك الداخلي الشديد القوي, يأتي الخطر من خارج المجتمع المؤمن, يأتي من الذين كفروا, حيث يتآمرون ويمكرون, ولكن الله يكون لهم بالمرصاد….
إن الهدف الرئيس من مواجهة الذين كفروا ليس الغنيمة منهم, وإنما هو هدايتهم إلى طريق الله وآياته… فلا يبدأ العلاج بمقاتلتهم, فهناك خطوات تسبقه, تدعوهم للاهتداء بهدي الله, حتى إذا لم تُجدِ تلك الخطوات, وظل الذين كفروا على عداوتهم وتربصهم, فإن القتال عندئذ يكون هو الحل الحتمي, الذي يستهدف أيضا ردهم إلى الحق, كما يستهدف كف أذاهم عن المؤمنين.
ويبين الله أخطار الذين كفروا, كما يبين كيفية مواجهتها لإصلاحهم وهدايتهم, ومنعهم من تحقيق أهدافهم الشريرة:
مكر: فأمام مكر الذين كفروا, يبدأ الله بحماية الذين آمنوا والدفاع عنهم: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
والمكر: التدبير في الأمر في خفية. والمكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من حيث لا يشعرون.. ومعنى «لِيُثْبِتُوكَ» “ليحبسوك”.
إغلاق: ثم يقدم الله العلاج للذين كفروا, فييسر لهم آياته تتلى عليهم لعلهم يهتدون ولكن قلوبهم المغلقة ترفضها: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) ولكن علينا أن نتلو آيات الله عليهم, فقد قال الله (وإذا تتلى..) ولم يقل (وإن تتلى..) وهدايتهم على الله كما يشاء سبحانه.
تشكك واستجلاب للعذاب: فإن وصلوا إلى قناعة بالحق, فإن بعضهم يتشككون فيه ويجهلون على الله فيطلبون عذابه بدلا من أن يطلبوا هدايته إليه: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ورغم ذلك فإن الله يعطيهم فرصا أخرى, فلا يعذبهم وفيهم رسول الله, ولا يعذبهم وهم يستغفرون: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
صد عن المسجد الحرام وكفر وإفساد: إن الكافرين يصدون عن المسجد الحرام, ويفسدون على الناس صلاتهم فيه (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35), والمكاء الصفير والتصدية التصفيق.
إنفاق للصد عن سبيل الله: فإن ازدادت عداوة الذين كفروا وبدءوا في توجيه أموالهم ليصدوا عن سبيل الله, فإن الله ينذرهم بالحسرة والهزيمة, ثم بجهنم يحشرهم إليها: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
ليميز الله الخبيث من الطيب: وتكون تلك فرصة ليميز الله الخبيث من الطيب, فطالما كان هناك بعض من الذين كفروا في عداوة شديدة واستعداد لمواجهة الذين آمنوا, فإن هناك من يستقطب إليهم, وينضم إليهم, وتغريه أموالهم, كما أن هناك من الذين كفروا من يستجيب لآيات الله ودعوته للهداية؛ وفي النهاية فإن الله يميز الخبيث من الطيب: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
دعوة للمغفرة, ونذير لمن يعود: ويظل الله سبحانه يمنح من الفرص للذين كفروا قبل القتال وقبل جهنم, فيكفيه منهم أن ينتهوا عن الكفر والعداوة حتى يغفر لهم ما قد سلف, (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ..) فإن هم رفضوا فإن ما حدث لسابقيهم في التاريخ سنة من سنن الله لا تتغير, حيث يهلك الذين كفروا, مهما تقلبوا في البلاد, ومهما علا شأنهم لبعض الوقت: (.. وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38))
وربما كان معنى (يغفر لهم) أي يغفر الذين آمنوا للذين كفروا عداءهم إن هم انتهوا عنه, حتى لو ظلوا على كفرهم. وفي سورة الجاثية: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)
ويقول القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوۤا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ ٱلأوَّلِينَ} يريد إلى القتال؛ لأن لفظة «عاد» إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها. قال ابن عطية: ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال. ولا يجوز أن يتأوّل إلى الكفر؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه(انتهى) ويكون القتال بذلك بهدف أن ينتهي الذين كفروا عن المواجهات العسكرية.
هنا, وبعد كل تلك الفرص والإمهال, فإن من ظل على كفره وعداوته ومكره للذين آمنوا ولهداية الله, يجب عندئذ مقاتلته وصده حتى لا تكون فتنة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ..) فلو انتصر الذين كفروا فسوف يحكمون ويتحكمون ويقيمون الولاء لأنفسهم ولنظمهم, ويفسدون على المؤمنين شريعتهم وحريتهم, فتكون فتنة, وهذا ما حدث لكل المؤمنين في ظل الاتحاد السوفييتي, وللمسلمين في ظل حكم الملوك الكاثوليك في إسبانيا, وللمسيحيين في ظل الدولة الرومانية, وغيرها من الأمثلة في التاريخ, ولذلك فإن مقاتلة الذين كفروا حتى النصر؛ فريضة ليكون الولاء كله لله ولشريعة الله, ففي ظل شريعة الله الحاكمة للمجتمع وللدولة, وللعالم, فإن حرية العقيدة مكفولة, ودور العبادة بكل أشكالها ولكل طوائف أهل الكتاب محفوظة ومحمية, ولا إكراه في الدين (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا..) .
ومازالت الفرصة سانحة لإيقاف المواجهات وحقن الدماء حتى بعد بدء القتال: (.. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
فإن أخفقت كل المحاولات السلمية والقتالية مع الذين كفروا لينتهوا, فتولوا واستمروا على عداوتهم, فإن الله يطمئن الذين آمنوا أنه مولاهم: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
فارق جوهري:
إذن, فالمواجهة بين الإيمان والكفر, تستهدف أساسا هداية الذين كفروا, وردهم بكل الوسائل الممكنة إلى هدْي الله, ويكون القتال خيارا أخيرا للمواجهة, حتى لا تكون فتنة, ويكون الدين كله لله, ويتوقف القتال عند كل مبادرة لانتهاء الذين كفروا عن الكفر والعداوة. إن هذا فارق جوهري في أهداف المواجهة بين الإيمان والكفر؛ فالذين كفروا يستهدفون الصد عن سبيل الله والضرر, ولكن الذين آمنوا يستهدفون الهداية للذين كفروا, يستعينون على ذلك بتلاوة آيات الله عليهم, وبإنذارهم بعذاب جهنم, وبالمغفرة على ما قد سلف من عداوة إن هم انتهوا, ثم بتهديدهم بمصائر سابقيهم من الأولين, ويظل باب العفو مفتوحا لا يغلق في أي مرحلة من مراحل الصراع السلمي أو القتالي, فينتهي الصراع عند أول بادرة من الانتهاء من العداوة, وعند أول توجّه للاستجابة لهدْي الله وآياته. وفي نفس الوقت؛ فإن الذين آمنوا يسمعون ويطيعون ويستجيبون لدعوة الله والرسول, فيقاتلون حين يأمرهم الله ويتوقفون عن القتال حين يأمرهم الله فلا يتركون أنفسهم لحماسة القتال والاستمرار في إراقة الدماء, ولا يستهدفون قتلا ولا أنفالا, وإنما يستهدفون هداية الله لعدوهم, ويكونون بآيات الله على ثقة من أن النصر من عند الله, وأنه سبحانه هو مولاهم فنعم المولى ونعم النصير.